سرديات

الرّواية التاريخية .. المفهوم والنّشأة

 

  • مفهوم ونشأة الرواية التاريخية

لعبت الرواية التاريخية في الأدب العربي دورا بارزا في تحقيق أهداف سعت إلى بلوغها، فقد هدفت إلى بث الروح في الماضي من أجل قراءة الحاضر واستشراف المستقبل والاستفادة من عبر التاريخ.
وإذا كان التاريخ يعرف بأنه: الأحداث والوقائع التي وقعت في الأزمان الماضية. فالرواية التاريخية كما يعرفها الدكتور محمد القاضي، هي “نصّ تخيّلي نسج حول وقائع وشخصيات تاريخية”. (1)

أما عند الكاتب سعيد يقطين فالرواية التاريخية هي: “عملٌ سرديا يرمي إلى إعادة بناء حقبة من الماضي بطريقة تخيّلية حيث تتداخل شخصيات تاريخية مع شخصيات متخيلة“. (2)
فالمادة التاريخية تحضر بقوة في الرواية التاريخية، ولكنها غير جامدة، بل تقدم بطريقة فنية وإبداعية، لذلك الذين درسوها يلجؤون إلى المقارنة بين السرد التاريخي والرواية التاريخية مفرقين بينهما من جهة الحقيقة والخيال. فالسرد التاريخي يقدم الحقيقة ويسرد الأحداث المطابقة للوقائع، بينما الرواية التاريخية أقرب إلى التخيل والإبداع.

واعتبرت الدكتورة هالة فؤاد إن الرواية المتعلقة بالتاريخ والمتصلة به هي: “أكثر النصوص الروائية وفرة وكثافة في مساحات التخيل، وحدة المباغتة، وعمق الالتباس، وثراء الحيرة والدهشة العارمة المثيرة“. (3)

أما الناقد جورج لوكاتش فعرفها بأنها: “رواية تاريخية حقيقة، أي رواية تثير الحاضر، ويعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق“. (4)
إنها  عمل أدبي فني مادته التاريخ، يوظف فيها الروائي رؤيته وتجاربه لتحقيق غاية يسعى ورائها.
وبدايتها الحقيقة كانت في الغرب على يد والتر سكوت أوائل القرن التاسع عشر كما يقول لوكاتش.

ويتجاذب الرواية التاريخية هاجسان هما: الأمانة التاريخية بمعنى موافقتها للمصادر التاريخية من نهوض وسقوط الدول والحروب والحوادث والوقائع، والآخر له علاقة بمكونات الفن الروائي وحاجاته الجمالية.
فكلّ نصّ كما ينقل القاضي عن رولان بارت هو: “نصّ جامع تقوم في أحنائه نصوص أخرى في مستويات متغيّرة، وبأشكال قد نتعرفها إن قليلا أو كثيرا: هي نصوص الثقافة السابقة، ونصوص الثقافة الراهنة. فكاّ نصّ نسيج طارف من شواهد تالدة“. (5)

وتقبع الرواية التاريخية في مكان وسطي بين التاريخ والأدب اللذين يشتركان في الخطاب السرديّ، ولكن التاريخ حسب قول محمد القاضي خطاب نفعي يهدف إلى معرفة القوانين المتحكّمة في تتابع الوقائع، بينما الأدب والرواية خاصة هو خطاب يهتم بالوظيفة الإنشائية على حساب الوظيفة المرجعيّة كونها خطاب جمالي في الأساس.

وللرواية التاريخية مكانة مميزة في مجموعة الأجناس الأدبية كونها فرع من فروع أجناس الرواية كرواية السيرة الذاتية والرواية البولسية وغيرها، وتتميز أيضا بكونها ترتكز إلى التاريخ وما دوّنه السابقون من أحداث وهذا يجعل صلتها بالنصوص الماضية قوية ويضيف على عالمها صبغة مرجعية.

ويقول القاضي إن وضع الرواية التاريخية المخصوص جعلها جنسا هجينا، لا تتحدد هويته إلا من خلال التنازع بين المرجعي والتخيلي. فالقارئ يأخذ من خلال مرجعيته بتاريخية الأحداث المقدمة إليه، حيث يمكن التحقق منها، أما الذي لا يمكن التحقق من حدوثه فأنه يبقى داخلا في نطاق التاريخ الذي لا نعلم كل ما يتعلق به. أما في الواقعي حسب سعيد يقطين فالمرجعية هي: ” تزاوج بين المادي الملموس الذي يمكن التثبت منه من خلال بعض المؤشرات الدالة عليه، والتخيلي الذي يمكن أن يثير الالتباس لدى القارئ فيتولد لديه الإحساس بأن ما يقرأ لا علاقة له بالتاريخ، وأن الإطار الموظف هو فقط ذريعة أو علامات على صلة الحدث بما وقع أو ممكن الوقوع أو محتمل“. (6)

وللوقوف على آليات إنتاج المعنى في النص الأدبيّ، كان لا بد لنا من أن “ننطلق من هذا “التحويل” الذي يجريه المؤلف على النواة التاريخيّة حتى يخرج من أحنائها ما ليس منها، أي نصّا لا يكون صياغة وانعكاسا بل إبداعا يبعث في القارئ انفعالات شتّى أهمّها الانفعال الجمالي“. (7) وتتضح الأدبيّة التي يرتكز عليها الخطاب الأدبي في الرواية التاريخية عبر العلاقة المتشابكة التي تنشأ بين نص قديم ونص جديد على ما بينهما من فوارق زمنية وثقافية وحتى إيديولوجية.

هذا ويعتبر العديد من النقاد العرب أن الفن الروائي دخيلا على الأدب العربي، وأنه مأخوذ عن الأدب الأوروبي، ولكن البعض حاول تأصيله وإثبات وجوده في الأدب العربي مستدلا بذلك بالروايات القديمة كسيرة عنترة والسيرة الهلالية والزير سالم وغيرها، غير أن هذا التراث الموغل في القدم لم يكن امتدادا للرواية التاريخية العربية الحديثة، فهي “تمثّل نباتا مأخوذا من تربة أوروبيّة أعيد غرسه في حقل عربيّ“(8)

  • الرواية التاريخية والزمن

تقوم الرواية التاريخية بالاستناد على المادة التاريخية، وتحيى من خلال الخطاب السردي التخيلي الذي يميزها عن الخطاب التاريخي.

والمادة التاريخية عبارة عن أحداث وقعت في الماضي، والرواية ترتكز على هذه الأحداث، وهذا يعني “وجود مسافة زمانية جوهرية (تقاس بالعقود والأجيال والقرون) بين زمان الحدث التاريخي المقدم في الرواية، وزمان كتابتها“. (9)
حيث يرى الروائيون أن الارتكاز على الأحداث الماضية يسمح بأخذ العبر والدروس التي يمكن الاستفادة منها في وقتنا الحاضر.

ولكن ما هي حدود هذه المسافة ووشائجها بالزمان. فهي قد تمتد إلى الأزمان البعيدة جدا، أو إلى الزمان القريب الذي لا يتعدى بضعة سنوات.

وبعض النقاد أخرج بعض الروايات القريبة من زمن الكتابة من دائرة الرواية التاريخية. واعتمد في تصنيفه على المسافة الموغلة في القدم، فالزمن يشكل عنصرا مهما لتبيان نوعية السرد. لذلك يجب علينا تحديد الفترة الزمانية للتفريق بين الواقعي والتاريخي، وإلا فأن كل رواية ترتكز على حوادث تاريخية تدخل في باب الرواية التاريخية. فالروايات العربية في مجملها تطرقت إلى الأحداث التي وقع تحتها الوطن العربي، كفترات الاستعمار البريطاني والفرنسي، واحتلال فلسطين في عام 1948م وحرب 1956م، و1967م…

ويقول سعيد يقطين أنه لا يمكن الكلام عن رواية تاريخية معاصرة، فلا يمكن اعتبار الفترة الزمانية بين زمان الحدث أو القصة وزمان الكتابة، لذلك يدرج مفهوم “الحقبة الزمانية” الذي بواسطته ندخل زمان القراءة العام “لأن المسافة الزمانية، في متخيل القراءة، تظل قائمة بين الواقع في الحاضر (الآن)، والواقع في الماضي (التاريخ).

وبالنسبة إلينا لا يمكننا قياس المسافة الزمانية باعتماد العقد أو الجيل أو القرن، ولكن بما يمكن تسميته بالحقبة الزمانية، ونقصد بها المدة التي تشترك بمجموعة من المواصفات المتصلة بالعصر المحدد، وتلتقي في مجموعة من المقومات وعلى المستويات كافة”، (10) بحيث تجعلها متباينة مع الحقبة التي تسبقها أو تليها.

فالاختلاف والتباين بين الماضي والحاضر أو التاريخ والواقع أساسي للتفريق بين الزمنين، لأنه يعطينا القدرة على الفصل بين واقعين مختلفين سواء على مستوى المادة الحكائية أو على مستوى الخطاب.

فحتى القارئ يشعر أنه كلما كانت الحقبة الزمانية مفارقة، كان بإمكانه معايشة المصائر المعطاة والتفاعل مع الأحداث المحكية بعمق.

وتأسيسا على ما سبق، فأن سعيد يقطين يعتبر الحقبة الزمانية التي ما زلنا نعيشها، قد بدأت منذ وقوع الوطن العربي تحت الاحتلال الغربي. وبسبب هذه الاحتلال نشأت تحولات جوهرية في الحياة العربية غيرت مستقبلها، وهذا جعلها تتمايز عن الحقبة الماضية التي عاشها العرب قبل احتلال أوطانهم.

وبالتالي وحسب رأي الدكتور يقطين، فأن الرواية العربية التي لا تتعامل مع الحقبة الزمانية الحديثة، تدخل في نطاق التاريخ، أما الروايات التي تستند في مادتها على العصر الحديث فلا يمكن إدراجها تحت مسمى رواية تاريخية، ويمكن تصنيفها حسب ملامحها الخاصة.

و”بهذا التمييز نقيم المسافة الزمانية بين العصر الحديث والعصور القديمة، ونعتبر الروايات التي تستمد مادتها من تلك العصور تاريخية ونظيراتها المتصلة بوقائع العصر الحديث وأحداثه مهما كانت درجة “حقيقتها” داخلة في نطاق الواقعية أو الحالية أو بحسب الأنواع التي يمكن أن تؤطر في نطاقها“. (11)

وبذلك يمكن وضع مسافة بين التاريخ والواقع . والتميز بينهما من خلال الأحداث والوقائع، فالأحداث في الرواية التاريخية واقعة ولا شك في ذلك، أما الرواية غير التاريخية فأحداثها متخيلة ولكن ممكنه الوقوع. كما يمكن التمييز بينهما من خلال المرجعية فالحوادث التاريخية يمكن التحقق منها، أما في الواقعي فأنه مزيج بين المادي والتخيلي.

ويستخلص يقطين من دراسته، أنه يمكن التفريق بين الواقعي والتاريخي، إذ الواقعي يعتمد على مبدأ المشابهة بين أحداث الرواية والواقع، وهذه المشابهة توحي بواقعية الرواية التي لا تقدم الواقع بل ما يمكن أن يكون..
أما التاريخي فأنه يستند على مبدأ “المطابقة” بين الرواية والواقع، وهذه المطابقة توهم بالتاريخية، بينما الرواية تقدم الواقع كما هو.

إن ” الإيهاميين بالواقعية والتاريخية هو موئل المفارقة التي أومأنا إليها، وهي جوهر الإبداع السردي الذي يتحقق من خلال فعل “التخيل” حيث كل رواية تقدم شيئا، وتوحي لنا بأنها تقدم غيره، وإن حصل وانتبهنا إلى ما يفيد العكس، كان الجواب “الفني” (12): لا ريب أن ذلك يرجع للصدفة أو القصد.

  • الإقبال على كتابة الرواية التاريخية

استطاعت الرواية أن تزدهر وتنتشر لما تملكه من مقومات بنائية وجمالية، وكذلك كونها الشكل الأنسب الذي عبره صاغ الأديب العربي رؤيته للواقع العربي المزري، والكيفية التي يمكن من خلالها إحداث التغير ومواجهة التخلف والقهر والنهوض من السبات الطويل. وحقق هذا النوع الأدبي مكانته المرموقة نظرا للعدد الكبير الذي يتابعه وكذلك نوعية قرائه.

وإذا كان التاريخ يحمل في جعبته جزءا روائيا مهما، فأن الرواية تحمل هي الأخرى في بنائها عناصر تاريخية جلية.

لقد استطاعت الرواية أن تتضمن حقائق التاريخ وإبداعات وتقنيات الرواية. فالرواية التي تناقش وتتناول واقع الحياة البشرية، وسواء كان محورها الإنسان الفرد أو الجماعة، أو ظاهرة إنسانية ما، فأن الروائي في بحثه في الواقع، يتناوله بطريقة فنية وفي ظل موقفه الفكري الذي يؤمن به ومنظوره الاجتماعي، لذلك يستعمل مهارته الإبداعية ليقدم رؤيته من خلال اللغة ليستطيع توصيل خطابه الذي يريد.

ولكي يستطيع الروائي شرح رؤيته وفكره، قد يضطر إلى الرجوع إلى التاريخ، ليخاطب الحاضر من خلال الماضي.

والتاريخ حياة شاسعة تمكن الروائي عبر الرواية التاريخية من التعبير عن نفسه، فالتاريخ وما يحويه من تجارب إنسانية جمة مخزن هائل وثري للأحداث والشخصيات.

ويرجع الدكتور قاسم عبده قاسم ازدهار الرواية التاريخية العربية على عوامل تتعلق بالروائي والأخرى بالقارئ. ويقول أن الأسباب والعوامل الاجتماعية والسياسية التي يعيش الروائي في فضائها، بالإضافة إلى “عوامل البنية الفكرية والثقافية للروائي نفسه ومدى وعيه بأهمية دوره والوظيفة الثقافية-الاجتماعية للرواية. وربما كان الموقف السياسي أو الأيديولوجي للروائي من بين الأسباب التي تدفعه إلى اختيار الرواية التاريخية مجالا لإبداعه“. (13)

أما بالنسبة لإقبال القراء على الرواية التاريخية فهذا نابع إلى الحاجة إلى المعرفة التي تتيحها الرواية التاريخية، والمتعة المتحققة من القراءة، وترتبط كذلك “بالرغبة في مواجهة ذلك الهجوم الظالم المتواصل على الهوية العربية: تاريخا ولغة وحضارة، وترتبط بالشعور المحير المربك الذي يمسك بتلابيب عامة المثقفين حول قضايا حياتهم الجوهرية، وعلاقتهم بالغرب“. (14)

إن سمات الرواية التاريخية الجمالية، وما تحويه من مضمون عميق، أتاح لها العودة إلى الماضي والعمل على تأصيله، كما أنها حملت الماضي إلى الحاضر بعد أن أعادت فيه الحركة والحيوية والحياة والتجدد وملأته بالدلالة.


  • الهوامش

1 – محمد القاضي. الرواية والتاريخ، دراسات في تخييل المرجعي. تونس: دار المعرفة للنشر والطباعة والتوزيع، ط1، 2008م، ص145.

2 – سعيد يقطين. الرواية التاريخية وقضايا النوع الأدبي. مجلة نزوى، العدد الرابع والأربعون. http://www.nizwa.com/articles.php. بتاريخ: 22-07-2009م.

3 – هالة أخمد فؤاد. “المتخيل الروائي بين التاريخي والميتافيزيقي”. في: تجارب في الإبداع العربي. الكويت: وزارة الإعلام-مجلة العربي. ط1، 2009م، ص 250-253.

4 – جورج لوكاتش. الرواية التاريخية. ترجمة جواد كاظم. بغداد: دار المعرفة للنشر والطباعة، ط1، 2008م، ص 145.

5 – محمد القاضي. مرجع سابق. ص 23.

6 – سعيد يقطين. مرجع سابق.

7 – محمد القاضي. مرجع سابق. ص 120.

8 – المرجع سابق. ص 28.

9 – سعيد يقطين. مرجع سابق.

10 – المرجع السابق.

11 – المرجع السابق.

12 – المرجع السابق.

13 – قاسم عبده قاسم. “الرواية التاريخية العربية: زمن الازدهار”. في تجارب في الإبداع الأدبي. مرجع سابق. 236-249.

14 – المرجع السابق.

 

أمين دراوشة

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى