البحث العلميعلوم

البرهان بالخُلْف والشك المنهجي

ماذا يتبادرُ إلى أذهانِكم عندما تُصادفون كلمة “عِلم” وأنتم تَقْرَؤون مقالاً أو تُشاهدون برنامجاً وثائقيا علمياً ؟. هل تساءَلتُم يوماً ماذا تعني لفظة “عِلم”؟

ستُحاول مقالات هذه السلسلة؛ الإجابة على هذا السؤال؛ من خلال أسئلة فرعية ومحورية مُنتقاة ومُوَّجهة من قبيل:

  • ما الحدودُ الفاصلة بين الثقافة والمعرفة والعلم؟
  • هل العلمُ واحدٌ أم متعدد؟
  • هل يكفي استهلاكُ العلوم لنكونَ عُلماء؟
  • كيفَ يَنشأ المجتمع العلمي ويُبْنى؟

كلما اقتربَ الباحثُ من “الشك المنهجي[2]؛ أوشَكَ أن يَصل إلى الحقيقة؛ وكلما رَكَنَ إلى الموروث المعرفي واطمأن لهُ وبه؛ واستعملَهُ دون أن يُسائلَه؛ إلا وابتعدَ عن الحقيقة وتاه عنها أشواطاً.

تنهار كل محاولات التفكير العلمي أو توليد العلوم؛ عندما يبني الباحث نظرياتِه وأطروحاتِه على ما تقدم دون نقدٍ أو تحرٍّ أو غربلة. وبالتالي؛ يكون المُنتَجُ الجديدُ امتداداً للقديم وتكريسا له بقوالِبَ وأنماطٍ مُختلفة، إذ يظل الجوهرُ والمضمون هو نفسُه.

إن الباحث الحقيقي؛ هو ذاك الذي يطرح الأسئلة حول كل ما تمت مُراكمتُه في تخصص مُعينٍ أو في إحدى فروعِه. ولا يُعتمَدُ من الموروثِ العلمي إلا ما هو مقطوع بصحتِه وثابتٌ بالتجربة والبرهان.

لقد ظل المُشتغلون بالفلك منذ قديم الزمان حبيسي الممارسات التنجيمية؛ ورغم مقدرتِهم على التفريق بين النجوم والكواكب؛ ورصدِ بعض الظواهر الفلكية؛ إلا أن هذه البيانات كانت تُستخدم للتكهنات التنجيمية.

وعلى امتدادِ قرونٍ عديدة؛ ظلت الظواهر الفلكية مُجردَ وسيلة للنصب والدجل والتنجيم من طرف العرَّافين والمشعوذين والدجالين؛ في كل الثقافات ولدى كل الشعوب، بسبب البناء المتواصل على ما تراكمَ مِن مُعطيات دون البحث والتساؤل والنبشِ حولَ وعن حقيقتِها.

فيما بعد؛ ظهرت محاولات لتفسير الظواهر الفلكية بأسلوب أكثر علمية ومنطقية؛ واكبَهُ اختراع ُبعض الآلات والأدوات المهمة في حينها كـ”المِقراب[3]” و”الأسطرلاب[4]” وبعض المناظر والعدسات البدائية؛ إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل للسبب نفسِه؛ وهو البناء على المعطيات والمُسلَّماتِ القديمة التي كانت خاطئة جُملة.

لقد فرضت الكنيسة في أوروبا في القرون الوسطى؛ اعتبارَ الأرضِ مركز المجموعة الشمسية، واعتبار روما مركز العالم. هذه المعطيات القبلية كانت عقبةً كَأْدَاءَ أمامَ كل باحثٍ وعالِمٍ يسعى لتجاوز هذا الموروث الخاطئ.

أحدث “كوبرنيكوس / Copernic [5]” هزة نوعية وثورة شاملة في علم الفلك؛ بعد أن ألغى كل القوانين والأعراف والأفكار السائدة والخاطئة عن علم الفلك؛ وتحدى في ذلك الكنيسة والرهبان والمُنجمين والسياسيين؛ وأعلن حصيلتَهُ من العمل والبحث والدراسة التي امتدت على مدى عشرين عاماً؛ والتي تقول بمركزية الشمس؛ وأن كلَّ الكواكب تدورُ حولَها؛ وأن الأرض مجردَ كوكبٍ ضمن المجموعة الشمسية.

مُشجعا بذلك الباحثين والعلماء على تبني التفكير العلمي والانطلاق من “الشك المنهجي” للوصول إلى اليقين؛ بدلَ البناء على الجاهز والاستسلام للموروث المعرفي المشكوك فيه.

لم يكن للبشرية أن تَحلُمَ باستعمار المريخ أو إرسال روبوتات إلى كواكب المجموعة الشمسية لاستكشافِ مجاهِلِها وإقامة محطة الفضاء الدولية لتكون نقطة انطلاق نحو استكشاف الفضاء الواسع والفسيح، كما لم يكن للبشرية أن تَحْلُمَ بإرسال أقمارٍ صناعية للبث التلفزي والذكاء الصناعي للتنبُّؤ بالطقس والأرصاد،

وتحديد المواقع والإحداثيات الجغرافية…، لولا التغيير الكُلي والشامل الذي أحدثَهُ “كوبرنيكس” من خلال نظريته التي بناها على الشك في المعلوم والموجود للوصول للحقيقة والمنطق والصواب.

إن عشرين سنة التي أنفقَها “كوبرنيكس” في بحثِه عن الحقيقة؛ اختصرت على البشرية مئات القرون من التنجيم والدجل والخرافة والأباطيل، وأهَّلتِ الإنسان ليستعمر الكواكب الأخرى مستقبلا؛ واضِعاً عينه على مجراتٍ أبعدَ من مَجرتِنا بملايير السنوات الضوئية.

  • ختاما

إننا مُلزمون اليوم؛ أكثرَ مِن أيِّ وقتٍ آخرَ؛ بإعادة إحياء التفكير العلمي النقدي؛ المَبني على “الشك المنهجي” في المدارس والجامعات والمراكز والمعاهد البحثية؛ وتكريسِه لدى الأساتذة والطلبة والباحثين، أملا في تجاوز عمليات الاجترار والتكرار والنَّسْخ؛ وتطلُّعاً إلى الخَلْقِ والابتكار والإبداع والتجديد والتجاوز.

[1] – البرهان بالخُلف؛ هو في معناه البسيط البرهان على الشيء بعكسِه أو ضِدِّه، واصطلاحا؛ مفهومٌ فلسفي يرمي إلى إثبات صحة المطلوب بإبطال نقيضه أو فسادِ المطلوب بإثبات نقيضه.

[2] –  الشك المنهجي Methodic doubt ويُعرفُ أيضا بـ(الشك الديكارتي | Doute cartésien)، مذهب أو حركة فلسفية، ظهرت في اليونان القديمة؛ تدعو إلى الشك في كل ما لا يخضع في صحتِه للتجربة والاختبار.

[3]  – عدسة مُكبِّرة ومُجمٍّعة؛ تجمع الضوء لرؤية الكواكب والنجوم البعيدة بوضوح، مكونة صوراً مقربة للأجرام السماوية. عادة تكون المقاريب إما عاكسة أو كاسرة. ويستخدم لرؤية (رَصد) الأجسام البعيدة، ومنه ما يستخدم لرؤية الأجسام على سطح الأرض مثل المسارح والسباقات وغيرها ويسمى المقراب الأرضي. جمع كلمة مقراب هي مقاريب.

[4] – آلة فلكية قديمة؛ يطلِقُ عليه العرب ذات الصفائح، لا يُعرفُ على وجه التحديد من اخترعها، لكن يري كثيرون أن مخترعُهُ ” هو كلاوديويس البطلمي ” مصري من أصول يونانية، عاش في الإسكندرية وكتب كتابا عن بسط سطح الكرة، وهو كتاب أصلُهُ مفقود؛ ولكن نسخته العربية موجودة.

[5]كوبرنيكوس: راهب ورياضياتي وفيلسوف وفلكي وقانوني وطبيب وإداري ودبلوماسي وجندي بولندي، يُعدُّ أحد أعظم علماء عصره. يعتبر أول من صاغ نظرية مركزية الشمس وكون الأرض جرماً يدور في فلكها، وذلك في أطروحتِه؛ «حول دوران الأجرام السماوية».

كما يُعد مُطور نظرية دوران الأرض، ويعد مؤسس علم الفلك الحديث. وصاغ إحدى أهم النظريات في التاريخ؛ مُحدثاً ثورة في علم الفلك وفي العلم المعاصر؛ مشجعاً بذلك العلماء والباحثين على تحدي القوانين السائدة؛ وتقديم العلم على العقائد والدجل والدوغمائية.

الحسين بشوظ

كاتب، صحفي عِلمي وصانع محتوى، باحث في اللسانيات وتحليل الخطاب، حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في اللغة والأدب بكُلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. مسؤول قسم اللغة العربية في منظمة المجتمع العلمي العربي بقَطر (سابقا)، عُضو مجلس إدارة مؤسسة "بالعربية" للدراسات والأبحاث الأكاديمية. ومسؤول قسم "المصطلحية والمُعجمية" بنفس المؤسسة. مُهتم باللغة العربية؛ واللغة العربية العلمية. ناشر في عدد من المواقع الأدبية والصُّحف الإلكترونية العربية. له إسهامات في الأدب إبداعاً ودراسات، صدرت له حتى الآن مجموعة قصصية؛ "ظل في العتمة". كتاب؛ "الدليل المنهجي للكتابة العلمية باللغة العربية (2/ج)".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى