ابن تيمية .. المنظار المُغيّب
حرّك استهداف الإمام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، في إعلامٍ عربي محسوب على الثورة المضادّة، جدلا سياسيا واجتماعيا حادّا، وحوارات فكرية جادة لكنها قليلة، تناولت إرث ابن تيمية البارز في تاريخ التراث الشرعي للمسلمين، المشتبك مع قضايا كبرى، وخصوصا زحف التتر المدمر للشرق الإسلامي، ومواقفه السياسية، ورؤى فكريةٍ وفقهيةٍ، مجرد استعراض عناوينها، يحتاج زمنا طويلا، فضلاً عن حصر الرجل بمعيار الرؤية المحدودة، لزاوية مختارة من شخصيته. ولكون الأمر بالغ التعقيد، نرتب المسألة في مسارين، من عدة محاور:
أولا، الهجوم على ابن تيمية وشخصيات تصنّف من أعمدة التراث السُني جاء بناءً على سياقات سياسية محدّدة، تخوضها الثورة المضادّة، وبالذات فكرة التغير التي طرأت على الموقف السعودي من “الإسلام السني”، واستخدام هذا المصطلح هنا لتقريب زاوية النظر، وليس لأن هناك إسلامات متعددة.
ثانيا، تزامن هذا الهجوم مع مشروع إعادة تشكيل المنطقة العربية فكرياً، الذي يناسب خطاب التطبيع مع الفكرة الصهيونية ذاتها، وليس فقط مع الاقتصاد الإسرائيلي، وبالتالي لم يكن ضمن توجّه أكاديمي بحثي حر، أو إنتاج إعلامي مستقل، يعكس حياة الإمام ابن تيمية رحمه الله.
المسؤولية في عرض شخصية ابن تيمية لا يمكن أن تمر من دون فرز الآلية وإنما في فهم شخصه وفكره وظرفه
ثالثا، وبالتالي ما جرى كان ضمن اندفاع المشروع الجديد الذي يحتاج لشيطنة ابن تيمية رابطا تراثيا يُتكأ عليه، بحكم الأرضية التي صُنعت لابن تيمية، في العهد السابق الذي سنتناوله، ولم يكن مطلقاً، لرد الاعتبار لفكر إسلامي معرفي، أو أخلاقي موافق لابن تيمية أو مخالف له، يُنظّم الفكر الإسلامي في سياق النهضة التي تحمل العرب من المرض إلى التشافي، ومن العلل إلى الدواء.
رابعا، بناء على ذلك، استخدام الإمام ابن تيمية لهذا الغرض مرفوضٌ مبدئياً في سماء الفكر، كونه وظيفة تحريض سياسي على جماعاتٍ أو مجتمعات، وتشريع قتلها أو حصارها، وتنفيذ كل مساحة عنفٍ ضدها، باسم أن ابن تيمية الأب الروحي المزعوم لهذا الفكر عند مؤيديه الجهاديين والتربويين والفقهيين، وهم اليوم خصومٌ للمشروع الآخر.
حالات الانحطاط والصراع بين المدارس المذهبية، والتحريض المتبادل بينها، هو حالة شذوذ وانحراف عن البنية الأخلاقية المطالب بها طالب العلم، أو المنبر الثقافي الشرعي
هذا كان المسار الأول، لكنه لا يُغطّي كل الحقيقة، في الموقف من فكر الإمام ابن تيمية، وقبل المضي إلى المسار الثاني يجدر إيضاح أن حالات الانحطاط والصراع بين المدارس المذهبية، والتحريض المتبادل بينها، هو حالة شذوذ وانحراف عن البنية الأخلاقية المطالب بها طالب العلم، أو المنبر الثقافي الشرعي. والثاني أن التلاعب السياسي بتوجهات المذاهب الإسلامية، بل إيجاد ملاحق لهذه التوجهات، كان غالبها توظيفات سياسية خبيثة، منذ العهد الأموي حتى العهد العثماني، مارستها عدة جماعات مذهبية وتورّطت فيها… ولننظر الآن إلى التعامل مع الإمام ابن تيمية، برؤية الفكر المستقلة:
أولا، يمثل الإمام ابن تيمية شخصية العالم المتنوع الموسوعي، المتمسّك بمواقفه، الجانح إلى طرح رؤيته، مهما صادمت السائد الديني الفقهي، وذلك عرّضَه للاضطهاد والتحريض. غير أن تلك المعارك ساهمت في أن يكون خطابه، في أحيانٍ أخرى، شديد البأس والقسوة، يفتح التأويل ضد من يخالفه، هذا داخل ما تُسمى المدارس السنية، فضلاً عن الموقف من الأقليات الدينية.
ثانيا، هذا النوع من الخطاب طُوّر كثيراً بعد الإمام ابن تيمية، وخاض حربه في ثلاثة اتجاهات رئيسية: الموقف من التضليل العام لأهل “السُنّة”، ويشمل المدرسة الحنبلية الأخرى، المخالفة للإمام ابن تيمية. والثاني موقفه مع علوم المعرفة والفكر، حيث اعتُبر عدواً للفلسفة الإسلامية، بحسب زعم هذه المدرسة المؤيدة له، وخصماً لكل الرؤى المعرفية التي تصدر منها. الثالث جدل التوحش في الألفاظ في قضايا الأقليات وفي مفهوم “التجسيم” في قضايا الألوهية، والذي توسع مذهبياً، عبر صراع الجماعات العقائدية. ثم أُضيف إليه حشد من المواقف والرؤى عن التصوف وغيره، لا تكاد تقفُ عند كثير من دعاوى مؤيديه ذوي التعصّب، ثم تعود إلى الإمام ابن تيمية إلا وجدت له مندوحة في غالبيتها الكبرى، تُنقذه من فرية مؤيدّيه، بل تدحضها، فضلاً عن خصومه.
التلاعب السياسي بتوجهات المذاهب الإسلامية، بل إيجاد ملاحق لهذه التوجهات، كان غالبها توظيفات سياسية خبيثة
ثالثا، ظل الموقف من الإمام ابن تيمية يراوح بين الإلهام والتطرّف، في رأي المدارس السنية، وبين نقد نوعي لألفاظه وكليّاته ورؤى متقدمة في إنسانيتها ومدنيتها، كلفظ الطلاق والقول الأخير في أهل النار، على سبيل المثال. فضلا عن جدله الفلسفي مع فلسفة المدارس الإسلامية التي تشير إلى عمق وفهم، في مداولاتها، لكن ذلك كله كان لا قيمة له، إلا عبر الملاعنة لمخالفيه من مؤيديه الجدد.
رابعا، بعد تبني المنظومة السعودية الإمام ابن تيمية، قفز المسار كلياً، فقد كانت الدعوة الوهابية (بغض النظر عن تقييمها الكلي، واضطهاد بعض جماعاتها المرفوض، بعدما كشفت الرياض ظهرهم)، تحتاج إلى رابطٍ مع إحدى المدارس السنية الثلاث: الأشاعرة والماتوردية وأهل الأثر، التي كان يُعنى بها، مدرسة الإمام أحمد بن حنبل المتفق عليه. ولكن صراع الوهابية كان يقوم على مواجهة العالم السُنّي ذاته، وخصوصا بعد الدور السعودي الثالث، فقد دُشن المذهب الجديد، وبدأ مشروعه بمذبحة علماء “السنة” في الأحساء، 1812، واستُخدم تسلسله مع الأمام ابن القيم، وبالذات “النونية العقائدية” التي اعتبرت “بلاغ تكفير” وانفصالا يبرّر الحرب على العالم السُنّي.
خامسا، وخلال أكثر من سبعة عقود، التزمت السياسة السعودية، في كل مؤسساتها، ومنظوماتها الأمنية والاجتماعية والإعلامية، بهذه المذهبية، وبتنظيم الولاء والبراء عبرها، واخترقت أكبر الجماعات الإسلامية، والمهجر الغربي. وفرضت الخط الشرعي على كل بقعة وصل نفوذها إليها، وحوصر الأزهر والزيتونة، والعهد المغربي الفكري والفقهي والصوفي، والعهد الإسلامي العريق لآسيا الهندية. وتمكّنت الداخلية السعودية من صناعة قواعد ثقافية واسعة لها، قبل إنشاء “الذراع الجامي”، بقرار الأمير نايف بن عبد العزيز. ولذلك فإن المسؤولية في عرض شخصيته لا يمكن أن تمر من دون فرز الآلية، وإنما في فهم شخصه وفكره وظرفه، وفقا لمعادلة المعرفة الإسلامية المنصفة.