بلاغة وحِجاجسيميائيات

الطاقة الحِجاجية للصورة القرآنية

نعني بالصورة L’image؛ كل ما يترتب عن التشبيه والتمثيل والاستعارة والكناية، وكل ما يعدو ذلك إلى أساليب الوصف و التشخيص. فهي  في مفهومها العام  كما حددها   فيتجنشتاين (Wittgenstin): “هي أن تشاهد الشيء على هيئة شيء آخر”، و عرّفها محمد الولي[1]بـــ: “الشيء الملموس معبَّرا عنه في اللغة”،

وقد قايض بها الجرجاني اللفظ في مفهومه القديم للدلالة على مستوىً معين من المعنى، معتمدا الجانب الحسي البصري قائلا: “واعلم أن قولنا الصورة إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا..”[2]


فتكون بذلك الصورة المراد بحثها؛ هي ذلك : “التعبير الاستبدالي الذي يقوم فيه “الشيء المشاهد” أو “الملموس” أي؛ الصورة بديلا عن الفكرة أو المعنى أو المفهوم (Concept) .


وقد اهتم علماءنا العرب القدماء بدراسة الصورة سواء الأدبية منها أو القرآنية اهتماما بالغا، وقد كانت لهم آراء مهمة في هذا الموضوع، حتى أنهم درسوا الصورة في علاقتها بالمتلقي وعلاقة المتلقي بها، أي أنهم اهتموا ببعدها الحجاجي من حيث التأثير في الوجدان، وإقناع الفكر مما لا يكاد يختلف كثيرا عن حديث علماء الحجاج المحدثين في الغرب.


إلا أنه يبقى هناك جانب من الموضوع لم يُطرق بشكل منهجي ومنظم، نظرا لكون  قولهم بتأثير الصورة  يبقى قولا عاما ومجملا ومرتبطا بالقدرة على التحسين والتقبيح، فقد حصروا بنية الصورة في مفهوم الاستبدال وجعلوا للاستبدال وظيفة الاستدلال والتجسيد والتمثيل والتأثير، وهذا في نظره غير كاف لاعتبار الصورة الفنية إجمالا والصورة القرآنية خصوصا تقنع بالفكرة وتؤدي إلى التسليم بها. فطبيعة هذا التأثير غير معروفة علته. ولذلك فالتدقيق في نقطة التأثير هذه؛ كان واجبا حتى تتحدد كيفية حصوله.


  • الأبعاد الحجاجية للصورة القرآنية

يشير الدكتور صولة في معرض كتابه الحجاج في القرآن[3]، إلى أن مدار الحجاج بواسطة الصورة؛ يكون على مادة هذه الصورة من ناحية وعلى شكلها من ناحية أخرى.

فماذا يقصد بتقسيمه الصورة إلى مادة وشكل؟ وكيف يتأتى الحجاج من هذين البعدين ؟

  • الطاقة الحجاجية لمادة الصورة

المقصود بمادة الصورة في القرآن؛ مضمونها الذي يُعتمد فيه لغاية الإقناع، عالم خطاب متلقيه الأول. والمقصود بعالم الخطاب هنا؛ مجمل كفاءات المتلقين المعرفية والنفسية والثقافية والعقدية التي يأتي مضمون الصورة في القرآن مستندا إليها؛ مشكلا بها معتمدا عليها بطريقة يكون مضمون الصورة، هذا غير غريب عنهم فهو معلوم لديهم. وتبعا لذلك يكون نفاذه إلى قلوبهم وإلى عقولهم في سهولة ويسر ويحصل إقناعهم بما يراد إقناعهم به دون صعوبة أو عسر.[4]


وتبعا لذلك؛ فهي إما أن تكون منتزعة من مجالهم الحسي أي ما هو في متناول إدراكهم (كالمجال الزراعي والحيواني أو المجال التجاري أو الاجتماعي)، أو أن تكون مستمدة من مقوماتهم الثقافية والرمزية. فتكون بذلك كل الصور القرآنية لها مادة معلومة لدى المتلقي الأول، وعناصرها التصويرية مأخوذة من محيطهم وعالم خطابهم، الأمر الذي  يجعلهم على بينة منها و علم بها و اطلاع عليها فيكون بذلك مخاطبة القرآن لهم بواسطتها قوية الإقناع نافذة الحجاج.

المثال الدال المدلول الأول الذي يمثل الصورة وهو دنيوي المدلول الثاني الذي تعبر عنه الصورة وهو ديني
“يأيها الذين ءامنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله  وتجاهدون في سبيل الله” تجارة البيع والشراء طلب الثواب في مقابل الطاعة
“واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح” زراعة مشهد من الطبيعة يمثل الخضرة تتحول إلى حطام التنفير من الدنيا والإقناع بزوالها
“ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل” “شهوة الطعام”وهو دال رمزي يمثل قيمة ثقافية التعفف عن رذيلة “البطنة والشبع” النهي عن أكل المحرمات
“يوم تبيض وجوه وتسود وجوه…” البياض والسواد القيمة السلبية للأسود والإيجابية للأبيض في مخيال العربي إشعار بمدى أهمية يوم القيامة وبعظيم الأمور التي تقع فيه للكافرين والمؤمنين

 

إن استعارة مواد الصورة وعناصرها من عالم المخاطبين، يجعلها أكثر قربا من أذهانهم وأشد تأثيرا عليهم، وبالتالي تكون طاقتها  وقوتها الحجاجية لا تكمن في مجرد أن  هذه الاستعارات تؤكد المعاني المستعار لها؛ وتكسوها فخامة وأبهة (وتلك عموما هي وظيفة المجاز عند القدماء)، وإنما تكمن  في جعل هذه المعاني  مما لا يجادل فيه متلقوا القرآن.


فهم إن جادلوا في كون محمد (صلى الله عليه وسلم) على حق وفي كون دين الإسلام هو الدين الحق؛ وجادلوا في وجود الجنة والنار وغير ذلك؛ فإنهم لا يجادلون فتيلا في كون البياض والعلو واليمين أمورا حسنة وفي كون السواد والسفل والشمال أمورا مستقبحة، وفي كون الأبيض أحسن من الأسود والنور أفضل من الظلمة، لاسيما وأن هذه المواضع[5] داخلة لديهم في نظام قيمي عام ثابت الأركان لا يتزعزع.


فالصورة في مختلف أنواعها بذلك تضطر المتلقي بما أنها منه وإليه يعلم كنهها ويدرك أبعادها، إلى الخضوع لمنطق كلامها يواصله بواسطة أداة الاستنتاج “إذن” من أجل التوصل إلى المفهوم منه. فهي بذلك كلام نصفه وهو المصرح به من صنع النص أو المتكلم، ونصفه الآخر وهو الضمني من صنع المتلقي، وهذا الوضع هو الذي يكفل للصورة قدرتها وطاقتها الحجاجية .


  • الطاقة الحجاجية لشكل الصورة في القرآن

إن الصورة باعتبارها مادة أو فكرة  صيغت صياغة فنية وبصفتها خطابا يسعى إلى التأثير في المتلقي ويعمل على إقناعه ، تكون بذلك موجهة نحو فكره ووجدانه معا. هذا الاقناع الذي تمهد له ثنائية فن/فكر والذي يكون منشأه انطلاقا من مادة هذه الصورة ومن طريقة صياغتها التمثيلية في أبسط أشكالها إلى  أعقدها.


فالصور في مختلف أنواعها تؤدي وظيفة حجاجية كما يقول روبول في مقال له بعنوان “الصورة والحجة”[6]، حيث يرى  أن الصور تلعب دورين أساسيين في العملية الحجاجية ، أحدهما خارجي و الآخر داخلي، ويتمثل دورها الخارجي في تسهيل عملية الحجاج، فهي تشد الانتباه من خلال خرق المعتاد فتطبع الذكرى في الذهن، كما أنها تلائم بين الأفكار والمستمَع ،أي تسهل المعاقلة، أما دورها الداخلي فيتجلى في دخولها، هي نفسها، في صلب الحجاج. وهاتان الوظيفتان متلازمتان لكون إحداهما بمثابة المساعدة والأخرى هي الفاعلة.


فالصورة تكتسب طاقتها الحجاجية انطلاقا من قدرتها على التغيير من بنيتها الصحيحة  والمعروفة إلى بنية أخرى ومحتوى آخر، بهدف إحداث تغيير في الموقف العاطفي أو الفكري للمتلقي( كاستعمال الاستعارة والتشبيه والكناية …..).


وتحدث بيرلمان أيضا عن الصورة ،لكنه ميز في ذلك بين الصورة الحجاجية و الصورة التحسينية يقول: “نعتبر صورة التعبير حجاجية إذا استتبعت تغييرا في الأفق، فبدا استعمالها عاديا بالنسبة للمقام الجديد، على خلاف ذلك لا يستتبع المستمع في الشكل الحجاجي، فإن الصورة ستظهر كمحسن، أي كصورة أسلوبية بوسعها أن تثير الإعجاب، ولكن ذلك يظل في المستوى الجمالي”[7]


إذن، فكيف يمكن إثبات أن الصور القرآنية بجميع أشكالها التصويرية، هي زيادة على ارتباطها بالمجال التحسيني إلا أنها تبقى ذات أهداف أسمى متعلقة بالمجال الحجاجي التداولي؟


يشير صولة في بحثه حول الحجاج في القرآن إلى أن معقد حجاجية هذه الأشكال التصويرية والتي حصرها في خمسة أشكال ،يدور على  المحل الشاغر الذي اصطلح على تسميته بالعلامة الفارغة (ø)أو (ø ø). هذا المحل الشاغر الذي يمثل في نظره  بؤرة الحجاج المطلوب من وراء  التصوير ملؤه و الاهتداء إليه، سواء كان هذا التصوير تشبيها أو تمثيلا أو كناية أو استعارة.


وقد عبر عن هذه الأشكال بواسطة الأزواج التالية :

بحيث يشير فيها (أ) إلى: المشبه و(ب) إلى المشبه به وø: تعني محلا شاغرا :

إن السبب وراء إبقاء المحل شاغرا مطويا  ضمنيا هو دعوة المتلقي إلى إماطة اللثام عنه انطلاقا من عناصر الصورة عبر مسار حجاجي معين فيه نوع من الاستدراج نحو بناء مفهوم جديد انطلاقا مما هو معلوم. هذا البناء الذي  بات يشكل رصيدا استعاريا يتم فيه بناء غير المسلم به على المسلم به وبناء غير المعلوم على المعلوم. بناء شيء على شيء عن طريق توجيه الصورة القرآنية  للمتلقي توجيها صارما نحو مفهوم بعينه لا نحو مفاهيم متعددة مختلفة وربما متناقضة لما تنطوي عليه من مفهوم أول مستمد من عالم المخاطبين بمنزلة المقتضى من حيث كونه معلوما وشبه مسلم به ولكنه على عكسه يأتي ليوجه بقية الحوار.[8]


(فلفظ “الظلمات “مثلا مطلق على الكفر أشد وقعا في نفس المتلقي من لفظ الكفر مجردا وكذلك لفظ “النور” مطلقا على الايمان. والبعد الحجاجي لهاته الألفاظ المستعارة يتجلى في طاقتها الحجاجية التأثيرية التي تحملها في ذاتها من خلال السمات الدلالية الزائدة التي علقت بها من رافدي اللغة و الاستعمال، والتي منحتها حكم قيمة رمزية يكون أنجع في الحجاج في استعماله الاستعاري على الحقيقة.


يقول في ذلك ( Leguern)  لوقرين:”تبدو القوة الحجاجية التي للوحدة المعجمية (…)مستخدمة بطريقة الاستعارة أعظم من القوة الحجاجية التي لنفس الوحدة مستخدمة على الحقيقة”[9]  فهي تضطر المتلقي إلى إرجاء لحظة اعتراضه على الحكم الذي يأتي به الكلام .


هذا التأجيل على الاعتراض بواسطة الانتقال بالمعنى من الحقيقة إلى المجاز يقوم باستدراج للمتلقين إلى القبول بالأطروحة التي تعرضها الصورة عليهم، فمثلا الوقع الحجاجي المستمد من الحكم الاخلاقي والعاطفي الذي تحمله ألفاظ “مرض” و”الصم” و”العمي” (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي)[10]و(في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا)[11]  والمجرى على المجاز للتعبير عن الرذائل الخلقية(….) كالنفاق والكفر يكون وقعه اشد على المتلقي لأنه ملزم لهم وموجه نحو معنى واحد حاصل في أذهانهم من خلال تلك الألفاظ التي يعرفون معانيها في الحقيقة ولا يستطيعون الاعتراض عليها.


فيكون بذلك حصول المعنى الجديد كنتيجة مستلزمة، فالكفر مرض وضلال والكافرون تائهون عن الحق  لايبصرون، ولا يسمعون، فهم عمى وصم .

وكما استعمل القرآن الصور المجازية، عمد كذلك إلى استخدام الأمثال التي لها نظير في كلام العرب وذلك تمهيدا للولوج إلى قلوب المتلقين من أقرب سبيل. ذلك أنهم في أمثال القرآن يستمعون إلى أصواتهم تتردد وإلى أفكارهم وحكمهم التي صاغوها في صورة أمثال ترجعها أمثال القرآن وتعود فتلقيها على مسامعهم في صورة أخرى[12]. فيكون بذلك الكلام القرآني باستناده إلى عالم مخاطبيه حقيقة منعكسة دائما في مرآة الايديولوجية السائدة [13].


  • خلاصة

إن الصورة القرآنية باستنادها في بناء مادتها على عالم المخاطبين واعتمادها أشكالا تصويرية فنية مختلفة عدولا عن المفهوم  في  صياغات سواء كانت قائمة على   (التشبيه/الاستعارة/الكناية/التمثيل)،قد جمعت بين البعد الجمالي والبعد الحجاجي بل أنها سخرت الجمالي للإقناع  فهي تترك دائما  في صياغاتها الفنية كلها محلا شاغرا في دورة الكلام  والذي عليه معقد الحجاج، والذي يكون مطلوبا من المتلقي ملء فراغه واستكشاف كنهه عن طريق مسار حجاجي موجه نحو نتيجة مستنتجة بواسطة الأداة”إذن”.


فتكون بذلك الصورة القرآنية أكثر حجاجية  نظرا لقربها من المتلقي ومستوحاة من عالمه، وعدم القدرة على الاعتراض عليها ناتج على أنها تبني مفاهيمها الجديدة انطلاقا مما هو معروف لديهم ومتداول عندهم، ولذلك تكون أكثر تأثيرا وإقناعا.


[1] -الولي محمد، الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء ،ط 1،1990

[2] -العمري محمد، البلاغة الجديدة بين  التخييل و التداول، افريقيا الشرق، ط2 2012، ص:207

[3] -عبد اله صولة، الحجاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبية، ص495

[4] -صولة ،الحجاج في القرآن،ص496

[5] -إن المقصود بالمواضع حسب أرسطو الجداول التي يمكن أن ندرج فيها الحجج ونرتبها ،وهي في العادة محل إجماع (مخازن للحجج) يؤدي استخدامها  في الخطاب إلى اقتناع المخاطبين بما يعرض عليهم بواسطتها.

[6] – العمري محمد،قراءة تفصيلية لمقال أوليفي روبول (الصورة والحجة)، ضمن كتابه البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول،إفريقيا الشرق 2012،ط 2 ،ص 22-23-24.

[7] -العمري محمد،البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول،ص 44

[8] -.Ducrot Oswald,Le dire et le dit,éditions Minuit,1984 ,p42  

من تعريفات ديكرو للمقتضى أنه ما ينشأ عن الملفوظ دون أن يكون له دخل في توجيه بقية الحوار. وهو كما يرى الباحث رأي قابل للنقاش

[9] -. Leguern  Michel ,Métaphore et argumentation,in l’argumentation,P.U.L,1981 ,p70

[10] -الزخرف43/40

[11] -البقرة2/10

[12] -صولة عبد الله،الحجاج في القرآن ،ص598

[13] -نفس المرجع ،ص601

سميرة مصلوحي

سميرة مصلوحي؛ أستاذة باحثة في اللسانيات التطبيقية، حاصلة على شهادة الدكتوراه في اللسانيات بجامعة محمد الخامس الرباط. نَشرت العديد من الأوراق العلمية في مجلاَّت عِلمية مُحكمة، كما تَنشُر باستمرار في عددٍ من المواقع العربية الإلكترونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى