اللغة العربيةتربية وتعليم

العربية؛ لغة مستقبلِ الشرق الأوسط

في الحلقة الثالثة من حواره مع “عربي21“، يدخل الدكتور سعيد يقطين منطقة الأسئلة الملتهبة، ويحرر النقاش حول العلاقة المفترضة بين اللغة والثقافة والهوية، ويرى أن هذه المفاهيم التي نشأت في الغرب صارت تؤدي وظائف تخدم الاستعمار لاسيما في الدول المستعمرة، بقصد خلق أسباب الهيمنة والتمكين للغة المستعمر.


ويرى يقطين أن الحديث عن لغة البحث العلمي، هو مجرد طرح ديماغوجي يتم استثماره لفرض هيمنة لغوية وثقافية للمستعمر، فيرى بهذا الخصوص أن الأمر يتعلق بلغة نشر علمي، وليس لغة البحث العلمي، وأن هذه السمة، أي النشر العلمي، إنما اكتسبتها بعض اللغات بفضل التطور التكنولوجي والرقمي،

وأيضا بسبب موازين القوى السياسية في العالم، وأن اللغة العربية، ظلت لقرون عديدة تمثل لغة النشر العلمي، وانخرط بالكتابة بها في مختلف التخصصات، أعراق كثيرة من الفرس والأتراك والأمازيغ والأحباش والأقباط وغيرهم.

ويقرر يقطين بكل ثقة بأن اللغة العربية، هي لغة مستقبل هذه المنطقة الجغرافية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لأنها تتميز بصفة وصل الماضي بالحاضر، وهي السمة غير المتوفرة للعديد من الثقافات والحضارات الحديثة.

هذا فضلا عن كونها تتمتع بسمة الجمع بين شعوب هذه المنطقة المركزية في العالم، وذات الحساسية الخاصة، لتوحد جهودها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، ليكون لها موقع في عصر العولمة الذي يشتد فيه التجاذب من أجل المصالح الكبرى.

ويخلص إلى أنه لا حديث عن التنمية بدون رؤية وطنية شاملة لكل القضايا بدءا من اللغة الوطنية التي تحقق بها وجود الإنسان في التاريخ والحاضر إلى التفكير في المستقبل.

ـ “عربي21”: الثقافة واللغة والهوية، قضايا إشكالية مثّلت في الآونة الأخيرة محور تجاذبات كثيرة، بين وجهة نظر ترى أن الهوية ليست جامدة وأنها تتجدد، وأن مكوناتها وروافدها كثيرة، ولا يمكن أن تبقى بجوهر فرداني قومي عنصري، وبين وجهة نظر أخرى، ترى في هذه التركيبات المعرفية الجديدة إعادة تحيين لخطاب الهيمنة الثقافية بالاستناد إلى حجة الانفتاح ومحاربة الانغلاق. كيف تنظر إلى نسق العلاقات بين هذه القضايا الثلاث؟

ـ سعيد يقطين: كثيرة هي المفاهيم التي أفرزها الغرب الحديث، وخاصة بعد الحرب الثانية، ونقلت إلينا بشكل لا يتلاءم مع تاريخنا وحضارتنا. استعملت الثقافة والهوية واللغة بصورة استغلالية من لدن بعض الجهات للدفاع عن أطروحات معينة لمقاصد خاصة، لا علاقة لها بها.

فالثقافة واللغة والهوية مفاهيم جنسية ( générique) عامة، وبدون التدقيق في أنواعها وفروعها ومكوناتها المختلفة لا يمكن إلا أن يسود الالتباس. لا يمكن أن نتحدث عن ثقافة ولا عن لغة ولا عن هوية بالإفراد. إنها مفاهيم تختلف بحسب الوسائط والسياقات والعصور. كما أننا لا نجد لها تعريفات محددة ونهائية.

لنأخذ مفهوم الهوية على سبيل التمثيل. إنه مفهوم متعدد الدلالات بتعدد ما يمكن أن نعرّفه به. فكما يتصل هذا المفهوم بالفرد يرتبط بالجماعة. إن أي فرد يمتلك عدة هويات تبعا لموقعه الثقافي والاجتماعي والسياسي في المجتمع الذي يعيش فيه. في الهوية ما هو عام، وخاص، وثابت ومتحول، ودائم وعابر، وما هو ثقافي ولغوي وفكري، وبات الحديث عن الهوية الرقمية متداولا.

لعب الاستعمار دورا كبيرا في محو ثقافات ولغات الشعوب التي احتلها أو استوطنها، وفرض هيمنته اللغوية والثقافية عليها

لم تطرح مفاهيم الهوية والثقافة واللغة إلا في العصر الحديث الذي هيمن فيه الاستعمار منذ القرن التاسع عشر. وبعد الحرب الثانية صارت تتخذ صورا أخرى في مرحلة الاستعمار الجديد. مع الاستعمار لا وجود لأي هوية سوى الهوية الغربية. ولا لغة ولا ثقافة إلا ما اتصل بالغرب. كل الشعوب والأمم المستعمرة لا هوية لها، ولا تاريخ ولا حضارة، وعليها أن تخضع للهيمنة الثقافية الغربية.

إذا كانت الهيمنة الثقافية الغربية هي المسؤولة عن تشكل هذه المفاهيم تاريخيا، فإنها أيضا هي التي تفرضها حاليا. لقد لعب الاستعمار دورا كبيرا في محو ثقافات ولغات الشعوب التي احتلها أو استوطنها، وفرض هيمنته اللغوية والثقافية عليها.

وحاليا ليحارب بعض الأمم والشعوب، وعلى رأسها العربية والإسلامية، لإبقائها تحت سيطرته باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، يعرّض ثقافتها ولغتها وهويتها التاريخية للسؤال باسم الشعوب الأصلية والهويات المهمشة، ويجد من ينتصر لهذه الدعاوى من المثقفين.

إن مشاكل المفاهيم الثلاثة لا علاقة لها لا بالانفتاح ولا بالانغلاق ولا بالحوار بين الثقافات والحضارات. إنها امتداد للصراع بين الغرب والمستعمرات القديمة. ولذلك فهي تتخذ أبعادا إيديولوجية وسياسية بالدرجة الأولى والأخيرة. ويتم استغلالها لفرض المزيد من الهيمنة وإدامة الفجوة بين الأمم والشعوب لإبقائها في فلكه. وما السجالات حول اللغة العربية والفرنسية في التدريس بالمغرب سوى مثال صارخ على ذلك.

ـ “عربي21”: الانفتاح والانخراط في مجتمع المعرفة يتطلب التمكن من اللغات الأجنبية باعتبارها أو على الأقل باعتبار بعضها لغة البحث العلمي التي تبوأت هذه المكانة وفرضت إيقاعها الكوني، في نظرك بأي صيغة يمكن أن نحقق هذا الهدف؟ بالتماهي مع لغة الغير؟ أم بالترجمة؟ أم بتقوية اللغات الأجنبية؟ أم بأي صيغة؟

ـ سعيد يقطين: في سؤالك نبرة ضمنية تؤكد ما أقول، وهي تعبير عما يروج حول المفاهيم الثلاثة في الوطن العربي. مجتمع المعرفة قوامه العلم، والأخذ بأسباب المعرفة العلمية في النظر والعمل. وحين لا نكون منخرطين في عصر المعرفة، في تعليمنا، وفي أنماط تفكيرنا، لا يمكننا أبدا الانفتاح أو الانخراط في مجتمع المعرفة.

لنناقش الآن مسألة اللغة. هل يمكننا أن نقول إن اللغة العربية لغة الشعر، والإنجليزية لغة العلم؟ هذا كلام يردده من يهاجم العربية لمقاصد خاصة. منذ متى كانت الإنجليزية لغة العلم؟ ولماذا صارت الآن لغة العلم؟ لغة البحث العلمي هي اللغة التي يشتغل بها العلماء وفق إجراءات وقواعد الفكر العلمي أيا كانت اللغة التي يوظفونها.

هذه هي لغة البحث العلمي. وهناك لغات أخرى داخل أي لغة: مثل ما نقول لغة الشعر، لغة الفلسفة، لغة التصوف، لغة السياسة، الإنجليزية الآن صارت لغة النشر العلمي لأسباب معقولة تتصل، من جهة، بكونها لغة الفضاء الشبكي، والمعلوميات والبرمجيات، وكلها تشكلت وتطورت في أمريكا لأسباب تاريخية. وهي، من جهة ثانية، فرضت نفسها بسبب السياسة التي تنهجها أمريكا على مستوى البحث العلمي، والتي تجاوزت فيها الكثير من البلدان عالميا.

لقد لعب الاستعمار دورا كبيرا في محو ثقافات ولغات الشعوب التي احتلها أو استوطنها، وفرض هيمنته اللغوية والثقافية عليها

بدون التفريق بين لغة العلم، ولغة النشر العلمي لا نكون ندافع عن ضرورة أخذ العرب بأسباب المعرفة العلمية، وهذا هو المطلب الذي لا نوليه ما يستحق من العناية في تعليمنا ومؤسساتنا المعرفية، ولكننا ندافع عن التبعية اللغوية. وكما كان في الوطن العربي من يدافع عن لغة المستعمر ضد العربية، نجد الآن من يدافع عن الفرنسية أو الإنجليزية بدعوى أنهما لغتا العلم، فأين الهوية والثقافة، ولو بالمعاني التي يرددها من يتشدق بهما؟

إذا ما أنجزنا بحوثا علمية رائدة باللغة العربية سيعمل الجميع على ترجمتها إلى لغاتهم، ومن بينها الإنجليزية. تدريس لغات مثل الفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية والصينية وغيرها من اللغات ضرورة ليكون لنا تعليم منفتح على العالم. ترجمة الأبحاث الأجنبية إلى العربية لا أحد يجادل فيه. والعمل على إنجاز أبحاث علمية جديرة بهذا النعت باللغة العربية في كل الاختصاصات رهان ينبغي أن نعمل من أجله لدخول العصر المعرفي.

إن المشكل الجوهري في الوطن العربي هو: العلم، وليس اللغة، ولا الثقافة، ولا الهوية، ولا الدين. بالعلم يمكننا أن نفرض وجودنا على الصعيد العالمي، وليس بالسجالات السياسوية عن الهويات والثقافات واللغات. لولا التطور الذي عرفته أوروبا، وبعد ذلك أمريكا، على المستوى العلمي والمعرفي منذ القرن التاسع عشر ما كان ليحصل التطور نحو الديمقراطية، ولا لتكون لهما المكانة التي يحتلانها اليوم عالميا وعلى المستويات كافة.

ـ “عربي21”: يثار جدل كبير في الآونة الأخيرة حول العلاقة بين اللغة والتنمية، بين اللغة والتعلم، نريد رأيك في الموضوع، أي لغة تضمن رفع الإعاقات أمام التقدم؟ وبأي لغة يمكن أن نصنع التنمية؟ باللغة الأم، أم بالتماهي مع لغة أجنبية؟ أي التجارب تستأنس بها لدعم وجهة نظرك في الموضوع؟

ـ سعيد يقطين: ما هي اللغة الأم؟ هذا من المفاهيم التي صرنا نتداولها اليوم بدون أن نعرف أنها تشكلت في الغرب الحديث لأسباب تتعلق بالهجرات منذ الخمسينيات من القرن الماضي. علينا التمييز بين اللغات واللهجات الشفاهية، وبين اللغات المكتوبة. هناك لغات ولهجات خاصة ظلت تستعمل في مناطق خاصة، ولم تنتقل إلى الكتابة لأسباب تاريخية.

ومع الاستعمار تم فرض إحدى لغات المحتل (الفرنسية والإنجليزية مثلا في الكاميرون) لتكون اللغة الرسمية التي تستعمل في الكتابة باعتبارها اللغة الجامعة والمشتركة بين المواطنين في وطن ما على حساب كل اللهجات الموظفة في الحياة اليومية.

بالنسبة للعالم العربي، صارت اللغة العربية لغة الكتابة في كل المناطق التي دخلها الإسلام، وبها أنتج كل ما يعرف بالتراث العربي الإسلامي والذي ساهمت فيه جميع الأعراق والإثنيات إلى جانب دورها في تطور التاريخ العربي الإسلامي باعتبارها جزءا من هذه الحضارة.

لقد كتب بالعربية إلى جانب العرب الفرس والترك والكرد والأمازيغ والأحباش والأقباط،، كما أن التاريخ العربي الإسلامي بإيجابياته وسلبياته، ساهمت فيه كل هذه الأعراق والأجناس. كانت العربية هي اللغة المشتركة بين الجميع، وبها دوِّن كل ما نسميه الآن التراث العربي. كل اللغات واللهجات التي كانت سائدة في العالم العربي، ظلت تستعمل في مناطق محدودة، ومتداولة شفاهيا ومن بينها اللهجات العربية.

لم يفلح الاستعمار في اقتلاع العربية، وإن نجح في فرض لغته الفرنسية أو الإنجليزية في المناطق التي استعمرها. فما هي اللغة التي يمكن أن يوظفها الذين يستعملون اللغة العربية الكتابية لينخرطوا في العصر المعرفي؟ هل إحدى اللغات واللهجات المتداولة؟ أم لغة المستعمر القديم؟ أم الإنجليزية بدعوى أنها لغة العلم؟

صارت اللغة العربية لغة الكتابة في كل المناطق التي دخلها الإسلام، وبها أنتج كل ما يعرف بالتراث العربي الإسلامي والذي ساهمت فيه جميع الأعراق والإثنيات

كل الدول التي تشكلت حديثا وجدت نفسها أمام ضرورة أن تكون لها لغة وطنية مشتركة إلى جانب لغات أخرى يمكن أن تكون رسمية. إذا ضربنا مثال الصين نجد فيها أكثر من عشر لغات حسب تعدد المناطق، وكل لغة لها تاريخها الكتابي والشفاهي بشكل أو بآخر. لكن الصينية المعيار التي اعتمدتها الدولة الحديثة هي لغة المدرسة والإدارة والتبادل التجاري.

إنها هي اللغة التي تنشر بها الدراسات العلمية، ومنها وإليها تمارس الترجمة، وهي اللغة التي يعمل الصينيون على تعليمها للآخرين في العالم.
ولعل هذا من بين أسباب نجاحها. لكن الدول التي شكلها الاستعمار، ولم تفلح أي لغة من لغاتها في فرض نفسها نجدها لا توظف سوى لغة المستعمر. فهل يستقيم الأمر مع العربية؟

إن اللغة العربية، بدون أي ديماغوجية سياسوية انفعالية سواء كانت تدافع عنها أو تهاجمها، هي لغة مستقبل هذه المنطقة الجغرافية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. إنها تصل الماضي بالحاضر، وهذا غير متوفر للعديد من الثقافات والحضارات الحديثة.

كما إنها اللغة التي يمكن أن تجمع شعوب هذه المنطقة المركزية في العالم، وذات الحساسية الخاصة، لتوحد جهودها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ليكون لها موقع في عصر العولمة الذي يشتد فيه التجاذب من أجل المصالح الكبرى، والذي لا مجال فيه للكيانات الضعيفة والمتفرقة.

بهذه اللغة يمكننا أن ننفتح على الفكر العلمي وعلى العالم ولغاته وثقافته، وبها يمكن أن يكون لنا وجود. أما الأطاريح السياسية المتداولة حاليا من لدن العرب أنفسهم فهي لا تصب إلا في استمرار التجزئة والتخلف والتبعية، وهذا ما تسعى إليه كل الدول التي ترمي إلى إبقاء العرب خارج التاريخ، ولا تهمك اللغات والمفاهيم والمصطلحات وأنواع الفوضى المدمرة التي يسمونها الخلاقة. إنها فعلا فوضى خلق المزيد من نيران النفط التي يحرقون بها المنطقة؟

لا حديث عن التنمية بدون رؤية وطنية شاملة لكل القضايا بدءا من اللغة الوطنية التي تحقق بها وجود الإنسان في التاريخ والحاضر إلى التفكير في المستقبل.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى