سرديات

ذكرى عبد الرحمن منيف.. جوهرة في عالم الرواية العربية

 

صوّر عبد الرحمن منيف، الذي تحل ذكرى وفاته هذا الشهر، الواقع الذي تعيشه المجتمعات العربية، وعرّفنا على الفساد السياسي في بعض أنظمة الحكم، وأدخلنا عالم السجون والمعتقلات، وكتب ضد القمع والاستلاب لحرية الإنسان وكرامته، كان واحداً من أشدّ المناوئين لأنظمة القمع والاستبداد بين مختلف الأنماط الاجتماعية، عاش مأساة الفلسطينيين وتعاطف مع قضيتهم مدركاً أن مصائبهم لا تنفصل عن المجموعة العربية، وعمل على ” تثوير” الرواية العربية، وفي ذلك يقول: “جئت إلى الرواية في وقت متأخر نسبياً، كنت مشغولاً بأمور السياسة، وكنت أفترض أن عملي السياسي هو خياري الأساسي، ما كنت أتصور أنني في يوم سأصير روائياً”.

دخل عبد الرحمن منيف عالم الرواية من باب السياسة، ودخل السياسة من باب الثقافة، وأخلص للرواية والثقافة، حالماً بالحداثة الاجتماعية التي تعني حقّ البشر في وجود إنساني كريم، هكذا وصفه فيصل دراج، وبأنه “أحد أعمدة السرد العربي في العصر الحديث”.

“كتب ضد القمع والاستلاب لحرية الإنسان وكرامته، كان واحداً من أشدّ المناوئين لأنظمة القمع والاستبداد”
ولِد عبد الرحمن بن إبراهيم المنيف في عمان في مايو/أيار عام 1933، وهو ينتمي إلى بلدة “قصيا” شمال بلدة القصيم التابعة للسعودية، أبوه كان يرحل إلى نجد والعراق والأردن طلباً للرزق، وقد توفي في إحدى جولاته هذه، وعبد الرحمن لما يبلغ الثلاث سنوات من عمره… فأخذته جدته لتربيه عندها، وأتم دراسته الأولى في عمان، ثم حصل على الشهادة الثانوية سنة 1952، والتحق بكلية الحقوق في بغداد حتى عام 1955 حيث جرى إبعاده عنها، فقد كان يتظاهر ضد حلف بغداد هو ومجموعة من الطلاب، انتقل بعدها إلى مصر لإكمال دراسته، ثم رحل إلى يوغسلافيا فحصل على الدكتوراه في العلوم الاقتصادية – اقتصاديات النفط، ومارس العمل السياسي زمناً بانتمائه إلى حزب البعث ثم أنهى علاقته التنظيمية في عام 1962، عمل بعدها في مكتب توزيع النفط في دمشق، وغادرها إلى بيروت ليعمل في صحيفة البلاغ، تزوّج من سعاد قوادري وله ثلاثة أولاد منها، وابنة واحدة، وعاد ليقيم في بغداد وتولى تحرير مجلة “النفط والتنمية” العراقية، ثم غادر إلى فرنسا، وعاد إلى دمشق.

  • عالمه الروائي

عالم عبد الرحمن منيف الروائي معقد، وضع فيه خلاصة تجاربه في الحياة، وقد كرسه لحرية الإنسان، وما يجب أن تكون عليه هذه الحرية، وقد طور في رواياته مقومات التعبير النفسي، فالتقط الانفعالات الإنسانية لحظة وصولها إلى سطح الوعي، واستوعب الألفاظ والتعابير التي أحدثتها الثقافة المعاصرة، وله ثلاثون كتاباً، بعضها في الرواية، وبعضها في الفنون التشكيلية والسيرة الذاتية. استطاع أن يعكس في “الأشجار” الواقع الاجتماعي والسياسي العربي، وفي “شرق المتوسط” أبرز دور المعارضة السياسية لأنظمة الحكم، وما تؤول إليه من قمع وسجن وتصفية جسدية والتعسف السياسي، و “مدن الملح” تتحدث عن الثروة الطبيعية وما تحدثه من تحولات في بنية المجتمعات، وهي تتألف من خمسة أجزاء، أمّا “حين تركنا الجسر” فتصور شخصية تعيش واقعاً متأزماً، وصراعاً عنيفاً، فهنا عندنا صياد يتعقب طريدته، ويعيش استرجاعاً قاسياً لأخطاء حياته، وروايته “سباق المسافات الطويلة” تتحدث عن الواقع السياسي الذي تعيشه بعض الأنظمة العربية، وما يلاقيه الإنسان فيها من هدر لكرامته وإنسانيته، ورواية “النهايات” تناولت المجتمع البدوي على أطراف الصحراء، وصورت عادات البدو والوسائل التي يعتمدون عليها للاستمرار في الحياة، وروايته “أرض السواد” تتحدث عن تاريخ العراق الاجتماعي والسياسي خلال القرن التاسع عشر، والمظاهرات والقمع اللذين حصلا فيه، وتنتمي روايته “الآن… هنا…” إلى أدب السجون، من خلال وضع سياسي محتقن يقع ضحيته بعض شباب الوطن.

“عاش مأساة الفلسطينيين وتعاطف مع قضيتهم مدركاً أن مصائبهم لا تنفصل عن المجموعة العربية، وعمل على “تثوير” الرواية العربية”

أمّا “قصة حبّ مجوسية” فإنّها تصور مفهوم الحبّ عند الشباب وعلاقاته الاجتماعية.
جمعت رواياته بين العمق الفني والابتعاد عن الغموض والدلالة الواضحة، واشترك مع جبرا إبراهيم جبرا في كتابة رواية هي “عالم بلا خرائط”، وكان التشابك والتنسيق الفني على درجة عالية يستحيل أن نصدق بأن هذا العمل كتبه اثنان. وبقيت روايته “عروة الزمان الباهي” وهو صحافي موريتاني حفظ القرآن والشعر الجاهلي، وقارن بين خفة دمه وشخصية زوربا اليوناني.

“إنّ الشيء الذي يتسع ويكبر في حياتنا هو السجن”- هذا ما قاله عبد الرحمن منيف في إحدى المقابلات معه، وقال أيضاً : “إنّ الموت نفسه نهاية منطقية لحياة أي كائن، لكن ميزة الإنسان أن له ذكرى، وأن له جديدا دون قديم، وهذا ما يعطي الحياة الإنسانية القدرة على الاستمرار، إذا كان الموت الذي يلحق الكائن البشري يغيبه كقرد عن الأنظار، فإنّ هذا الكائن خاصة في إطار الفكر والفن والأدب يبقى وينتقل إلى الأجيال اللاحقة”.
كتب خمس عشرة رواية، وهي تعنى بحق البشر في وجود إنساني كريم، كتب ضد القمع واستلاب الحرية والكرامة الإنسانية، ويعتبر واحداً من المناوئين لمعظم الأنظمة العربية، وانشغل بموضوع القمع والعنف والاستبداد بين مختلف الأنماط السياسية والاجتماعية، واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، راثياً وناقداً الفكر العربي، لأن أجهزة المخابرات تحاصره، والجهل هو دائماً الوجه الآخر للعبودية.

وله مجموعتان قصصيتان هما “الباب المفتوح” و”أسماء مستعارة”.

توفي عبد الرحمن منيف في دمشق في يناير/كانون الثاني 2004.


المصدر

 

فيصل خرتش

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى