سقيفة بني ساعدة: بداية الخلاف السياسي وتشكيل المذاهب الإسلامية
على أرجح الأقوال، توفي الرسول يوم الاثنين 12 من ربيع الأول العام الحادي عشر من الهجرة. وكما هو متوقَّع، فقد كانت وفاة الرسول الكريم حدثًا جللًا أصاب جميع المسلمين، فأذهلهم وأربكهم وشتت تفكيرهم وخططهم.
في الوقت الذي كان فيه أهل الرسول يعملون على تجهيزه وتغسيله تمهيدًا لدفن جثمانه، اجتمع عدد كبير من الأنصار في مكان يُعرف بـ«سقيفة بني ساعدة»، ليتفكروا ويتشاوروا في مسألة خلافة الرسول.
لا توفر لنا الروايات التاريخية حصرًا بأسماء جميع الحضور في اجتماع السقيفة، وإن كانت قد حفظت لنا أسماء عدد من قادة الأنصار الموجودين في ذلك الاجتماع المهم، ومنهم سعد بن عبادة الخزرجي وبشير بن سعد والحباب بن المنذر.
يبدو أن قادة الأنصار قصدوا أن يتموا أمر السقيفة في معزل عن إخوانهم من المهاجرين، الذين كانوا في ذلك الوقت مشغولين بتجهيز جثمان الرسول.
إذ تؤكد الروايات التاريخية أن المهاجرين لم يعرفوا بأمر اجتماع الأنصار في السقيفة إلا عن طريق المصادفة، عندما أخبر أحد المسلمين عمر بن الخطاب بالأمر، فأرسل في طلب أبي بكر وانطلقا، ومعهما أبو عبيدة بن الجراح، إلى السقيفة مسرعين.
ورد في صحيح البخاري، رواية طويلة يشرح فيها عمر بن الخطاب تفاصيل ما جرى بين المهاجرين والأنصار. فقد جاء على لسان عمر أنه لما وصل مع أبي بكر إلى السقيفة، وجد الأنصار اجتمعوا حول رجل مريض هو سعد بن عبادة، وبدأوا في استعراض مناقبهم وفضائلهم،
فلما أراد عمر أن يرد عليهم، أسكته أبو بكر، ثم قال: «ما ذكرتم فيكم من خير، فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش. هم أوسط العرب نسبًا ودارًا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين (يقصد عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح)، فبايعوا أيهما شئتم».
بعدما انتهى أبو بكر من كلامه كثر اللغط وعلت الأصوات، وطالب بعضهم بانتخاب أمير من المهاجرين وأمير من الأنصار. فلما خاف عمر الخلاف قال: «قلت لأبي بكر: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار».
رغم الخلافات التي تعتري التفاصيل الدقيقة لما جرى من أحداث في سقيفة بني ساعدة، فإننا نستطيع أن نلمس اتفاقًا كبيرًا على الخطوط العريضة لتلك الأحداث، في كثير من الروايات السنية والشيعية.
- موقف عموم المسلمين من نتائج السقيفة
تباينت الروايات التاريخية التي تطرقت لرأي عموم المسلمين، في نتائج اجتماع السقيفة وبيعة أبي بكر. فبينما تذكر روايات كثيرة أن المسلمين انخرطوا في مبايعة أبي بكر خليفة للرسول، فان روايات أخرى تؤكد أن نوعًا من الإجبار والتعنت قد اصطبغت به الكيفية التي نُصِّب بواسطتها الخليفة الأول.
فمن الروايات التي ذكرت إقبال الناس على بيعة أبي بكر، ما ذكره ابن كثير في «البداية والنهاية»، عن أن الناس بايعت أبا بكر البيعة العامة بعد السقيفة مباشرة، وما أورده الجوهري في كتابه «السقيفة وفدك»، إذ قال: «وكثر الناس على أبي بكر، فبايعه معظم المسلمين في ذلك اليوم (أي يوم السقيفة)…».
يؤكد ابن خلدون في تاريخه، انعقاد الإجماع بين المسلمين على استخلاف أبي بكر، بقوله: «أجمع المهاجرون والأنصار على بيعة أبي بكر، ولم يخالف إلا سعد (يقصد سعد بن عبادة) إن صح خلافه، فلم يُلتفَت إليه لشذوذه».
إضافة إلى كل تلك الروايات، فإن هناك إشارتين مهمتين قد وردتا في «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد المعتزلي، عن علي بن أبي طالب نفسه، يؤكد فيهما أن بيعة أبي بكر تمت عن شورى وقبول المسلمين.
في الإشارة الأولى يقول في معرض شرحه لرأيه في أحداث السقيفة: «… فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر وإجفالهم إليه ليبايعوه…».
كلمتا «انثيال» و«إجفال» يشيران بوضوح إلى إقبال الناس على بيعة أبي بكر مختارين غير مجبرين.
أما الإشارة الثانية، فكانت في إحدى رسائله إلى والي الشام معاوية بن أبي سفيان، إذ يبين له الطريقة المُثلى في اختيار الخليفة، فيقول: «بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان… وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فان اجتمعوا على رجل وسموه إمامًا كان ذلك لله رضا».
تؤكد بعض المصادر الشيعية أن زعماء المهاجرين استخدموا القوة لأخذ بيعة أبي بكر.
في الجانب الآخر، هناك عدد من الروايات التي اعتقدت بأن بيعة أبي بكر كانت حدثًا طارئًا مفاجئًا لم يُعَد لها بالشكل المناسب. إذ رُوي عن أبي بكر نفسه أنه قال إن «بيعتي كانت فلتة وقى الله شرها»، بحسب ما ذكر الجوهري في كتابه.
كذلك رُوي عن عمر بن الخطاب في صحيح البخاري، رأي مشابه، عندما قال: «فلا يغترنَّ امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت».
إذا انتقلنا إلى الروايات الشيعية، وجدنا أن العلامة المجلسي في «بحار الأنوار»، يصرح بأن بيعة أبي بكر في السقيفة تمت «من دون تشاور مع الصحابة، ومن دون حضور العِترة الطاهرة من بني هاشم».
عدد من المصادر الشيعية يؤكد أن زعماء المهاجرين استخدموا القوة لأخذ بيعة أبي بكر. فقد ورد أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة أقبلوا في أهل السقيفة «وهم محتجزون بالأزر الصنعانية، لا يمر بهم أحد إلا خبطوه، فإذا عرفوه مدوا يده على يد أبي بكر شاء ذلك أم أبى»، وذلك حسبما ورد في كتاب سليم بن قيس الهلالي على سبيل المثال.
يُفصِّل الشيخ المفيد، في كتابه «الجمل»، تلك الحادثة ويشرحها بأن هناك مجموعة كبيرة من الأعراب دخلت المدينة المنورة في الوقت الذي مرض فيه الرسول، ليشتروا حاجاتهم، فشُغل الناس عنهم لوفاة الرسول، فاستدعاهم عمر بن الخطاب واتفق معهم على إجبار الناس على أخذ البيعة لأبي بكر، فأخذ هؤلاء الخشب بأيديهم وضربوا من امتنع عن البيعة.
لا يوجد أثر صريح لتلك الرواية في المصادر السنية، وان كانت هناك إشارة مبهَمة من الممكن أن نربطها بالرواية السابقة، وهي ما أورده الطبري عن أبي مخنف في أحداث يوم السقيفة، عن أن «أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السكك، فبايعوا أبا بكر، فكان عمر يقول: ما هو إلا أن رأيت أسلم، فأيقنت بالنصر».
من الممكن أن نرى الطريقة التي اختير بها أبو بكر يوم السقيفة، تحمل كثيرًا من معايير الشورى والاختيار الحر، وتمت بشكل علني، وجرت فيها مجادلات ومناظرات بين الأطراف المتنازعة على الخلافة، وإن كان يعيبها أنها تمت في معزل عن بني هاشم الذين كانوا يمثلون ثقلًا سياسيًّا وروحيًّا كبيرًا في ذلك الوقت، ذلك أنه لم يحضر أي هاشمي في اجتماع السقيفة، ولم يجرِ التشاور أو التحاور معهم في ذلك الأمر.
أما بالنسبة إلى مسألة إجبار الناس على مبايعة أبي بكر، فهو أمر يحيط به كثير من الشكوك، خصوصًا أنه لا يستقيم مع التسلسل الزمني للأحداث المُجمَع عليها في أمر السقيفة.
فعموم الروايات السابقة تؤكد مفاجأة عمر بأمر اجتماع الأنصار، وأنه ذهب مسرعًا إلى السقيفة حتى يلحق بالناس قبل أن يتفقوا على سعد بن عبادة، فكيف تأتَّى له أن يتصل بالأعراب ويتفق معهم على إجبار الناس على بيعة أبي بكر؟
أيضًا، من غير المعقول أن نصدق أن مجموعة من الأعراب تستطيع أن تفرض رأيها على أهل المدينة من الأنصار، وهم أولوا العزم والقوة والبأس والشوكة.
ولو اتبعنا القاعدة التي تنص على أن لكل فعل رد فعل، فقد كان يجب أن نعثر على أي رواية تشير إلى حدوث حالة من المعارضة العنيفة من جانب الأنصار تجاه عملية الإجبار على البيعة. لكن في الحقيقة، لا توجد أي رواية تحمل ذلك المضمون.
- موقف علي بن أبي طالب من نتائج السقيفة
ربما لم يشهد التاريخ الإسلامي كله، موقفًا وحدثًا اختلفت فيه الأقوال والروايات وتعددت فيه الآراء والمعتقدات، بالشكل الذي شهدته مسألة موقف علي بن أبي طالب من نتائج سقيفة بني ساعدة، وإن كان قد وافق عليها أم رفضها داعيًا إلى تغييرها.
ذلك أن المصادر التاريخية حملت إلينا عددًا من الروايات المتضاربة والمتباينة بشكل كامل، إذ يستحيل التوفيق بينها. فإذا ما تناولنا تلك الروايات وحاولنا جمعها، وجدناها تنتظم في اتجاهين رئيسين متعارضين.
الاتجاه الأول، ويشتمل على مجموع الروايات التي ترى أن علي بن أبي طالب وافق على نتائج السقيفة، وسارع إلى مبايعة أبي بكر. من أهم الروايات التي وردت في ذلك السياق، ما أورده الطبري في تاريخه، نقلًا عن سيف بن عمر التميمي، من أن «عليًّا قد خرج من بيته ما عليه من إزار ولا رداء حتى بايع، ثم أرسل يستدعي إزاره».
تحظى تلك الرواية بشهرة كبيرة في الأوساط السنية، رغم شذوذها وعدم وجود أي شواهد أو متابعات قوية لها.
الاتجاه الثاني، ويشتمل على مجموع الروايات التي ترى أن علي بن أبي طالب اعترض على نتائج السقيفة، وتأخر في بيعة أبي بكر لاعتقاده أنه الأحق بالخلافة.
تواترت تلك الروايات في مصادر شيعية كثيرة، وبعض المصادر السنية. من ذلك ما نُسِبَ إلى عليٍّ أنه قال في خطبته المعروفة بـ«الشقشقية»: «أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وإنه ليعلم أن محلي منها (يقصد الخلافة) محل القطب من الرحى»، بحسب ما ورد في «شرح نهج البلاغة».
- الشيعة الأوائل: أنصار علي بن أبي طالب في تلك الفترة
تُجمِع روايات سنية وشيعية على إثبات أن هناك نفرًا من المسلمين، أيدوا علي بن أبي طالب في موقفه الرافض لنتائج اجتماع السقيفة، وأن مواقف هؤلاء تباينت واختلفت في طبيعتها وشدتها. فمنهم من تعاطف مع علي وإن كان قد بايع أبا بكر، ومنهم من رفض مبايعة الخليفة الأول رفضًا مطلقًا وحمل السلاح في سبيل ذلك، وبعضهم عُرِضَ عليه التأييد والنصرة والعون بالمال والرجال والعتاد.
إن معظم تلك الروايات تحتاج إلى إعادة قراءة وتحليل، في ضوء المعلومات والثوابت التاريخية المتوفرة لدينا.
فمن أهم الشخصيات التي تُجمِع المصادر السنية والشيعية على موالاتها لعلي بن أبي طالب في تلك الفترة التاريخية الدقيقة، شخصية الزبير بن العوام، إذ تؤكد المصادر التاريخية أن الزبير انقطع مع علي في بيته رافضًا أن يبايع أبا بكر.
تواترت الأخبار عن أن الهاشميين كلهم ساندوا علي في موقفه تجاه نتائج السقيفة، ومن أهمهم العباس بن عبد المطلب وأبناؤه.
بعض الروايات، ومنها ما ورد في «الكامل» لابن الأثير، أكدت أن الزبير شهرَ سيفه وأقسم ألا يُرجعه لغمده حتى يُبايع علي بالخلافة.
نستطيع أن نتقبل فكرة نُصرة الزبير لعلي في تلك المرحلة، خصوصًا أن هناك صلة قرابة قوية تجمع بينهما. فالزبير ابن صفية بنت عبد المطلب، عمة علي بن أبي طالب.
هناك عدد من الأقوال المنسوبة إلى علي، ويؤكد فيها أنه كان يرى الزبير فردًا من بني هاشم، وظل على تلك المكانة حتى كبر ابنه عبد الله.
في السياق نفسه، تواترت الأخبار عن أن الهاشميين كلهم ساندوا علي في موقفه تجاه نتائج السقيفة، فكان من أهم رجال بني هاشم الذين أيدوه، العباس بن عبد المطلب وأبناؤه، كما يذكر اليعقوبي في تاريخه.
إن عددًا من الأنصار كانوا يرون أحقية علي في الخلافة. يشهد على ذلك ما ورد في تاريخ الطبري، من أن بعضهم قال: «لا نبايع إلا علي»، أو «لا نبايع حتى يُبايَع علي». وفي ما أورده اليعقوبي في تاريخه، أنه في أثناء المجادلات بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة،
قال أحد الأنصار، هو المنذر بن أرقم، إن فيهم (يقصد المهاجرين) لرجلًا لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد. يعني علي بن أبي طالب. ما يعني أن هناك قِطاعًا من الأنصار، ممن لم تغلب عليه النزعة القبلية الأوسية أو الخزرجية، كان علويَّ الهوى، ويفضل أن يصل ابن أبي طالب إلى السلطة.
كان هناك عدد آخر من الصحابة، من أمثال عمار بن ياسر والمقداد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي والبراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وأبيُّ بن كعب وأبو الهيثم بن التيهان وخالد بن سعيد وعبادة بن الصامت وبريدة الأسلمي وأم أيمن، ممن يتشيعون لعلي، ويعتقدون بأحقيته في خلافة الرسول.
لعل أكثر الروايات المتواترة في المصادر السنية والشيعية غرابةً، عن أنصار علي بن أبي طالب في تلك المرحلة، هي تلك الروايات التي تذكر أن أبا سفيان بن حرب عرض المساعدة على علي والعباس، وشجعهما على النهوض للمطالبة بالخلافة، فكان مما قاله لهما بحسب ما أورد الطبري واليعقوبي:
بني هاشمٍ لا تُطمعوا الناسَ فيكمُ … ولا سيما تيم بن مرةَ أو عَدِيّْ
فما الأمرُ إلا فيكمُ وإليكمُ … وليس لها إلا أبو حسنٍ عليّْ
إننا لا نستطيع أن نقبل تلك الروايات التي تحدثت عن عرض أبي سفيان مساعدته لبني هاشم، وذلك لعدة أسباب، منها:
قوة أبي سفيان الحقيقية كانت في مكة، وليس في المدينة. فمن أين يستطيع أن يأتي بالرجال والعتاد الذين وعد بهم علي والعباس.
نفوذ أبي سفيان تدهور بشكل كبير بعد فتح مكة العام الثامن للهجرة. وظهر بعد الفتح عدد من الزعامات الأموية البديلة، مثل عثمان بن عفان، ما يعني أن أبا سفيان كان غير قادر على إنفاذ أوامره داخل عشيرته وقبيلته بشكل مطلق، كما كان الأمر من قبل.
لكن على أي حال، ستتشكل المخيلة الشيعية المتأخرة بشأن مبايعة علي لأبي بكر بصورة أكثر تفصيلية من كل المعلومات المتوفرة، والتردد الذي يبدو أن عليًّا أظهره تجاه البيعة سيتحول إلى مسيرة طويلة من الرفض والاحتجاج.
- كيفية مبايعة علي بن أبي طالب لأبي بكر وشكلها
تحدد المصادر الشيعية سياقًا معينًا لمسألة بيعة علي لأبي بكر، ويمكن أن نحدد ثلاث مراحل متمايزة في ذلك السياق، وهي:
المناشدة والاحتجاج
محاولة تغيير الواقع بالقوة
الرضوخ للأمر الواقع والصبر
في المرحلة الأولى، تمدنا المصادر الشيعية بكثير من الروايات التي تُظهِر محاولة علي بن أبي طالب إقناع المسلمين عمومًا، وأنصار أبي بكر منهم خصوصًا، بأحقيته في ذلك الأمر، وأنه أوْلى الناس به بعد الرسول.
من تلك الروايات، ما ورد في «الإمامة والسياسة» لابن قتيبة، إذ نُسِب إلى علي أنه قال: «الله الله يا معشر المهاجرين، لا تُخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته، إلى دوركم وقعور بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين، لنحن أحق الناس به، لأنَّا أهل البيت، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية، والله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله، فتزدادوا من الحق بعدًا».
ذكرت بعض الروايات، ومنها ما أورده الطبرسي في «الاحتجاج»، أن أبا بكر تأثر كثيرًا بقول علي، وطلب منه بعض الوقت ليتفكر في الأمر، وإنه كاد يترك الخلافة لعلي، لكن عمر بن الخطاب أقنعه بالعدول عن موقفه.
أما المرحلة الثانية في السياق الروائي الشيعي الخاص بتلك القضية، ففيها أن عليًّا قد عمل على حشد الأنصار واستثارة عزائمهم في سبيل تشكيل المعارضة المسلحة ضد السلطة الجائرة القائمة.
أجمعت الروايات الشيعية في المصادر التي ذكرناها على أنه لما حل الليل، حمل عليٌّ فاطمة على حمار وأخذ بيدي ابنيه الحسن والحسين، ومر على جميع المسلمين البدريين (من حضروا غزوة بدر)، سواء كانوا من المهاجرين والأنصار، وطلب منهم النصرة والعون، فاستجاب لطلبه أربعة وأربعون رجلًا وبايعوه على الموت.
ولما كان عليٌّ يريد أن يعرف مدى التزامهم بما قطعوه على أنفسهم من عهود، طالبهم بأن يأتوه في الغد وقد حلقوا رؤوسهم ومعهم أسلحتهم ليبايعوه على الموت. لكن لم يَقدِم عليه منهم إلا أربعة رجال فقط، هم: الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري، وتكرر ذلك على مدار ثلاثة أيام متعاقبة، ولم يحضر فيهم إلا نفس الأشخاص الأربعة.
تستكمل الروايات الشيعية تلك المرحلة من السياق، بوجود رد فعل قوي من جانب السلطة لإجبار علي بن أبي طالب على المبايعة. إذ يرسل أبو بكر وعمر مجموعة من الرجال لحصار بيت علي وفاطمة، حيث علي وبعض أنصاره الرافضين لحكم أبي بكر.
الروايات السنية لم تتطرق لمسألة بيعة علي لأبي بكر بنفس الكثافة أو التركيز التي تطرقت به الروايات الشيعية.
ترى تلك الروايات أن عمر بن الخطاب هدد صراحةً بإحراق المنزل، إن لم يخرج من بداخله ويبايعوا.
ثم تستكمل تلك الروايات رسم الصورة المأسوية، بوصفها تفاصيل اقتياد علي ومن معه إلى الخليفة الأول، حيث أُجبر على البيعة بعد أن هددوه بالقتل.
أما المرحلة الثالثة من ذلك السياق، فهي مرحلة تبريرية في الأساس. ذلك أنه قد ظهرت حاجة ملحة إلى وضع مبررات تفسر اختيار علي السكوت على حقه المهضوم، ولماذا لم يصر على موقفه الرافض لمبايعة أبي بكر.
تلجأ الروايات في هذه المرحلة إلى بعض الإشارات الغيبية والمستقبلية التي قيل إن الرسول أطلع ابن عمه عليها. من ذلك أن الرسول أخبر علي بما سيحدث من تظاهر القوم عليه بعد وفاته، وأنه قال له «إنْ وجدتَ عليهم أعوانًا، فجاهدهم ونابذهم، وإن أنت لم تجد أعوانًا، فبايع واحقن دمك»، وذلك حسبما ورد في كتاب سليم بن قيس.
هكذا قدمت الرواية الشيعية تبريرًا للجوء علي بن أبي طالب إلى بيعة أبي بكر. وسنجد كثيرًا من الروايات الأخرى التي تبين صبر علي على ما لحق به من الأذى والضيم. من ذلك ما نُسِبَ إليه في نهج البلاغة، أنه قال: «وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء (مقطوعة) أو أصبر على طيخة (الظلم) عمياء، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبًا».
الروايتين السنيتين في مسألة بيعة علي لأبي بكر لا تعطيان مجالًا لسرد وقائع معارضة علي بن أبي طالب للسلطة، أو كيفية إجبار السلطة له على البيعة.
هناك عدد من الملاحظات على السياق الروائي لتلك القضية. الأولى: الروايات السنية لم تتطرق لمسألة بيعة علي لأبي بكر بنفس الكثافة أو التركيز التي تطرقت به الروايات الشيعية، فقد اختارت المصادر السنية أن تغض الطرف عن تلك المسألة، حتى إنه لم يشتهر إلا روايتان فقط في ما يخص تلك القضية.
الرواية الأولى، وهي أن عليَّ سارع إلى مبايعة أبي بكر بمجرد انتهاء اجتماع السقيفة، وهي الرواية التي أشرنا إليها من قبل.
الرواية الثانية، أن علي بايع أبا بكر بعد ستة أشهر كاملة من وفاة الرسول، وهذه الرواية هي الأكثر صحة وثبوتًا في كتب أهل السنة والجماعة.
سنجد أن الروايتين السابقتين لا تعطيان مجالًا لسرد أي وقائع أو أحداث في ما يخص محاولة علي بن أبي طالب معارضة السلطة من جهة، أو كيفية إجبار السلطة له على البيعة من جهة أخرى.
الملاحظة الثانية، أنه رغم الرفض العام السني لتفاصيل السياق الروائي الشيعي لكيفية مبايعة علي لأبي بكر، فإننا نستطيع أن نعثر على كثير من الروايات المفردة التي تناولت بعض تلك التفاصيل أو اقتربت منها، لكن دون أن تكون تلك الروايات منتظمة في سياق واحد متصل. من ذلك ما ورد في كتب السنة عن تخلُّف علي والزبير عن بيعة أبي بكر، وعن تهديد عمر بإحراق منزل علي وفاطمة وإجباره لهما على البيعة.
ربما تكون تلك الروايات تسللت إلى المصادر السنية عبر بعض الإخباريين من ذوي الهوى الشيعي، لكنها ربما تشير كذلك إلى درجة ما من الصدق لبعض أجزاء الرواية الشيعية عن البيعة. كانت السقيفة مقدمة إذًا لبذر الخلاف بين مجموعات من الصحابة، ومقدمة للتطور المذهبي مرتين: مرة على صعيد الواقع السياسي نفسه، إذ تتصاعد الأحداث حتى تقود إلى الفتنة، ومرة على صعيد الخيال المذهبي، إذ أصبحت السقيفة واحدة من نقاط افتراق المذهبين السني والشيعي بشأن التاريخ الإسلامي.