دور مراكز البحث في إنتاج الدراسات وتطوير المعرفة: نموذج مراكز البحث بالمغرب
- مقدمة:
إن ازدياد دور مراكز الأبحاث هو تعبير عن انتقال البحث العلمي من مرحلة “الباحث الفرد” إلى مرحلة “الباحث – المؤسسة” فالتاريخ الفكري الإنساني مر بهاتين المركزيتين، إذ كان البحث والفكر يتمحور في مرحلة من المراحل حول الفرد.
ثم انتقل العالم إلى مركزية المؤسسة أو بمعنى آخر التفكير الجماعي أو العمل الجماعي في الفكر، والذي يستعين فيها الباحث بالخبرات التي تقدمها له المؤسسة، بما في ذلك تنوع التخصصات التي تشملها، دون أن تلغى رأيه الفردي أو اجتهاده الشخصي.
ليس من الأهمية في شيء الوقوف عند السياق التاريخي العام الذي أفرز هذه المراكز بالغرب. فهذا أمر يخرج عن إطار هذه الدراسة. لكن المؤكد أنها عرفت انتشاراً واسعاً منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، جراء التحولات التي طرأت على العلاقات الدولية، بانهيار القطبية الثنائية.
وتزايد مد العولمة الكاسح للاقتصادات وللثقافات، والطفرة الكبيرة التي طاولت تكنولوجيا الإعلام والاتصال والمعلومات، وانتقال معظم المجتمعات إلى مجتمعات إعلامية ومعلوماتية ومعرفية، مرتكزة على العمل الشبكي والأفقي وذي المضامين المعلوماتية والمعرفية العالية.
مراكز الأبحاث والدراسات أو صناديق الفكر أو مراكز أو بنوك التفكير أو حتى مصطلح خزان الأفكار كما توحي بذلك الترجمة الحرفية لعبارتي think – tanks ، هي مصطلحات تشير إلى شيء واحد، وهذه المصطلحات على تعددها وتنوع مضامينها أحيانا، ما زالت تستخدم كلها للدلالة على هيئات أو مؤسسات البحث العلمي، بأصنافها وأنواعها المختلفة[1].
وقد عرفتها مؤسسة راند للأبحاث بأنها “تلك الجماعات أو المعاهد المنظمة بهدف إجراء بحوث مركزة ومكثفة. وهي تقدم الحلول والمقترحات للمشاكل بصورة عامة وبخاصة في المجالات السياسية والاستراتيجية والاجتماعية والتكنولوجية، أو ما يتعلق بالتسلح.
كما يعرفها هوارد ج وياردا[2] بأنها عبارة عن “مراكز للبحث والتعليم، ولا تشبه الجامعات أو الكليات، كما أنها لا تقدم مساقات دراسية؛ بل هي مؤسسات غير ربحية وإن كانت تملك “منتجاً” وهو الأبحاث. هدفها الرئيسي البحث في السياسات العامة للدولة، ولها تأثير فعّال في مناقشة تلك السياسات.
كما أنها تركز اهتمامها على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والسياسة العامة، والدفاع، الامن والخارجية. كما لا تحاول تقديم معرفة سطحية لتلك المسائل؛ بقدر مناقشتها والبحث فيها بشكل عميق، ولفت انتباه الجمهور لها”.
إن مراكز الأبحاث ليست مثل المؤسسات العلمية المانحة لأنها لا تقدم أو تعطي تمويلاً للبحث العلمي، بدلاً من ذلك هي تبحث عن جذب التمويل لدراساتها من المؤسسات المانحة وغيرها من المصادر. ومراكز الأبحاث ليست شركات تجارية، بالرغم أن لديها منتوج وهي الأبحاث.
وبالتالي هي ليست مؤسسات للربح المالي. أيضا هي ليست مشابهة لجماعات المصالح ، حيث إن هدفها الرئيسي هو البحث والدراسات، وليس الضغط والنفوذ، بالرغم أن بعض مراكز الأبحاث تمارس ذلك أحياناً.
إن مراكز الفكر هي منظمات بحثية هدفها الأساسي هو توفير دراسات وأبحاث تتعلق بالقضايا والسياسات العامة للدولة أو المجتمع، وتحاول أن تكون مشاركاً بفعالية ومؤثرة في قضايا ونقاشات القضايا العامة أو السياسات العامة[3].
في المغرب والمنطقة المغاربية عموماً، وقبل عقدين من اليوم، لم تكن مراكز الأبحاث معروفة. ولكن حين وصلت، مع تقاليد بحثية أخرى من الغرب، استطاعت في ظرف وجيز أن تفرض وجودها، وتوسع أنشطتها، وتتحول إلى أحد أبرز المحركات الفكرية والسياسية في المشهد المغاربي.
في المغرب يمكن القول إن مراكز البحث العلمي في مفهومها القانوني هي عبارة عن جمعيات أو هيئات مدنية ذات أهداف غير ربحية، بيد أن هذا التعريف القانوني يبقى غير كافٍ لتقديم كل الأبعاد الدلالية للمفهوم الشامل المعبر عن دور وطبيعة مراكز البحث العلمي.
وبالتالي فهو لا يمكننا من قياس مدى تحقق أهم المضامين المعروفة لهذا المفهوم في تجربة مراكز البحث بالمغرب. وحتى نتمكن من ذلك يمكننا منهجياً مقاربة هذا الموضوع بالتركيز على إشكالية أي دور لمراكز البحث بالمغرب في إنتاج الدراسات وتطوير المعرفة.
واستنادا إلى فرضية أن تطور دور مراكز البحث بالمغرب منفصل عن عملية صنع القرار. يمكننا طرح التساؤلات التالية:
- ما أهداف مراكز الأبحاث – المغرب نموذجاً -؟
إلى أي مدى تمكنت مراكز الأبحاث بالمغرب من إنتاج دراسات نوعية لأهم القضايا الراهنة؟
ما مدى قدرة مراكز الأبحاث بالمغرب على إيجاد حلول للازمات التي يعرفها المجتمع وصياغة سيناريوهات المستقبلية؟
هل استطاعت مراكز الأبحاث التأثير في عملية صنع القرار؟
أولاً: أهمية وتصنيف مراكز الابحاث بالمغرب
1- الوعي بأهمية إحداث مراكز للدراسات
في المغرب، شهدت السنوات الأخيرة تأسيس عدد من مراكز الابحاث والدراسات، لكن لا تزال أدوارها ووظائفها مشوشة في الأذهان. ويمكن تلمس أسباب وظروف تأسيس مراكز الأبحاث في المغرب، والتي تندرج في سياق السائد عالميا مع معالم وأسباب التأسيس، أي تقديم المتابعة البحثية لقضايا الساحة، بحسب طبيعة اهتمامات ومشاريع هذه المراكز (كأن تكون متابعة قضايا سياسية أو إستراتيجية أو أمنية أو دينية.. إلخ)؛
فضلا عن أن الوعي بأهمية إنشاء مراكز للبحث العلمي غالبا ما يكون وعيا مجتمعيا قبل كل شيء وهو ما لم تتحقق شروطه كاملة بعد، فإن الدوائر الرسمية والأمنية منها بشكل خاص ظلت تنظر بحساسية إلى دور هيئات ومراكز البحث العلمي الخاصة، بل إن إنشاء حزب سياسي كان يبدو أحياناً أسهل كثيراً من إنشاء جمعية علمية أو مركز للبحث العلمي.[4]
ولكن هذا الوضع ، وبخاصة على مستوى إنشاء المراكز البحثية بالمغرب سيعرف تغيراً كبيراً خلال العقدين الماضيين وخاصة بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبرر 2001 ، حيث إن عدد المراكز البحثية الوازنة كان يعد على رؤوس الأصابع إلى غاية منعطف اعتداءات نيويورك وواشنطن، إلا أنه مباشرة بعد هذه الاعتداءات في مرحلة أولى، وبعد منعطف أحداث “الربيع العربي” في مرحلة ثانية، سنعاين ما يشبه فورة في تأسيس هذه المراكز.
لقد تزايد الاهتمام في المغرب بهذه المراكز، ولا سيَّما في ظل انفتاح الاقتصاد الوطني، وتزايد تيارات تبادل السلع والخدمات، وعولمة أنماط الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، وتزايد دور المعلومة والمعرفة، إذا لم يكن في صناعة القرار، فعلى الأقل في التأثير في صاحبه.
وصحيح أيضاً أن العديد من المراكز المحدثة بالمغرب لم تستطع حتى الآن، النفاذ مباشرة إلى صانع القرار كما الحال بالولايات المتحدة، صاحبة السبق في هذا الميدان، لكنها مع ذلك قد نجحت وإلى حد بعيد، في تأثيث المشهد السياسي والثقافي وفسحت في المجال واسعاً لطرح القضايا الكبرى بالفضاء العام للنقاش والتداول، والإسهام في رفع اللبس عن بعض الإشكاليات التي كانت ولعهود طويلة مضت، مجال النخبة الصرفة، أو فضاء بحث محصور في أهل العلم والمعرفة[5].
إن مراكز الأبحاث والدراسات إنما تكتسب أهميتها وشروط وجودها من الحاجة إليها، ومن “مقتضيات الضرورات السياسية والاقتصادية والإعلامية والأكاديمية والاجتماعية والتنموية، وذلك باعتبارها الطريقة الأمثل لإيصال المعرفة المتخصصة، من خلال ما تقدمه من إصدارات علمية وندوات متخصصة من شأنها أن تضاعف مستوى الوعي لدى صانع القرار والمؤسسات والأفراد، وتساعدهم على الربط بين الوقائع الميدانية وإطارها العلمي النظري”[6].
والمقصود، مما سبق، إنما القول بأن لمراكز الابحاث والدراسات دوراً ريادياً في توجيه عالم باتت تتجاذبه الأزمات والأخطار، وتتداخل من بين أضلعه التعقيدات من كل الأنواع، وتتقاذفه المنافسات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، ناهيك عن بروز مظاهر التوترات جراء بروز مشاكل ذات طبيعة كونية، وتهم الإنسانية برمتها.
والمقصود، مما سبق أيضاً، أن هذا الدور الريادي قد تأتّى لها بحكم أنها أصبحت “أداة مهمة لإنتاج العديد من المشاريع الحيوية التي تتصل بالدولة والمجتمع والفرد، ووسيلة لدراسة كل ما يتصل بتلك المشاريع وفق منهج علمي معرفي. كما تعد مراكز الأبحاث من القضايا الوطنية المهمة والحيوية، التي تعكس اهتمام الشعوب بالعلم والمعرفة والتقدم الحضاري واستشراف آفاق المستقبل”.
2- تصنيف مراكز الأبحاث بالمغرب
تجدر الإشارة إلى أن تصنيف مراكز الأبحاث في العالم يتحدد وفق “المؤشر العالمي لتصنيف مراكز الفكر والمجتمع المدني”، إذ يعتبر مؤشر جامعة بنسلفانيا الأمريكية لتصنيف وترتيب مراكز الأبحاث العالمية، أحد أهم المؤشرات العلمية وأكثرها صرامة.
حيث يصدر التقرير السنوي عن برنامج مراكز الأبحاث وجمعيات المجتمع المدني في معهد لودر في جامعة بنسلفانيا، أحد أعرق الجامعات في الولايات المتحدة ويسعى البرنامج إلى الربط بين المعرفة ونتائج البحوث وعمليات وضع السياسات، بما يتيح ترجمة النتائج إلى برامج سياسية قابلة للتطبيق. وتتوافر لدى معهد لودر قاعدة بيانات مفصلة عن أكثر من 6500 مركز بحثي في أنحاء العالم[7].
وينظر إلى هذا المؤشر على أنه دليل التميز بالنسبة لمراكز الأبحاث في أنحاء العالم ويعتمد عليه صنّاع السياسات في مختلف الدول لمتابعة نتائج الدراسات المرموقة في العالم. وإلى جانب إصداره تقرير المؤشر السنوي، يهتم برنامج مراكز الذي انطلق قبل 26 عاماً، بالبحث في الدور الذي تؤديه معاهد أبحاث السياسات في دعم الحكومات والجمعيات المجتمع المدني في أنحاء العالم.
وفي هذا السياق، لو تسنى لنا أن نلقي نظرة سريعة على خريطة مراكز الأبحاث والدراسات بالمغرب والذي يزيد عددها على 34 مركزاً بحثياً، فإنه لا يمكننا إلا أن نلاحظ حداثتها وهشاشة الغالبية العظمى ضمنها، على الرغم من تميز بعضها، فضلاً عن غياب صفحة إلكترونية أو موقع تتوافر فيه جل معطيات مراكز الدراسات والأبحاث بالمغرب.
كما وتجدر الإشارة إلى وجود مفارقة ما بين العدد الحقيقي لمراكز الأبحاث المحدثة بالمغرب والذي يقارب 34 مركزا[8]، وعدد المراكز المحددة وفق برنامج جامعة بنسلفانيا والخاص بـ”المؤشر العالمي لتصنيف مراكز الفكر والمجتمع” والذي حدد عددها في 15 مركزاً بحثياً بالمغرب، إذ يتم تقييم مراكز البحث على المستوى العالمي حسب المناطق وفئات الاختصاص ومجالات العمل.
معتمداً في ذلك على أربعة مؤشرات رئيسية تضم أكثر من 28 مؤشراً فرعياً، لتصنيف وتحديد مراكز الأبحاث في العالم والتي تستجيب لمجموعة من المعايير (جودة عدد وغنى منشورات المركز؛ أثر بحوث المركز وبرامجه في صناع القرار وغيرهم من الفواعل السياسية؛ الالتزام الواضح بإنتاج بحوث وتحليلات مستقلة؛ قدرة المركز على إنتاج معرفة جديدة؛ ابتكار مقترحات سياسية أو أفكار بديلة من سياسات ما؛ التأثير في المجتمع، وغيرها من المعايير … المحددة في التقرير السنوي للبرنامج)[9].
وفي محاولة لتصنيف مراكز الأبحاث والدراسات بالمغرب، يعتمد تصنيف مراكز البحث العلمي على عدة معايير، منها ما هو مبني على الأساس الأيديولوجي أو على أساس التخصص، ويبقى تصنيفها بالنظر إلى طبيعة العلاقة مع الأجهزة الحكومية من عدمها هو الأكثر شيوعاً.
والمراكز بحسب التصنيف الأخير إما مراكز حكومية ورسمية أو مراكز مستقلة غير رسمية، أما من حيث التخصص أو مجالات الاهتمام فهي إما مراكز متخصصة في مجال معين، أو مراكز ذات اهتمامات واختصاصات متنوعة ومتعددة، ولعله من الممكن عند محاولات التصنيف الأولي لمراكز البحث العلمي الموجودة اليوم بالمغرب وبصرف النظر عن مجال اهتماماتها – إلى الأصناف التالية:
مراكز أو معاهد حكومية؛ كالمعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، لأكاديمية المغربية للدراسات الدبلوماسية والتي تم تأسيسها سنة 2011 بالرباط بمقر وزارة الشؤون الخارجية والتعاون، مركز المغرب الشريف للفوسفاط للدراسات والابحاث OCP، وهو أحد أفضل مراكز التفكير الجديدة وأحد افضلها على الصعيد العالمي فيما يخص السياسة الطاقية حسب مؤشر غلوبل غو الخاص بمراكز التفكير والصادر في سنة 2016 .[10]
مراكز ذات طابع أكاديمي؛ بحكم نشأتها الأكاديمية في كنف الجامعة وهي رسمية أيضاً ولكنها ذات صلة بالجامعات فقط، مثل معهد الدراسات الأفريقية بالرباط والذي أُسس سنة 1990، ومعهد الدراسات والأبحاث للتعريب وكلاهما تابع لجامعة محمد الخامس بالرباط… وغيرها.
مراكز خاصة أو مستقلة؛ هي اليوم في تزايد كبير، بحيث ورغم قصر عمرها يبلغ عددها 18 مركزاً حسب تقديرات (برنامج مراكز الأبحاث وجمعيات المجتمع المدني في معهد لودر في جامعة بنسلفانيا)، ونذكر منها على سبيل المثال: المركز المغربي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية؛ مركز الدراسات الاستراتيجية المغرب؛ مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية.
وللإشارة فهو يتصدر مراكز الأبحاث المغاربية، حيث صنف من قبل برنامج جامعة بنسلفانيا والخاص بـ”المؤشر العالمي لتصنيف مراكز الفكر والمجتمع” في المركز الأول على المستوى المغاربي واحتل الموقع 12 على مستوى منطقة مينا سنة 2016[11].
وما يمكن إثارته في هذا السياق، أن أغلب هذه المراكز ذات توجه ليبرالي أو وطني أو إقليمي، وهي تمثل السمة الغالبة لمعظم المراكز الموجودة بالمغرب. كما أن تمويلها عادة يأتي بعضه من مؤسسات تمويل دولية، أو من مؤسسات مانحة للبحث العلمي أو مشاريع بحثية حكومية.
فضلاً عن ذلك، تتمتع مراكز الدراسات بميزات لا نجدها في المراكز الجامعية، وإن كانت العلاقة بين النوعين من المراكز تكاملية وتلازمية، أهمها قدرة مراكز الأبحاث على إنجاز المطلوب منها، أي الاستشارة والإرشادات والتحليلات بسرعة أكثر مما تقوم به مراكز ومختبرات البحث الجامعية؛ التي تتطلب إجراءات ومساطر أعقد وأطول مما تستلزمه مراكز الفكر، ولا سيما أن صنّاع القرار يعيشون تحت ضغط الوقت وإكراهاته، ويحتاجون إلى حلول سريعة وفورية.