اللغة العربية

إحياءُ اللغة العربية إحياءٌ لأُمَّتِها

تسعى كثيرٌ من الهيئات والمؤسسات والمعاهد النظامية والخاصة إلى إحياء اللغة العربية، وتبدُلُ في ذلك جهداً كبيراً، كما تضطلع بمَهمة حماية وإحياء اللغة العربية شخصياتٌ أدبية وفكرية عربية نافذة، بالإضافة إلى المجهودات الجبارة والمتواصلة لبعض الشخصيات السيادية في بعض الدول العربية وتحت رعايتهِم السامية، والمتمثلة في إطلاق مشاريع تعليمية وفكرية وأدبية وثقافية، وتدشينِ مكتباتٍ ومرافقَ متنوعةٍ خاصةٍ لخدمة اللغة العربية، بالإضافة إلى إحداث جوائز مُعتبَرة على المستوى الوطني والدولي، لتشجيع الكفاءات والمواهب العربية في شتى الحقول العلمية والمعرفية المرتبطة باللغة العربية.


ولكن الملاحظ أن كلَّ هذا لم يُعطِ أُكله، أو لنقل ظل تأثيرُه محدودا ومحصورا للغاية، ولازالت اللغة العربية بشهادة القاصي والدَّاني آخذةٌ في الانحصار والتهميش والتقهقر، وإقصاؤُها يزيد يوما بعد يوم. والسبب، عدم تشخيص المشكل الأساسي الذي بسببِه تعاني لغتُنا العربية كلَّ هذا الحيف والظلم.


وأنا أستطيع وبكل ثقة أن أقول إن هذه الترقيعات التي نسمعُ عنها هُنا وهناك وفي فترات متباعدة، لن تؤدِّي إلى شيء ذا بالٍ؛ أللَّهُمَّ إلا إلى مزيدٍ من إهدار المال والجهد والوقت. وأنَّ تشخيصَ الحالة والكشف عن مَكمنِ المشكل، أمرٌ لا مفر منه. وكلما تأخر هذا التشخيص، تعقدتْ آلياتُ وسُبُل الحلحلة والمعالجة.


إن أيَّ إجراءٍ أو سياسية تصحيحية أو مشاريعَ إنمائية أو مخططاتٍ إصلاحية تستهدف إصلاح المنظومة التعلمية بشكل عام وتستهدف إنقاذ وإحياء اللغة العربية على وجه الخصوص، لن تنجح ولن تُفلح مهما بلغتْ كُلفتها المادية ومهما وُفِّرَتْ لها من تجهيزات وأدوات وإمكانيات، ما لم يكن الـمُعلم أو الأستاذ المعنيَ والمستهدفَ الأول من هذه الاصلاحات.


إذ إنَّ الأستاذ أو المدرِّس هو أسُّ نظام التعليم ورُكنُه الأساسي، وهو المورِد الأول والأهم في كل عمليةِ إحياءٍ أو إصلاحٍ أو تطويرٍ للمنظومات التعليمية بشكل عام. وإذْ نتحدث عن المعلم والأستاذ فإننا نقصد بالدرجة الأولى وضمن نفِسِ السياق؛ أستاذَ ومعلمَ اللغة العربية وما يتفرّعُ عنها من شُعب وتخصصات.


وإذا ما ألقينا نظرة على موقع ومكان المعلم في كثير من الدول العربية (مع وجود استثناءات؛ والاستثناء لا يُقاسُ عليه) سنجد نماذج مختلفةً ومتباينةً تشترك كلُّها في تهميش الأستاذ وإقصائِه ماديا ومعنويا، فباستثناء دولة أو دولتين سنجد أن هذا المعلم أو هذا الأستاذ ليس أولوية، بل عنصرا ثانويا يأتي في ذيل القائمة.


العينة الأولى من الدول العربية يتم فيها إعطاء كل الأهمية للفضاءات التعليمية والأقسام والمناهج، والحرص على استعمال كل التقنيات والأساليب الحديثة في التعليم والتدريس، وهذا أمر جيد جدا، لكنه يفتقر إلى أهم عنصر وهو الأستاذ / المعلم، بسبب ضعف التكوين وضعف المنظومة ككل، لذلك لا تُبارح هذه الدول مكانَها على مستوى إنتاج كفاءات علمية وفكرية وأدبية على درجة عالية من الجودة.


عيّنة أخرى تُوظِّف كل الإمكانات والتجهيزات الحديثة لتوفير بيئة تعليمية نموذجية، وتُغذيها بأُطُر وكوادرَ تعليمية خبيرةٍ ولكنها مستورَدَة، دون تحقيق نوع من التكافؤِ بين التخصصات، خصوصا تلك التي لها علاقة بأصولِنا وثقافتنا وهويتنا، وأقصد هنا بالدرجة الأولى اللغة العربية حيث يتم جلب واستقطاب الأساتذة في اللغات الأخرى (إنجليزية / ألمانية / الفرنسية/ التركية..) من مختلَف دول العالم، مع تهميش وإهمال وإقصاءٍ واضح وأحيانا متعمّدٍ للغة العربية لغةِ القرآن والفلسفة والعلوم والتاريخ والفكر والأدب والحضارة،


الأمر الذي انعكس سلبا على كثير من المجتمعات العربية، التي صار أهلُها يتنافسون في تعلم اللغات الأجنبية، ويتفاخرون بولوج أبنائِهم المعاهد والمؤسسات العُليا العالمية، وأصبحتْ اللغة العربية منبوذة في وطنها، وأصبح كثير من العائلات والأسر تتحرَّج من تدريس هذه اللغة لأبنائها، بل وصار التباهي بالإنجليزية والفرنسية والألمانية في النوادي والأسواق وفي الشوارع أمرا مُشاعا وعاديا، حتى ترسخ في وعي كثيرٍ من العرب أنَّ التحدث بالعربية ثقافةٌ رجعيةٌ وتخلُّفية.


كما شاع في معتقد الناس اليوم أن اللغة العربية لغةُ انحطاطٍ وتخلف، وقد لاحظنا هذا السلوك غير المتوازن عند كثير من الطلبة، أولئك الذين نَظنُّهُم على قدرٍ عالٍ من الوعي والنضج، إذْ كثيرٌ مِن طلبة الأدب العربي أو الدراسات العربية يتحرجون من التعريف بتخصُّصِهِم أمام طلبة اللغات الأخرى أو طلبة العلوم، كما لو كان سُبَّةً أو أمرا مُنكرا وهذا أمرٌ مقلق.


النموذج الثالث من الدول العربية، تلك التي أَخْرَجتْ التعليم بِرُمَّتِه من اهتمامِها باعتباره قطاعا غير منتجٍ يستهلك موارد الدولة، ولا تُستخلَصُ منه الضرائب، فهو يعيش حالة احتضارٍ مستمر، فلا الأقسام تَصلُحُ للتدريس ولا المناهج تُواكب المستجدات، أما الأستاذُ فخارج اللعبة تماما.


وبعض الدول العربية بدأت فعليا تَفويتَ المؤسسات العمومية للقطاع الخاص بحجة عدم القدرة على تدبيرِ أمورِها المادية، مما سيجعل الأُسَرَ الفقيرة والمعوزة في هذه الدول لُقمةً سائغة لعصابة القطاع الخاص، الذين سيمتصون دماء الأُسر لقاءَ تدريس أبنائِهِم.


لا يُتصوّر إصلاحٌ للمنظومة التعليمية دون أن تكون اللغة والعربية في صميم وصلب هذا الإصلاح، إذ لا بد من ردِّ الاعتبار للغة العربية، التي هي تاريخُنا وحضارتُنا وثقافتُنا وكيانُنا، ومن دون مُقوم اللغة يستحيل أن تنهض أمة مهما بذلتْ من جهد وأموال، ومهما وفّرتْ من إمكانيات، ومهما تقمّصتْ واستوردتْ لغاتِ العالم أجمع.


ولنا في إسرائيل خيرُ مثالٍ حيثُ عملتْ منذُ البداية على تجميع لغتِها العبرية، وجعلِها اللغة الأولى والرسمية في البلاد، وقد أدرك الإسرائيليون قديما أن الكيان لا يُبنى إلا بتوظيف اللغة الأمْ، وقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد.


وكذلك فعل اليابانيون والصينيون والأتراك، وحدَهُم العرب لا تَستهويهِم لغتُهُم، بل صارت مصدر حرج لهم، وصار الكل يتهربّ منها، وكثير من الآباء يوصون أبناءهم بتفادي الأدب واتباع تخصصات حديثة تضمن لهم المستقبل، ونحن هنا لا ندعوا إلى نبذِ التخصصات الأخرى والاقتصار على اللغة العربية، بل أن يكون للعربية وضعُها الاعتباري وألا تُهمَّش بهذه الطريقة الفجة والمعيبة.


لقد صارت لغةُ الاستعمار هي اللغة المهيمنة عندهم في كل شيء بدءً بفواتير الماء والكهرباء وصولا إلى جوازات السفر في المطارات، كل الوثائق في غالبية الدول العربية يتم تحريرُها بلغة الاستعمار. وبعض الدول تكادُ لا تسمع فيها للغة العربية لا همسا ولا حسيسا.


يتوجب علينا إنْ نحن أردنا الخروج من هذا الوضع، أن نُعيد الاعتبار إلى اللغة العربية، وهذا لن يتأتَّ إلا بإصلاح وهيكلة المنظومة التعليمية، بما يتوافق مع ثقافتنا وهويتِنا وتاريخنا، هذه المقومات مَبُثوثة جميعُها في لغتِنا، لذا وجبَ منحُها النصيب الأوفر والاهتمام البالغ والعناية والرعاية التامة، وأن تكون العربية لغتَنا التخاطبية في الإدارة والمرافق العمومية، وبها تُحَرَّرُ العقود والمواثيق، وبها تُجرى جميع المعاملات الإدارية أو لنقل أغلبَها على الأقل.


بهذا الاعتبار سنُنهي تـحَرُّجَ الأمة العربية من لغتِها ونفورِها منها، ونَحدُّ من الدفع بالأجيال الحالية والقادم نحو احتراف اللغات الأخرى وتفادي تعلم لغة القرآن.


إن النهوض وإحياء لغتِنا الأم، والافتخارَ والاعتزازَ بها، وحبَّها وحب تعلُّمِها هو السبيل الوحيد والأوحد لبناء أجيال مُثقفة، عارفة، واعية، ومستنيرة تصلح لأن تكون نواةً لمجتمعٍ علميٍّ عربي. وللوصول إلى هذا الهدف وتحقيق هذا الرهان، وجبَ البدءُ بإعداد وتكوين ترسانة جيدةٍ متمكنةٍ وخبيرةٍ من المعلمين والأساتذة القادرين على تحويل تلك الخامات البشرية الطرية إلى ثروة وقوة حقيقية جبَّارة، قادرة على النهوض بهذه الأمة وجعلِها في مصاف الدول المتقدمة بحول الله تعالى وقوَّتِه.

الحسين بشوظ

كاتب، صحفي عِلمي وصانع محتوى، باحث في اللسانيات وتحليل الخطاب، حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في اللغة والأدب بكُلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. مسؤول قسم اللغة العربية في منظمة المجتمع العلمي العربي بقَطر (سابقا)، عُضو مجلس إدارة مؤسسة "بالعربية" للدراسات والأبحاث الأكاديمية. ومسؤول قسم "المصطلحية والمُعجمية" بنفس المؤسسة. مُهتم باللغة العربية؛ واللغة العربية العلمية. ناشر في عدد من المواقع الأدبية والصُّحف الإلكترونية العربية. له إسهامات في الأدب إبداعاً ودراسات، صدرت له حتى الآن مجموعة قصصية؛ "ظل في العتمة". كتاب؛ "الدليل المنهجي للكتابة العلمية باللغة العربية (2/ج)".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى