المغرب – حكومة عبد الله إبراهيم 1958
حين بلغت أزمة الحكومة المغربية ذروتها غداة الاستقلال تمت المناداة على السيد عبد الله إبراهيم لتشكيل الحكومة الرابعة بتاريخ 24 دجنبر 1958، ولما ألقى الملك خطاب تنصيب الوزير الأول حدّد له السياق العام الذي دعا إلى تنصيب هذه الحكومة والمهام الموكولة إليها، حيث قال بأن المغرب “يجتاز… في الساعة الراهنة مرحلة دقيقة من مراحل تطوره، ويواجه مشاكل كثيرة متنوعة تعرفها جميع الأمم الحديثة العهد بالاستقلال – سيما أمم – كالمغرب؛ لا تتوافر فيها النظم والمقاييس التي تعرف بها عادة الاتجاهات الواضحة للرأي العام.
وقد اقتضى نظرنا أن تؤلف الحكومة الجديدة من أشخاص محايدين، وآخرين سياسيين، وعهدنا إلى خديمنا الأرضى السيد عبد الله إبراهيم أن يشكلها بصفة شخصية لتقوم في مدة معينة بالمهام الوزارية وتسيير شؤون الدولة، والسهر على تحقيق الأهداف التالية:
متابعة تطبيق البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛
اتخاذ التدابير اللازمة لتشغيل أكثر ما يمكن من اليد العاملة؛
مواصلة تطبيق العهد الملكي بإجراء الانتخابات القروية والبلدية في نهاية 1960″.
ولكن هل بانتهاء هذه الأهداف ستكون حكومة عبد الله إبراهيم منتهية ؟ أم أن لهذا التعيين دلالات أخرى؟
إن اختيار الملك للسيد عبد الله إبراهيم ليتولى منصب الوزير الأول اشترط عليه أن تتمتع الحكومة بالسلطات الكافية لتحرير الاقتصاد من الهيمنة الفرنسية، وتهيئ الانتخابات المحلية، وتلبية المطالب المشروعة للقبائل الريفية”.
ولكن بمجرد ما شكل عبد الله إبراهيم حكومته حتى “شعر بأنه أصبح في وضعية تماثل الوضعية التي كان يعاني منها بلا فريج”.
إن هذا “التكتيك” ليس غريبا على “النظام “، فبمنح مناصب المسؤولية لرجال من المعارضة يضفي النظام على نفسه صفة التسامح، وينقص من حدة انتقادات الأحزاب التي تنتمي إليها المسؤولون المعينون؛ بل أدى كذلك في غالب الأحيان إلى فقدان الأحزاب للأطر.
وهذا التكتيك المعتاد للقصر يقوم على أساس “تحميل المعارضة مسئولية السياسة التي تدعو إليها، وفي الوقت نفسه وضع العراقيل لمنعها من تنفيذ تلك السياسة”.
وهو ما حصل مع حكومة عبد الله إبراهيم، حيث “عين الملك في الحكومة أولئك الذين كانوا ينتقدونه بشكل مباشر ليتحداهم بأن يضعوا نصائحهم قيد التطبيق، وفي الوقت نفسه يحرمهم من الوسائل اللازمة لتطبيق سياستهم.. وهكذا اتضح بالتدريج أن القصر مصمم على تعقيد مهام الحكومة ووضع العراقيل أمام الوزراء التقدميين؛ فبدأ قادة الاتحاد الوطني. ق. ش. يختلفون فيما بينهم حول أنجح الطرق لمواجهة هذه الوضعية.
لقد فرض على عبد الله إبراهيم أن يشرف على حل “الحزب الشيوعي”، وهي مهمة محرجة أمام رفاق الأمس.. وبعد ذلك كان اعتقال رفاق الحزب المقربين، عبد الرحمان اليوسفي والفقيه البصري من لدن الشرطة التي لم تكن خاضعة لأوامر الوزير الأول.
لقد كوّن النظام “حكومة ظل” لم تكف عن خلق المصاعب لعبد الله إبراهيم، وهي تعمل بمساعدة الجيش والأمن الوطني الذي كان يسيره “لغزاوي” إلى درجة أصبح الكثيرون في الاتحاد الوطني. ق. ش. يرون أنه من الأفضل لعبد الله إبراهيم أن يقدم استقالته من أن يفتح المجال للقصر للاستهزاء به أكثر.
ولكن إرادة السيد عبد الله إبراهيم كانت أقوى من ذلك، حيث “لم يقدم الوزير الأول استقالته؛ بل قام بهجوم مضاد في ربيع 1960؛ ففي نهاية مارس، نظم الاتحاد المغربي للشغل –(UMT)- إضرابا للاحتجاج ضد تخريب أعمال الحكومة… وقرر عبد الله إبراهيم أن يكشف أوراقه، ويطرح مسألة حدود اختصاصات وزارة الداخلية وإدارة الأمن الوطني، فتدارست الحكومة مشروع ظهير حول إعادة تنظيم وزارة الداخلية، كان الهدف منه وضع الأمن الوطني، بدون التباس، تحت مراقبة وزارة الداخلي.
كانت هذه التحركات كافية لدفع الملك إلى إقالة الوزير الأول في أقرب الآجال؛ وتأكد تصميمه عندما حقق الاتحاد و. ق. ش. انتصاره المفاجئ في انتخابات الغرف التجارية والصناعية، وكانت أضعف وسيلة لإضعاف الاتحاد و. ق. ش هي طرد ممثليه من الحكومة. ففي 20 مايو أفهم الملك عبد الله أن حكومته أنجزت مهمتها”؛ وبتعبير آخر دق ناقوس نهايتها وعليها أن ترحل.
وإذا كان النظام قد اعتبر أن حكومة عبد الله إبراهيم قد أنجزت مهمتها فإنه في الوقت نفسه اتهمها بعدم إنجاز شيء يذكر إلا إثارة الفتنة بالبلاد قائلا إن القصد كان “… التعرف على الأكثرية ذات الصبغة التمثيلية، والوصول بذلك إلى إقامة النظام الملكي الدستوري… ولكن حكومة عبد الله إبراهيم لم تنجز مع الأسف المهام التي كانت قد أنيطت بها…
فحكومة عبد الله إبراهيم قد وجدت نفسها مثقلة بمطالب اليسار المتطرف، ولم تكن تستطيع أن تنهض من تحت أعبائها؛ وهذا ما جعل الحالة تتدهور يوما بعد يوم، وكانت هذه معضلة سياسية جد خطيرة تستوجب علاجا لها، الاغتيالات والنهب والمشاغبات بين حين وآخر تتزايد، و”بعثات” تصل الرباط لتهدد الملك، وتحاول التأثير عليه حتى داخل القصر، ولجأت صحافة معينة إلى لهجة مثيرة… لم يكن للبلد بعد مجلس نيابي و لا دستوري، ولم تكن الانتخابات ولا الديمقراطية الأصيلة هي التي تحتضر، بل كانت الثورة العلمية هي التي تحتضر.
وفي نفس اتجاه الملك لاحظ أحد الباحثين أن “الإجراءات التي اتخذتها حكومة عبد الله إبراهيم تترجم موجة النفور الرسمي من الأجانب، وكانت العلاقات الشخصية بين الأمريكيين والمغاربة ودية وإن لم تكن وطيدة، ولكن تصرفات الحكومة أظهرت التذمر بين أمريكا، فلم تعلن في سنة 1959 عما توصلت به من مساعدات أمريكية بلغت 40 مليون دولار، ولم تذكر شيئا عن بعض المساعدات العسكرية… من مدافع وسيارات جيب وشاحنات كانت أهدتها أمريكا للمغرب، واستعرضت في حفلات عيد العرش لتلك السنة.
وللتاريخ، فإن حكومة عبد الله إبراهيم تلقت الضربات من كل جانب؛ فعندما “تشكلت… اتخذت منها اللجنة التنفيذية للحزب موقفا عدائيا علنيا”، حيث هاجم “القادة التقليديون عبد الله إبراهيم لأنه قبل بأن يترأس حكومة انتقالية” بين عهدين عهد محمد الخامس وعهد الحسن الثاني وكأنه أسهم في الانتقال الهادئ للعرش بين الملكين –(الظروف نفسها والمهمة نفسها قامت بها حكومة عبد الرحمان اليوسفي مع اختلاف في السياقات).
ولكن البعض ذهب إلى طرح آخر، وهو أن ضرورة التكيف السياسي مع تيار ماركسي – يساري عالمي مهيمن دفع الملك إلى مسايرة هذه “الموجة” وتشكيل حكومة يسارية بقيادة زعيم اشتركي، حيث كان الاتحاد السوفياتي يساعد ويشجع هذه الأنظمة في العالم العربي عبر أحزاب البعث في كل من مصر وسوريا والعراق…، يقول اكديرة إن الإغراء كان قويا..
وبالفعل، فإن الطبقة السياسية المغربية لم تتمكن من تجنبه؛ وكان هذا الجزء بالضبط هو الذي يمارس الحكم في نهاية سنة 1959 وبداية 1960″. – (صعود الحكومات الملتحية، في مصر- حزب الحرية والعدالة / وتونس – حزب النهضة / وبالمغرب – حزب العدالة والتنمية، مع موجة الربيع العربي 2011).
وإذا كان الملك قد قبل حكومة يسارية لتدبير الشأن العام فإنه يرفض إيديولوجيتها كتوجه رسمي للدولة، لذا لما استنفذت حكومة عبد الله إبراهيم آجال تطبيق المخطط الخماسي –(1955-1960)- الذي أشرف عليه وزير الاقتصاد الاشتراكي عبد الرحيم بوعبيد ولما رتبت الانتخابات القروية والبلدية اعتبر الملك أن مهمتها منتهية.
وإذا كان البعض قد رأى في حكومة عبد الله إبراهيم اليسارية مجرد “موجة ” عابرة، وإذا كان البعض الآخر رأى فيها صورة “حكومة إنقاذ وطني” للعبور بين عهدين، فإن أصحاب المصالح الأمريكية الحيوية بالمغرب رؤوا فيها تهديدا حقيقيا لمصالحهم؛ حيث يقول الفقيه البصري بأنه إذا كانت “إقالة واستقالة الحكومات من الناحية المبدئية هو عمل عادي … لكن إقالة حكومة عبد الله إبراهيم في ذلك التاريخ… تدخل في هذا الذي… له علاقة أكيدة… بدخول الولايات المتحدة الأمريكية ومخابراتها على الخط في سياق استراتيجية أكبر”..
أما “عامة الناس” فكان لها تفسير آخر لإقالة حكومة عبد الله إبراهيم؛ فكثيرا “ما تعزي المعتقدات الشعبية الأزمات والكوارث الطبيعية إلى مساوئ ذوي السلطة؛ يقول المثل الشعبي “إلــــى شفتي في الدنيا القحط، عرف راه قــوى الشر والضغط”… فلما حطم الزلزال العنيف مدينة أكادير عن آخرها يوم 29 فبراير 1960، وكان يومها عبد الله إبراهيم وزيرا أول، شاع أن كارثة أكادير تشكل عقابا نتج عن خيانة عبد الله إبراهيم للعرش، وعلامة واضحة تثبت أن الحزب ضاعت بركته.
ولما أذن الملك للحكومة في الشهر التالي بالانصراف لأسباب لا علاقة لها بالزلزال اعتبر كثير من المغاربة أن الفاجعة تخول له الحق في ذلك”.