مشروع الدويلة الكردية .. الحُلم الضائع للاتحاد الديمقراطي الكُردي
- أولًا: مدخل
أطلق “مظلوم عبدي” (القائد العسكري لقوات سوريا الديمقراطية/ قسد)، في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، مبادرة دعا فيها إلى إزالة العقبات التي تحول بين أحزاب “المجلس الوطني الكردي”، وإعادة فتح مكاتبها وممارسة نشاطها السياسي في المناطق التي تسيطر عليها قوات (قسد)، وذلك في سبيل إعادة الثقة بين الفعاليات السياسية الكردية و”الإدارة الذاتية” التي يهيمن عليها حزب الاتحاد الديمقراطي، وفقًا لهدف المبادرة.
ومن المعروف أن “الإدارة الذاتية”، منذ بداية عهدها في العام 2014، حظرت نشاط أحزاب المجلس الوطني الكردي، ولاحقت نشطاءه، ومنعت أغلب قيادات أحزابه من البقاء في مناطق سيطرتها، وذلك لأنها لم تخضع لتوجهات حزب الاتحاد، وقد تبيّن باكرًا أن هناك تباينًا في المواقف السياسية تجاه الثورة السورية والموقف من النظام، والأهم أن هناك تضاربًا في الرؤية حول سورية المستقبلية، وحول موقع ودور الأكراد السوريين وقضيتهم فيها، بسبب اختلاف الولاءات الإقليمية والدولية لكلا الطرفين.
مظلوم عبدي، الذي تصدّر الواجهة العسكرية لقوات (قسد) وقوات حماية الشعب YPG، والواجهة السياسية لحزب الاتحاد الديمقراطي و”الإدارة الذاتية”، قُبيل القضاء على (داعش) في آخر جيوبها في الباغوز في 23 آذار/ مارس 2019، ما كان له أن يُطلق تلك المبادرة، لولا أن هناك عاملين متزامنين ومتكاملين، أولها الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة وفرنسا، ضمن محاولاتهما جمع كلمة القوى الكردية تمهيدًا لتسهيل الحل السياسي للصراع في سورية، الذي تتزايد المؤشرات على تسارع وتيرة العمل عليه من قبل الدول المتدخلة والمجتمع الدولي؛ وثانيهما وصول مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي، بإقامة كيان كردي (تكون نواته الإدارة الذاتية في شمال شرق سورية)، إلى طريق مسدود، إضافة إلى أن معطيات الواقع الميداني تحولت إلى غير مصلحة الحزب، بخاصةٍ بعد عملية “نبع السلام”، حيث سيطرت قوات “الجيش الوطني” والجيش التركي، على منطقتي تل أبيض ورأس العين، بموافقة من الولايات المتحدة وروسيا، وكان ذلك بمنزلة إنذار لقادة الاتحاد الديمقراطي، بأن يتخلوا عن جموحهم وأوهامهم، وأن يتواضعوا في طموحاتهم، وأن يعيدوا وصل ما قطعوه من خيوط مع القوى السياسية والفاعليات الكردية، كي يضمن الأكراد وقضيتهم حضورًا وتمثيلًا في أية مفاوضات قادمة حول الحل السياسي المنتظر.
وعلى الرغم من عقد أربع جلسات تفاوض بين الطرفين الكرديين، برعاية أميركية، يصعب أن تفضي المفاوضات الجارية بين الطرفيين الكرديين إلى نتيجة قابلة للاستمرار، حيث إن تاريخ العلاقة بين الطرفيين لا يشجّع على ذلك، إضافة إلى أن تجربة حزب الاتحاد الديمقراطي غير مشجعة، وأن القهر الذي مارسه في السنوات السابقة، على معارضيه الكرد والعرب، يصعب تجاوزه، يضاف إلى ذلك علاقة كل من الطرفيين بأطراف الصراع الأخرى التي تعدّ عامل تعقيد آخر. وعلى كل الأحوال، فإن هذه التجربة من المفاوضات تُعدّ اختبارًا مبكرًا، للكيفية التي سيكون عليها الحضور الكردي في العملية السياسية وفي مستقبل سورية.
- ثانيًا: حزب الاتحاد الديمقراطي مسيرة ملتبسة واستراتيجية فاشلة
تأسس حزب الاتحاد الديمقراطي في سورية عام 2003، تحت نظر المخابرات السورية، كذراع لحزب العمال الكردستاني الذي كان يقاتل في تركيا متخذًا من الأراضي السورية قاعدة انطلاق ومعسكرات تدريب ونقطة تنظيم وإدارة لعملياته منذ الثمانينات حتى العام 1998، عندما اضطر النظام السوري إلى إخراج عبد الله أوجلان باتجاه روسيا، بعملية انتهت بإلقاء القبض عليه في مطار نيروبي من قبل جهاز الاستخبارات التركي بتاريخ 15 شباط/ فبراير 1999.
لم يشارك حزب الاتحاد الديمقراطي في أي نشاط سياسي للمعارضة السورية، عربية كانت أم كردية، حتى في أحداث الملعب والانتفاضة الكردية بتاريخ 12 آذار/ مارس 2004 التي قُتل فيها تسعة متظاهرين واعتُقل فيها المئات من الشباب الكرد مدة وجيزة، لكن مع انطلاقة الثورة السورية في آذار/ مارس 2011 دخل حزب الاتحاد الديمقراطي حلبة الحراك السياسي الذي نشطت فيه أحزاب المعارضة، في سياق محاولات توحيد جهودها ومواقفها من الثورة، وقد تحفظت بعض القوى السياسية على دخول الحزب، باعتبار أن أجندة الحزب غيرُ سورية، إلا أن قوًى أخرى أتاحت له أن يكون عضوًا مؤسسًا لهيئة التنسيق الوطنية التي تأسست بتاريخ 30 حزيران/ يونيو 2011، لكنه ما لبث أن خفف نشاطه فيها، بعد أن تشكل (مجلس سوريا الديمقراطية/ مسد) الذي يُعدّ الجناح السياسي لقوات حزب الاتحاد في إدارة منطقة الحكم الذاتي في شمال وشرق سورية.
مع انطلاقة الثورة السورية وانخراط الشباب الكردي في تظاهراتها بشكل واسع، في كل مناطق وجود الأكراد في المدن السورية، لدرجة أنه كان هناك أسبوع للتظاهر تحت مسمى (جمعة “آزادي”)؛ جاء موقف حزب الاتحاد الديمقراطي ملتبسًا، وهو الذي يدّعي أنه “حزب معارض” للنظام، ولم يكتفِ بعدم مشاركة نشطائه في الحراك، بل إنه جابه في المرحلة الأولى التظاهرات الكردية بتظاهرات مضادة. ومع تقدم الثورة وتوسّعها؛ تمكّن الحزب، باستخدام العنف، من أن يمنع التظاهرات الكردية في كل المناطق الكردية التي يشكل فيها أغلبية، ثم أجرى انتخابات في كل المناطق التي يوجد فيها الأكراد، كمقدمة لإعلانه “الإدارة الذاتية”، وعلى غير عادته، لم يعترض النظام، حيث يُعتقد أن اتفاقًا غير معلن كان قد أُبرم بين أجهزة النظام وحزب الاتحاد الديمقراطي، قضى بإيكال المهمات الخدمية في مناطق الشمال للحزب، ثم تطور الاتفاق لاحقًا إلى دور أمني واقتصادي، مع إعلان حزب الاتحاد الديمقراطي “الإدارة الذاتية” رسميًا في العام 2014، مع احتفاظ النظام بمربعات أمنية، في كل من الحسكة والقامشلي، كحضور رمزي، تعبيرًا عن تبعية تلك المناطق للحكومة السورية، وعلى الرغم من أن خطوة النظام تلك جاءت في سياق تخفيف الأعباء، بعد أن توسعت الثورة وخرجت كثير من المناطق عن سيطرة النظام، فإن النظام نظر إلى الموضوع من زاوية محددة، وفقًا لعقليته الأمنية، بحيث يترك خلفه ما يستطيع من ألغام، لتفجير أي وضع مستقبلي في سورية وتأخير استقرارها، في حال هزيمته في هذه الثورة، أما إذا “انتصر” وسيطر على الوضع، فإنه من السهل عليه إعادة ضبط حزب الاتحاد، على الأقلّ من باب رد الجميل، أو بحكم علاقة الطرفين مع إيران التي لن تبخل ببذل الجهود الحميدة بهذا الشأن. ومن الجهة المقابلة، اندرج حزب الاتحاد في تلك المغامرة تاركًا النتائج لتطورات الأوضاع التي لا يمكن التكهن بها مسبقًا، وقد بيّنت التجربة أن حزب الاتحاد وإدارته الذاتية قد قدّمت من الخدمات للنظام ما فاق تقديراته، سواء لجهة استثمار النفط وإيصاله إلى مناطق النظام، أو لجهة إيصال المحاصيل الزراعية إليه، فضلًا على التعاون الأمني على نطاق واسع.
إن بروز قوى التطرف الإسلامي، كتنظيمي (داعش) و(النصرة)، وسيطرتهما على مناطق واسعة، على حساب كتائب “الجيش الحر” التي بقيت مشتتة بتأثيرات المناطقية والجهوية وتوجهات الداعمين، شكّل فرصة لحزب الاتحاد الديمقراطي وإدارته الذاتية لتوسيع طموحه السياسي، فعندما سيطرت (داعش) على مدينة عين العرب/ كوباني ذات الغالبية الكردية، استنجد الحزب بالولايات المتحدة، وانخرط ضمن قوى التحالف الدولي في حربه على (داعش).
إن مشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي في الحرب على (داعش)، وحجم الدعم العسكري والمالي الذي تلقته قوات (قسد) وعمادها “قوات حماية الشعب”، التي تشكلت بمشاركة فصائل عربية وسريانية ومتطوعين أجانب وفدوا من دول عديدة بدعوة من الحزب، سمحت لقوات (قسد) بتوسيع رقعة سيطرتها مستفيدة ومطمئنة على ما يبدو للدعم الأميركي، فاحتلت كامل محافظة الرقة ومناطق واسعة من محافظة دير الزور، بالتناسب الطردي مع تراجع تنظيم (داعش) بفعل ضربات التحالف الدولي. إن توسع مناطق سيطرة (قسد) وتنامي قوتها، دفع “مجلس سوريا الديمقراطية” إلى إعلان الفدرالية الديمقراطية لشمال سورية في ربيع العام 2016، وهذا الإعلان استنفر القلق التركي، وكذلك النظام الذي لم يكن يتوقع مثل هذه الخطوة، وقد ساهم ذلك الأمر في الاتفاق ما بين الأتراك والروس والإيرانيين لشق مسار أستانا، الذي هدف في أحد منطوياته إلى التصدي للوضع الذي يحاول حزب الاتحاد الديمقراطي فرضه، ومنها التطلع للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط مع تقدّمه غرب الفرات، واعتباره عفرين أحد مكوّنات فدرالية شمال سورية الثلاثة. وكان هذا واضحًا في ما عُرف باتفاق مناطق “خفض التصعيد” الأربع، ففي نهاية العام 2016، أخرجت روسيا قواتِ المعارضة من حلب الشرقية بعد أن دمّرتها، وقابل ذلك عملية (درع الفرات) حيث سيطرت قوات المعارضة، بمشاركة القوات التركية، على مثلث (إعزاز – جرابلس – الباب)، ثم جاء دور درعا والغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي بالعودة إلى النظام، من ضمن بدعة “المصالحات” التي سارت بها روسيا، مع تبدل في مواقف الدول الداعمة للمعارضة، الأمر الذي سهّل عملية (غصن الزيتون)، وطرد قوات (PYD) من عفرين، ثم فتح الطريق أمام عملية (نبع السلام) حيث طُردت قوات (PYD) وتابعتها (قسد) من تل أبيض ورأس العين.
منذ إعلان “الإدارة الذاتية”، حاول حزب الاتحاد الديمقراطي، عبر انتهازية سياسية مغامرة، تعزيزَ علاقته مع الروس، وحصل على فتح مكتب تمثيل في موسكو، ثم مع إيران بحكم علاقة قيادات قنديل (التي يتبع لها) العميقة مع طهران، وإذا أضفنا علاقته بنظام الأسد وتحالفه مع الولايات المتحدة، فإن أي متابع يمكنه الاستنتاج أن حزب الاتحاد الديمقراطي كان يلعب على أربعة حبال، فيها من التقاطعات والتناقضات واختلاف التوجهات وتفاوت موازين القوى، ما سيرميه على وجهه في أي لحظة؛ فمسيرة التوسع والسيطرة التي اعتمدتها قوات (قسد) بعد معركة كوباني، بدأت خطواتها التراجعية منذ عملية (درع الفرات)، وقد بلغت مفترقًا فاصلًا بعد عملية (نبع السلام) التي نفذتها فصائل المعارضة السورية وقوات من الجيش التركي، بموافقة روسية وأميركية.
على مستوى الممارسة، فإن تجربة حزب الاتحاد الديمقراطي وإدارته الذاتية ولاحقًا فدراليته، كانت تجربة سيئة ومدمرة في مناطقها، حيث مارس الحزب وقواه الأمنية ما يوازي ممارسة أجهزة النظام، فقد منع النشاطَ السياسي أمام أحزاب المجلس الوطني الكردي، وحارب كلّ الفاعليات المدنية التي لم توافقه على مشروعه وتوجهاته، وطرد واعتقل ولاحق ناشطي الأحزاب الكردية المعارضة وقياداتها، واستولى على بيوتهم وممتلكاتهم، كذلك نكّل ببعض العرب وهجّرهم ونهب ممتلكاتهم، خاصة بريفي الرقة وحلب الشماليين، ومن خلال فرض التجنيد الإجباري للشباب، وفرض التعليم وفق منهاجه الخاص، وفرض القوانين التي أصدرها وتتعارض مع قيم السكان المحليين ومعتقداتهم، عمل على تهجير مئات الألوف من الأكراد والعرب خارج سورية، وهؤلاء بقسمهم الأكبر من الذين وصلوا إلى أوروبا لن يعودوا.
من هنا، ونظرًا لمجمل التطورات التي يشهدها الصراع في سورية، ووصول مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي إلى طريق مسدود؛ يمكن أن نفهم دوافع مبادرة “مظلوم عبدي”، في أحد جوانبها، فهل يستطيع الحزب التوصل إلى تفاهمات مع باقي القوى الكردية، تحد من خسائره وتبقيه جزءًا من معادلات سورية المستقبلية؟!
بعد فشل مغامرة حزب الاتحاد الديمقراطي، أن حلّ قضيتهم لا يمكن أن يكون له مستقبل إلا بالنضال المشترك مع القوى الديمقراطية السورية، من أجل سورية موحدة -أرضًا وشعبًا- وحرة وديمقراطية.
- ثالثًا: مسيرة التفاوض وآفاق المبادرة
بدأت المفاوضات بين حزب الاتحاد والمجلس الوطني، برعاية أميركية، مطلع نيسان/ أبريل الفائت، وقد عقدت أربع جولات -حتى الآن- بقواعد عسكرية أميركية في أطراف الحسكة ومنطقة القامشلي، بحضور المستشار لدى التحالف الدولي لمحاربة (داعش) الأميركي وليام ريبك، الذي طلب أن تكون اللقاءات بعيدة عن الإعلام، وعدم التصريح لأي من الطرفين بالإدلاء بأي معلومة حول سير المفاوضات ضمانًا لنجاحها، وبحسب التسريبات، فإن المفاوضات تتركز حول نقطتين أساسيتين: الأولى تتعلق بعلاقة حزب الاتحاد الديمقراطي بحزب العمال الكردستاني، والأخرى تبحث في سبل بناء شراكة حقيقية في الحكم والإدارة، وكل ما أشيع عن التوصل إلى اتفاق في نهاية الجولات الأربع الماضية لم يكن دقيقًا، فقد نفى صالح مسلم (الأمين العام السابق للحزب) في تصريح لموقع باست نيوز، بتاريخ 9 أيار/ مايو الجاري، التوصل إلى أي اتفاق بقوله: “لقد تمت تسوية بعض المسائل بين الطرفين، والآن توقفت المحادثات”. وأضاف: “ما يتم تداوله حول أننا توصلنا إلى اتفاق ليس صحيحًا، ولم يُوقّع أي اتفاق حتى اللحظة”، الأمر ذاته أكده عضو المجلس الوطني الكردي عبد الله كدو إذ نفى التوصل إلى اتفاق نهائي بين الجانبين حتى الآن.
ثمة خلافات مستعصية بين الجانبين، تتركز حول نقاط عدة تجعل الثقة شبه معدومة بينهما، فالاتحاد الديمقراطي يتّهم المجلس الوطني الكردي بالعمالة لتركيا، وبأنه “يعمل ضد مصالح الشعب الكردي”، وأنه ينفذ القرارات التركية، ويتجسس لصالحها، وهذه الاتهامات سبق أن وجهها الحزب إلى قيادة إقليم كردستان العراق، كما يطالب الحزب المجلس بإدانة الاحتلال التركي لتل أبيض ورأس العين وعفرين، في حين أن المجلس يعدّ “الإدارة الذاتية” سلطة أمر واقع، ولا يعترف بها ويطالب الحزبَ بفك ارتباطه بحزب العمال الكردستاني، ويؤكد أن تمثيله في ائتلاف قوى الثورة والمعارضة ليس موضع نقاش، ويطالب “الإدارةَ الذاتية” بالإفراج عن المعتقلين، وبكشف مصير المختفين، ويتهمها بالتكتم على مصيرهم، ومن المفيد التنويه أن المجلس الوطني الكردي يعوّل على مسار مشابه لما جرى بإقليم كردستان شمال العراق، بالمشاركة والتفاهم مع قوى المعارضة السورية، ومن خلال مسيرة جنيف التي يرعاها المجتمع الدولي، في حين أن حزب الاتحاد يرى أن “الإدارة الذاتية” مكسبٌ للشعب الكردي، يجب عدم التفريط به، ويمكن للقوى الكردية الأخرى، ومنها أحزاب المجلس، المشاركة فيها.
ونقطة الخلاف الأساسية تتعلق بارتباطات كل من الطرفين بالأطراف الإقليمية والدولية الأخرى، واضطرار كل طرف إلى مراعاة المصالح والتوجهات المتناقضة؛ فالمجلس يدعو لعلاقات مميزة مع تركيا، ويدعو لعدم استفزاها، ويرى أن حل القضية الكردية يأتي في سياق حل القضية الوطنية السورية، في حين أن الحزب له علاقات بكل من الولايات المتحدة وروسيا وإيران والنظام بدرجات متفاوتة، وبات يعوّل، بعد أن خذلته الولايات المتحدة في عملية (نبع السلام)، على صفقة مع نظام الأسد، بحكم أزمته الاقتصادية المتفاقمة وبمساعدة الروس، تتيح للحزب دورًا في إدارة الشمال على حساب بقية القوى والفاعليات الكردية حتى لو جرى بعض التعديل على صيغة “الإدارة الذاتية”.
وليس من نافل القول أن فقدان الثقة بين الطرفين هو عامل ذو تأثير سلبي، يزيد في تعقيد المفاوضات؛ فتجربة المجلس مع حزب الاتحاد -على هذا الصعيد- لا تدعو للتفاؤل، فقد تم التوصل إلى اتفاقات عدة في السابق برعاية من قيادة أربيل، من اتفاق أربيل1 وأربيل2 واتفاق دهوك وملحق اتفاق دهوك، حيث جرى التفاهم في تلك الاتفاقات على كل شيء، حتى على شكل نظام الحكم في سورية بشكل عام وفي المناطق الكردية بشكل خاص، وآلية تشكيل الجيش وإدارة الموارد الاقتصادية، لكن هذه الاتفاقات لم تجد طريقًا للتنفيذ، بسبب مراوغة حزب الاتحاد الديمقراطي، وربما ستكون النقطة الأصعب، إذا تم التوصل إلى اتفاق، هي الآلية التي ستتم بها إعادة هيكلة القوى العسكرية؛ فالمجلس الوطني لديه ذراع عسكري قوامه قرابة ألف عسكري جرى تدريبهم في إقليم كردستان، وقد شاركوا في معركة تحرير كوباني، وكذلك في المواجهات الدامية مع تنظيم (داعش) عندما هاجمت مناطق الإقليم في 2014، وفي تحرير الموصل ومعارك جبل سنجار، وفي المقال لدى حزب الاتحاد “قوات حماية الشعب” وغيرها من التشكيلات العسكرية، التي تشكل مجتمعة العمود الفقري لقوات (قسد)، ومن غير المتوقع أن يقبل حزب الاتحاد بمعاملة بيشمركة روجآفا، كما يطمح المجلس، نظرًا لفارق القوة بالعتاد والرجال بين القوتين.
لقد شارك الفرنسيون بشكل جانبي في المفاوضات، واجتمعوا على مدار ثلاثة أيام، في قاعدة عسكرية بمنطقة الرميلان، بممثلين عن الطرفين وعن التحالف الكردي الذي يضمّ قوى وفعاليات كردية منخرطة في “الإدارة الذاتية”، بغاية تسهيل المفاوضات، ومن جهة أخرى، صرّحت روسيا بأن لديها مبادرة لتوحيد الكلمة الكردية، قال عنها كاميران حاجو، مسؤول العلاقات الخارجية في المجلس الوطني الكردي: “إنها منفصلة عن الجهود الأميركية والفرنسية، وربما تحمل أهدافًا مختلفة، وأن موسكو ما زالت في مرحلة استطلاع للرأي لدى القوى الكردية، فموسكو تخشى أن تفقد التأثير في الملف الكردي، في حال نجاح واشنطن وباريس في توحيد الموقف الكردي من الحل السياسي، الذي يختلف عن تصورات موسكو لهذا الملف وللحل السياسي في سورية بشكل عام”.
بتاريخ 17 أيار/ مايو الجاري، سرت أنباء عن توصل قوى كردية بتدخل أميركي إلى رؤية سياسية، تتضمن خمس نقاط، من بينها أن سورية دولة ذات سيادة، يكون نظام الحكم فيها اتحادي فدرالي، يضمن حقوق جميع المكونات، واعتبار الكرد قومية ذات وحدة جغرافية سياسية متكاملة في حل قضيتهم القومية، كما تتضمن الإقرار الدستوري بالحقوق القومية المشروعة وفق العهود والمواثيق الدولية، وتشكيل مرجعية كردية تمثل جميع الأحزاب والتيارات السياسية وممثلي المجتمع الكردي في سورية. وعلى فرض صحة هذه الأنباء، تبقى هذه الرؤية بندًا من بنود عديدة ومعقدة تعترض التوافق بين الأطراف الكردية، ويبقى التساؤل مشروعًا حول موقف بقية الأطراف السورية الأخرى من هذه الرؤية الأحادية، وحتى لو نجحت الولايات المتحدة في دفع الطرفين نحو اتفاقٍ ما، فإنه يبقى أمام الطرفين اختبار استمراريته، وهو اختبار ليس من السهل تجاوزه بحكم التجارب السابقة وتعقيدات الصراع في سورية.
- رابعًا خاتمة
أصدرت 26 من الأحزاب والهيئات السياسية الكردية، في 16 شباط/ فبراير 2020، بيانًا دعت فيه إلى توحيد المواقف والرؤى والتحرك بروح الفريق الواحد، ودعت كلَّ القوى والمنظمات الثقافية ووسائل الإعلام والشخصيات الاجتماعية والثقافية والدينية إلى لعب دورها الضاغط والحقيقي، في سبيل تحقيق وحدة الصف الكردي، وحدة الصف الكردي ذاتها التي دعا لها صالح مسلم، الأمر الذي يذكِّرنا بدعوات وحدة الصف العربي، التي انتهت إلى مصير مؤلم، وهنا تحضر إرادة الفاعلين الدوليين؛ فتركيا أعلنت معارضتها للمحادثات التي تجري بين الأحزاب الكردية في شمال شرق سورية، محذرة بأنها “لن تسمح بشرعنة وجود وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني”، وقد صرّح جاويش أوغلو، بتاريخ 16 أيار/ مايو الجاري، “بأن الولايات المتحدة وروسيا تحاولان شرعنة تنظيم وحدات حماية الشعب، عبر دمجه بالمسار السياسي السوري تحت مسمى (قسد)”، وأضاف أن “تركيا ليست ضد الأكراد، ولكن الولايات المتحدة تعمل على خطة لدمج المجلس الوطني الكردي مع حزب الاتحاد الوطني في النظام السياسي القادم في سورية، بعد أن فشل مشروع الدويلة الكردية في شمال شرق سورية”، وليس من الحكمة للقوى الكردية تجاهل الرفض التركي بحكم الجغرافيا، ولا رفض مواقف الأطراف المعنية الأخرى، وعليه فقد آن للقوى الكردية أن تعي، بعد فشل مغامرة حزب الاتحاد الديمقراطي، أن حلّ قضيتهم لا يمكن أن يكون له مستقبل إلا بالنضال المشترك مع القوى الديمقراطية السورية، من أجل سورية موحدة -أرضًا وشعبًا- وحرة وديمقراطية، وذات نظام يعتمد اللامركزية الإدارية الموسّعة.
سعد الله الشريف – كاتب سوري
المصدر : مركز حرمون للدراسات المعاصرة