هل كان ابن تيمية الأب الروحي للجهاديين؟
لا يزال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية (728 هـ) -رحمه الله- شاغل الناس ومالئ الدنيا علمًا وجدلاً؛ لأسباب عديدة، فالمذهبيون يأخذون عليه تفرده باجتهادات فقهية لم يُسبق إليها (كالطلاق الثلاث، وشد الرحال إلى المسجد النبوي…).
رغم أنه في الأعم الأغلب كان يلتزم مذهب أحمد بن حنبل وله فيه اختيارات خالف فيها المذهب؛ ولا غرو في ذلك فقد بلغ مرتبة الاجتهاد (المجتهد داخل المذهب) كما بلغها معاصره في دمشق الإمام تقي الدين السبكي الشافعي.
أما الأشاعرة فيأخذون عليه نقده الشديد لعقائدهم وبعض أئمتهم، وأصحاب الأديان والعقائد والطوائف المختلفة يأخذون عليه كتاباته السجالية التي اعتنت بمناقشة عقائدهم وإبطال مذاهبهم، وإن كان له في الردود العقدية سلفٌ أسسوا لهذا النوع من النقاشات الكلامية التي صار يختص بها فرعٌ معرفيٌّ في العقائد والأديان.
وفي العصر الحاضر حدثت خصومةٌ جديدةٌ لابن تيمية، يمثلها بعض الأنظمة السياسية والمشايخ الذين يلوذون بها؛ نظرًا للنموذج الثوري الذي يقدمه ابن تيمية؛ فقد كان شخصية ثورية بامتياز. لم يكن عالمًا تقليديًّا يكتفي بالقراءة والبحث والدرس.
بل كانت له مواقف سياسية مشهودة، وشارك بنفسه في الجهاد إلى جانب الجيش في قتال التتار والدفاع عن دمشق، وحين سمع الناس بمَقدم التتار وهرب الأعيان وبعض المشايخ، حرّض الناسَ على الجهاد وكان يطوف بهم على الأسوار يتلو عليهم آيات الجهاد ويشد من عزيمتهم.
وداخليًّا حرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمنه، وكانت له هيبة وسلطة معنوية كبيرة يهابه فيها الناس والحكام على السواء.
ففي سنة 699 هـ قَصد جيشُ التتار دمشق، فاتفق أعيان البلد وابن تيمية على المسير إلى القائد التتري قازان ليأخذوا منه الأمان لأهل دمشق. فلما اجتمعوا به كلمه ابن تيمية كلامًا وصفه تلميذه الحافظ والمؤرخ ابن كثير بأنه “قويّ شديد، فيه مصلحةٌ عظيمة عاد نفعها على المسلمين”.
ولكن شخصًا آخر شهد الاجتماع -وهو أبو بكر ابن قوام البالسي (718 هـ)- يقول: إن ابن تيمية قال لمترجم قازان: قل له: “أنت تزعم أنك مسلم ومعك مؤذنون وقاض وإمام وشيخ -على ما بلغنا- فغزوتَنا ودخلتَ بلادنا على ماذا؟ وأبوك وجدك هولاكو كانا كافرين، وما غزوَا بلاد الإسلام بل عاهدا فَوَفَيَا، وأنت عاهدتَ فغدرتَ، وقلتَ فما وَفَيتَ!”.
ثم “قُرّب إلى الجماعة طعام فأكلوا منه إلا ابن تيمية. فقيل له: ألا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتُم من أغنام الناس وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس؟”.
يقول ابن قوام: “ثم إن قازان طلب منه [ابن تيمية] الدعاء، فقال في دعائه: اللهم إن كان عبدك هذا محمودٌ إنما يقاتل لتكون كلمتك هي العليا، وليكون الدين كله لك: فانصره، وأيده، وملِّكه البلاد والعباد.
وإن كان إنما قام رياء وسمعة وطلبًا للدنيا ولتكون كلمته هي العليا، وليُذِل الإسلام وأهله: فاخذله وزلزله ودمره واقطع دابره”. كل هذا “وقازان يؤمّن على دعائه ويرفع يديه”. أما أصحاب ابن تيمية في الوفد ففي أشد ما يكون من الوجل والضيق بفعله، حتى إنهم قرروا بعد ذلك ألا يصحبوه!
هذه الشخصية الثورية شكّلت مَعينًا للفكر الجهادي عامةً، خاصة مع ضمور مثل هذه المواقف في الزمن الحاضر، ومع تَحول عدد من المشايخ إلى سدنة وأعوان للأنظمة القائمة على ظلمها، ولذلك لم يكن غريبا أن تُشنّ حملة ضده من قبل مشايخ السلطة تحديدا، فإنك إن فتشتَ بينهم لا تكاد تجد فيهم واحدا من أصحاب المواقف المشهودة بالحق.
بل على العكس، عامتهم ممن ساند الظلمة وأعانهم بفتوى أو كلمة أو وظيفة. فسِرُّ جاذبية ابن تيمية عند الجهاديين هو نفسه سِرّ مثلبته عند الأنظمة الاستبدادية ومشايخها، وقد قرر -مثلاً- نظامُ حافظ الأسد منع كتبه وفتاواه زمنًا طويلاً، ولذلك لم يتسنّ لي شخصيًّا قراءة ابن تيمية إلا بعد أن خرجت من دمشق مطلع عام 2000، وحاليًّا قرر نظام السيسي وإعلامه ورجاله شن هجومٍ شديد ومبتذل على شخصية هذا الإمام المتفرد!
هذه الشخصية الثورية شكّلت مَعينًا للفكر الجهادي عامةً، خاصة مع ضمور مثل هذه المواقف في الزمن الحاضر، ومع تَحول عدد من المشايخ إلى سدنة وأعوان للأنظمة القائمة على ظلمها، ولذلك لم يكن غريبا أن تُشنّ حملة ضده من قبل مشايخ السلطة تحديد
لا يتحمل ابن تيمية تَبعة استخدام فتاويه من قبل الجهاديين في العقود الماضية؛ لأننا لو مشينا على هذا المنطق فسيجرنا إلى كل الاقتباسات التي وقعت من القرآن الكريم فضلاً عن غيره، كما أن الفاصل التاريخي الذي يمتد لقرون بين فتاوى لابن تيمية وبين تطبيقاتها المعاصرة كافٍ وحده لتحميل كامل المسؤولية لمن يستخدمونه لا له.
فالمسؤولية في النهاية هي مسؤولية مؤول لا مفتٍ؛ لأننا نعرف أن الفتوى تختلف عن الحكم في أنها واردة على سياق خاص وملابسات خاصة وليست حكمًا عامًّا، فضلاً عن أن ابن تيمية حاضرٌ في كتابات الإصلاحيين الكبار -أمثال محمد عبده ورشيد رضا- بشكل أقوى مما هو حاضر في كتابات الجهاديين (وسأخصص مقالاً لهذا لاحقًا).
لكن لو اقتصرنا على حضور ابن تيمية في كتابات الجهاديين (أي المنتسبين إلى الجهاد) فسنجد أن له حضورًا مميزًا وانتقائيًّا، مما يجعلنا أمام جوانب متعددة لشخصية ابن تيمية التي تتشكل بحسب توجهات وميول المقتبسين عنه.
فهو مع الجهاديين عنيف ومع اللامذهبيين لا مذهبي، ومع الإصلاحيين مجتهد خارج على التقليد، ومع ناقدي الفلسفة اليونانية فيلسوف نقدي، ومع فقهاء التيسير على الناس إمام المفتين (كثير من فتاوى الطلاق والجمع بين الصلوات للمسافر دون تقييد بمدة وغيرها، إنما تجري على مذهبه).
وحين أرّخ أبو مصعب السوري للفكر الجهادي المعاصر جعله على ثلاث مراحل: في الأولى وضع سيد قطب “الأسس الفكرية للتيار الجهادي” إلى منتصف الستينيات، وكانت إضافات الإخوان المسلمين “مجرد تكرار وتفسير وإعادة صياغة”.
و”لم تكن -في معظمها- ذات نفَس جهادي”. وفي الثانية وقعت الإضافات الفقهية التفصيلية أواخر السبعينيات عبر الاستعانة بفقه الإمام ابن تيمية “كأساس للفقه الجهادي على يد تنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر”. وفي الثالثة أضيف إلى ذلك ما “طرحته مكتبة الأفغان العرب أواخر الثمانينيات”، وكانت “تكراراً للفكر القطبي الحركي، والفقه السلفي من تراث المدرسة الوهابية”.
لو اقتصرنا على حضور ابن تيمية في كتابات الجهاديين فسنجد له حضورًا مميزًا وانتقائيًّا، مما يجعلنا أمام جوانب متعددة لشخصيته التي تتشكل بحسب توجهات وميول المقتبسين عنه، فهو مع الجهاديين عنيف ومع اللامذهبيين لا مذهبي، ومع الإصلاحيين مجتهد خارج على التقليد، ومع ناقدي الفلسفة اليونانية فيلسوف نقدي، ومع فقهاء التيسير على الناس إمام المفتين
أي أن ابن تيمية يحضر هنا في إطار التأسيس للجانب الفقهي لدى الجهاديين. ولكن ما الذي قدمه ابن تيمية في اختياراته التي استقل بها (لنتذكر أنه في معظم فقهه حنبلي) مما يدعم الفكر الجهادي؟ سنجد فتاويه بشأن قتال التتار الذين استولوا على عدد من البلاد ووصلوا دمشق، وتحديدًا فكرتين مركزيتين: فتواه بشأن الحكم بالياسق، وفتواه بشأن قتال الطائفة الممتنعة.
وبين عامي (1979-1981) دشن محمد عبد السلام فرج بكتابه “الفريضة الغائبة” الأساس النظري للفكر الجهادي، وقد استعان -لأول مرة- بفتاوى ابن تيمية في قتال التتار وأسقطها على النظام المصري الحاكم. ورغم اعتراف بعض منظري الجهاد ببساطة الكتاب، إلا أنه كان مهمًّا وتأسيسيًّا لجهة احتوائه على “أهم فتاوى الجهاد المعاصر ضد الحكومات القائمة… وقياس أحوالها على فتاوى ابن تيمية في قتال التتار”، كما يقول أبو مصعب.
فما قصة الحكم بالياسق؟ سئل ابن تيمية عن “رجل تولى حكومة على جماعة من رماة البندق ويقول: هذا شرع البندق …”، فأجاب أنه “… من حكم بحكم البندق وشرع البندق أو غيره مما يخالف شرع الله ورسوله وحكم الله ورسوله وهو يعلم ذلك: فهو من جنس التتار الذين يقدمون حكم الياسق على حكم الله ورسوله”.
استخدم فرج هذه الفتاوى لتكفير الأنظمة القائمة؛ لمجرد حكمها بالقوانين الوضعية، ثم دأب منظرو العنف فيما بعد على إسقاط الوقائع التاريخية والفتاوى على الدول المعاصرة بقطع النظر عن سياقها وشروط حملها على غيرها من الوقائع، وما إذا توفر في الفرع المقيس عليه العلة نفسها التي توفرت في الأصل المقيس. فقد ركّب فرج على فتوى التتار حكمًا بكفر النظام الحاكم وأن الدار تحولت إلى دار كفر.
والياسق سياسات ملكية مأخوذة من ملك التتار جنكيز خان، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والإسلام وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره الشخصي.
ورغم أن التتار تقلبوا في أحوالهم الدينية، فقد كانوا في الأصل قومًا وثنيين وتظاهروا بالإسلام فيما بعد، ومن الواضح أن ابن تيمية لم يكن مقتنعًا بصدق إسلامهم، وقد ارتكبوا من الجرائم والفظائع ما جعلت المؤرخ ابن الأثير الجزري (630 هـ) ينعى لأجلها الإسلام والمسلمين، ووصفَ من جرائمهم أن “هؤلاء لم يُبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنّة”، وقال: إن “التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها”.
أما ابن تيمية فقال عنهم: “اعتقاد هؤلاء التتار في جنكيز خان كان عظيمًا؛ فإنهم يعتقدون أنه ابن الله من جنس ما يعتقده النصارى في المسيح”. أي أنهم جمعوا بين العقائد الفاسدة والظلم والإجرام، ومن ثم رأى العلماء في ذلك العصر أن تظاهر التتار بالإسلام -فيما بعد- مع حكمهم بالياسق لم يُغيّر من حقيقة الأمر شيئًا؛ لأنهم رأوا من الدلائل الظاهرة ما يتنافى مع ادعائهم.
فكيف تقاس حالة الدولة المصرية المعاصرة على حالة التتار؟ ثم كيف يمكن تحميل ابن تيمية وزر تصرفات هذه الحركات؟ هذا لو تجاهلنا التطورات السياسية التي وقعت في شكل ونظام الحكم والقوانين التي نشأت وغيرها مما فرضه السياق التاريخي المغاير لزمن ابن تيمية.
رغم أن التتار تقلبوا في أحوالهم الدينية، فقد كانوا في الأصل قومًا وثنيين وتظاهروا بالإسلام فيما بعد، فمن الواضح أن ابن تيمية لم يكن مقتنعًا بصدق إسلامهم
ثم إن مجرد الحكم بالقوانين الوضعية (بغض النظر عن تقويم صلة هذه القوانين بالشريعة) لا يقتضي عند الفقهاء الكفر كما شرحت في كتابي “العنف المستباح”، ولكن هذه بدعة نشأت أول ما نشأت لدى بعض أئمة الدعوة النجدية مع نشوء الوهابية. فخلاصة الأمر أن التركيبة التي يقدمها فرج في هذا الكتاب هي تركيبة خاصة به وُظف فيها ابن تيمية في جزئيات محددة فقط تتكلم على التتار، أسقطها فرج على الدولة المصرية.
المسألة الثانية: الفتوى التي تحدث فيها ابن تيمية عن قتال الطائفة الممتنعة عن أداء بعض الواجبات، فقد اقتبس فرج من ابن تيمية قوله: “وقد اتفق علماء المسلمين على أن الطائفة إن امتنعت عن بعض واجبات الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالها”، ثم جاء أبو بكر ناجي فاستدل بآية “وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ” لتسويغ الخروج على المجتمع المسلم وقتاله.
وقال: “قال أهل العلم تعليقاً على هذه الآية: إن ذلك ليس فقط في من يستحل الربا؛ بل وفي من فعَله؛ فقد اتفقت الأمة أن من يفعل المعصية يحارَب كما لو اتفق أهل بلد على التعامل بالربا”.
أصل الكلام أن ابن تيمية كان يجيب سؤالا عن “أجناد يمتنعون عن قتال التتار ويقولون: إن فيهم من يخرج مُكرهًا معهم”، أي أن السائل يسأله عن واجبات الجند وتورع بعضهم عن قتال التتار الذين قدموا إلى بلاد الشام، ومن جهة أخرى يتحدث ابن تيمية عن “الطائفة الممتنعة إذا امتنعت عن بعض واجبات الإسلام الظاهرة المتواترة”، ثم يختم بأن هؤلاء “التتار وأشباههم أعظم خروجًا عن شريعة الإسلام من مانعي الزكاة والخوارج”.
آفة الفكر الجهادي أنه خرج على قانون الفقه بانتقائيته الشديدة، ورَكّب صورة مُحدثة لم تكن في الفقه، فجمع هنا بين مستويين: نظري وعملي، فعلى المستوى النظري أَسس فكرة الحاكمية وما نَتَج عنها من تكفير للحكام والأنظمة، وعلى المستوى العمليّ: لما كفّروا الحكام والأنظمة، أسقطوا ولايتهم ونَهَضوا بوظائفهم الثابتة لهم فقهًا
و”الطائفة الممتنعة” أي التي لها مَنَعةٌ، أو كما عبر في موضع آخر “التي لا يُقْدَر عليها إلا بقتال”، فالامتناعُ هو الخروج عن السلطة الشرعية، ولذلك مثّل بمانعي الزكاة والخوارج، وقتال هؤلاء يكون تحت قيادة الإمام وللحفاظ على الجماعة، لا باجتهادٍ خاصّ صادرٍ من غير أهله في غير محله، والمقاتلة ليست هي القتل.
ويقرر ابن تيمية بوضوح أن الشريعة التي أوجبت قتال الكفار (أي المحاربين) “لم توجب قتل المقدور عليهم منهم”، أي الخاضعين للسلطة، ويحدثنا الفقيه الحنفي ابن عابدين عن معنى شبيه بهذا أيضًا. فالفقهاء إنما يجعلون ذلك موكولاً إلى الإمام حَصْرًا، أما اجتهادُ مجموعةٍ في تكفير الإمام والنظام القائم فهو خروج على قانون الفقه نفسه.
آفة الفكر الجهادي أنه خرج على قانون الفقه بانتقائيته الشديدة، ورَكّب صورة مُحدثة لم تكن في الفقه، فجمع هنا بين مستويين: نظري وعملي، فعلى المستوى النظري أَسس فكرة الحاكمية وما نَتَج عنها من تكفير للحكام والأنظمة، ومن أن الاعتقاد واللفظ إذا لم يترجم إلى عمل لا يُعد إيمانًا.
وهو ما نص عليه قطب بقوله: “فالذين يفرّقون في الدين بين الاعتقاد والمعاملات ليسوا بمؤمنين؛ مهما ادعوا الإيمان وأعلنوا بلسانهم أو حتى بشعائر العبادة الأخرى أنهم مؤمنون!”، وبهذا اندرجت كل المعاصي الصادرة عن المسلمين في هذا المعنى، وأن من يفعلها يُقاتَل عليها وإن لم يكن يستحلّها كما صرح بذلك ناجي.
أما على المستوى العمليّ: فلما كفّروا الحكام والأنظمة، أسقطوا ولايتهم ونَهَضوا بوظائفهم الثابتة لهم -فقهًا- ومنها واجب تغيير “المنكَر” بالقوة، والخروج على الجماعة ومقاتلتها لإعادتها إلى حظيرة الشريعة المهجورة، ومستندُهم في ذلك المسألةُ التي اشتُهرت بمسألة “قتال الطائفة الممتنعة” كما سبق.
يصدق في هؤلاء ما قاله ابن تيمية نفسه؛ فقد نقل عن الإمام أحمد بن حنبل قوله: “أكثرُ ما يُخطئ الناس من جهة التأويل والقياس”، ثم قال ابن تيمية شارحًا كلامه: “يريد بذلك أنْ لا يُحكم بما يَدل عليه العامّ والمُطْلَق قبل النظر فيما يَخصه ويُقيّده، ولا يُعمل بالقياس قبل النظر في دلالة النصوص هل تدفعه؟ فإنّ أكثر خطأ الناس تَمَسّكهم بما يَظنونه من دلالة اللفظ والقياس؛ فالأمور الظنيّة لا يُعمل بها حتى يُبحث عن المعارض؛ بحثًا يَطمئن القلب إليه، وإلا أخطأ مَن لم يفعل ذلك.
وهذا هو الواقع في المتمسكين بالظواهر والأقيسة، ولهذا جَعل الاحتجاج بالظواهر مع الإعراض عن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه طريقَ أهل البدع”.
وقد سلكت جماعات العنف هذا المسلك من نفسه من الخطأ في التأويل والخطأ في قياس وقائع الزمن الحاضر على كلام ابن تيمية نفسه في التتار دون تَعمق أو تدقيق أو رعاية لنظام الشريعة، ثم جاء قومٌ فحمّلوا ابن تيمية مسؤولية تلك الجهالات، ولله الأمر من قبل ومن بعد!