أخبار ومتابعات

عبد الفتاح كيليطو – العُكّاز

بدأ شيُوران الكتابة باللغة الرومانية، ثم انتقل إلى الفرنسية حين هاجر واستقرّ في باريس. لربما كان يفكّر، من بين أشياء أخرى، في تجربته حين قال: «استبدال اللغة، بالنسبة للكاتب، هو بمثابة كتابة رسالة غرام باستعمال قاموس».


تتمّ الإحالة هنا إلى لغتين: واحدة أليفة، أسروية، ميزتها التلقائية والخفّة واليسر، وأخرى غريبة، تالية، لا مباشرة، مبنيّة على إعمال الفكر وما يترتَّب عنه من تكلُّف. واحدة لا تقتضي الاستعانة بقاموس، لأنه داخلي، متضمّن في فعل التنفُّس، وأخرى لا بدّ من الاستعانة فيها بأداة خارجية منفصلة عن الذات.

تجدني في الأولى أمشي برشاقة واستقامة على رجليّ الاثنتين، وفي الثانية أتعثَّر، أتذبذب، أكون مرغماً على اعتماد عكّاز.


قد يُعَدّ ما جرى للسندباد البحري خلال سفرته الأولى أحسن تصوير لهذه الحالة: ألقته الأمواج في ساحل جزيرة بعد أن كاد يغرق، فوجد في رجليه «أثر أكل السمك في بطونهما»، وَرِمَت رجلاه فصار يزحف تارة، وتارة يحبو على ركبتيه، وفيما بعد عمل له عكازاً من غصن شجرة وأخذ يتوكّأ عليه.

مرّت الأيام واختلط بالقوم، أصحاب الجزيرة، لكنه ظلّ يشتاق إلى بلاده ويتمنّى العودة إليها. ديدنه المشي جانب البحر، لعلّه يجد مركباً يحمله إليها، «وفي يدي (كما يقول) عُكّاز على جَرْي عادتي». لكن اللافت للاهتمام أن العكاز يختفي عندما يعود إلى بغداد فلا يبقى له ذكر؛ ذلك أن السندباد استعاد القدرة على استعمال رجليه الاثنتين.


الكتابة بمثابة رسالة حبّ، حبّ اللغة، لغة الحبّ. أيعني هذا أن الحبّ لا يتمّ التعبير عنه- حقيقةً- إلا في اللغة الأليفة؟ إن صحَّ هذا، فماذا يحدث عندما يتعلّق الأمر بلغة غريبة؟ لنضع السؤال بصيغة أخرى: إلى من تَكتُب رسالة غرام مستعيناً بقاموس؟ إلى أيّ عنوان تصل؟ لمن تبعث رسالة مدوَّنة بدون مهارة، بدون فنّ، بدون «حبّ»، بل، بمعنى ما، بدون «عنوان»؟ تخاطب امرأة أجنبية بلغتها، فلا يخلو الأمر من رعونة وحرج. ترى كيف تستقبل رسالتك؟ وماذا تفعل بها؟ لا شكّ أنها ستعيدها إلى العنوان الذي جاءت منه، عنوانك، أصلك ولغتك. رعونتك- والحالة هذه- هي عنوانك!


«MA MALADRESSE EST MON ADRESSE».

لنتساءل الآن عما يحدث عندما نكتب بلغتنا ونتوجّه إلى قارئ يشاركنا إيّاها. أحقّاً لا نحتاج، وقتئذ، إلى القاموس؟ ألا تتحوّل لغتنا الأسروية إلى لغة أجنبية حين نخطّها على الورق؟ ليس هذا كل ما في الأمر: ألا ينبغي أن تبدو لغتي، تلكم التي أعدّها لغتي، أجنبية عندما أكتب بها رسالة؟ أليس الفنّ إدخال الغرابة على الألفة، والإبهام والغموض على الشفافية والوضوح؟ ألم يقل مارسيل بروست إن «الكتب الجميلة مكتوبة بما يشبه لغة أجنبية»؟

أكثر من ذلك: ألا ينبغي أن «أخطئ» وأنا أكتب بلغتي الأليفة؟ ألا يكون الخطأ في لغتي، تعَمُّد الخطأ، فضيلةً ومزية في بعض الأحيان؟ لكن الأكيد أن ذلك لا يجوز، عند الكتابة بلغة «مستعارة»، سيُعَدّ- ولا ريب- عيباً مشيناً؛ وإلى هذا أشار شيوران حين قال: «العيب في استخدام لغة مستعارة هو أننا لا يكون لنا الحقّ في أن نرتكب فيها أخطاء أكثر من اللازم.

والحال أننا لا نعطي للكتابة مظهر حيوية إلا بسعينا نحو الخطأ مع تجنُّب الإفراط فيه، وميلنا كل لحظة إلى اللحن اللغوي.».


* عن مجلة الدوحة.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى