«بدايات الرواية العربية الحديثة».. السرديات والنظريات الأولى
لطالما كانت أهميّة المجلّات النّقديّة أنّها تواكب العمل الأدبي الإبداعي، وترصد مسيرة تطوّره، ومكامن التّجديد، لتصبح تاليًا، مؤشّرًا لمستوى الحركة النّقديّة في مرحلة من المراحل. وأهميّة هذه المجلّات النّقديّة أنّها تعرف المبدع بأنّ ثمّة متخصّصين مهتمّون بأدبه، وثمّة من يقف له بالمرصاد، إن سلبًا وإن إيجابًا، إن كان متأثرًا بمن سبقه، أو قدّم جديدًا…
لكن تبقى للمجلّات النّقديّة المتخصّصة الصّادرة عن جامعات قيمة مضافة، ذلك أنّ من يشرف عليها هم من ذوي الاختصاص. «حوليّات» المجلّة التي تصدر عن كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة – جامعة البلمند أفردت عدَدَها السادس عشر والموسوم «بدايات الرواية العربية الحديثة، إشكاليّات ومقاربات» لكشف ا»لنّقاب عن تاريخ هذه الرواية المغمور وغير المدروس كفاية، من أجل وضعها ومتفرّعاتها في السّياق التّاريخي اللازم لها» كما جاء في الافتتاحيّة، بقلم رئيسة التحرير مارلين كنعان. في هذا العدد ثماني دراسات تعود إلى باحثين من جامعات عربية وأوروبيّة.
قدّم شربل داغر دراسة معمّقة عن رواية منسيّة للكاتب فرنسيس الحلبي «درّ الصَّدف في غرائب الصُّدف» التي يصحّ أن تدرج في بدايات السّرد العربي الحديث. بحث في إمكانيّة تأثّر مرّاش بأعمال سرديّة عربيّة. وكشف تقاطع السّرد بينه وبين رواية خليل خوري (وَي… إذن لست بإفرنجي) وأوجه التأثّر بينهما، ويظهر ذلك من خلال الشبه بين شخوص الروايتين.
كما توقف عند تقاطعات بين مرّاش وسليم البستاني في «الهيام في جنان الشام» و «بدور» عبر قيام الرّوايات على قصّة حبّ واتّخاذ الحدائق مسرحًا للأحداث. ومن ثمّ عرض تأثّر فرنسيس بالتّراث الحكائي العربي القديم. أمّا عن تأثّره بكتب غربيّة، فالأمر يحتاج إلى التّدقيق في صلة السرد العربي بالسرد الفرنسي، حيث ذُكِر الكثير عن تأثّره بالفكر التنويري الفرنسي، لا سيّما أعمال روسّو.
وتحت عنوان «تلقّي الرّواية» في «دائرة معارف البستاني» قدّم سامي أحمد بحثًا حول مادّة «رواية» التي جاءت في الجزء الثّامن من» دائرة المعارف». ووازن بين الثقافتين العربيّة والأوروبيّة في تقديم المصطلحات، واستخدم مصطلح «رواية» بمعنى مختلف الأشكال السّرديّة التي عرفتها الثّقافة الأوروبيّة، منذ قدمها، إلى بداية القرن السّابع عشر.
معتمدًا منهجيّة التّحليل الثقافي، تناول الباحث ثلاثة محاور: عالج في المحور الأوّل رؤية سليم البستاني إلى أصالة الوجود التّاريخي للرّواية، وقد سبق معاصريه من النقاد في هذا المجال. وتناول في المحور الثاني ماهية الرواية موازنةً بماهيتي المسرحيّة والحكاية، وخصّص المحور الثالث للبحث في مهام الرواية وثنائيّة التّعليم والمتعة، سبيلًا أوليًّا لتغيير سلوك المتلقّي.
- المدينة
وانطلاقًا من رواية خليل خوري» وَي. إذن لست بإفرنجي» التي نشر حلقاتها في صحيفته «حديقة الأخبار» في العام 1858 تناول مصلح النّجّار مسألة وعي الهويّة وأسئلة النّهضة، فأشار إلى ريادة الخوري في فنّ الرواية، وسبْقه هيكل وزينب فواز. ومن ثمّ توقّف عند وعيه الحاجة العضويّة إلى المدينة لغاية وجود فنّ روائي، فعالج تنامي المدينة المعاصرة، والتحوّلات الاجتماعية للطبقة الوسطى.
لقد دخل الخوري إلى الرواية بشروط شعبية لا نخبويّة. أمّا لغة روايته فقد تراوحت بين الفصحى والعاميّة، وتجاورت فيها العربية والفرنسية. وظهر فيها حسّ وعظي، وحضرت أسئلة الهوية للأخذ بأسباب نهضة عربيّة. وكانت إجاباتها أقرب إلى الوضوح في ذهن المبدع النخبوي، لكنها تثير قلق من يعاني تمزّق الوعي.
ومن خلال هذه الرواية أيضًا، بحثت شهلا العجيلي عن ملامح الوعي الجمالي، واختارت هذا النّصّ كونه أنضج فنيًّا مقارنة مع النصوص التي تلته. برز في رواية الخوري الوعي الجمالي التراثي، وكشفت العجيلي، من خلال دراسة نماذج عديدة، أنّ التملّق الثقافي مثّل الذوق السّائد في مرحلة التنوير.
وتناولت نموذجًا حداثيًا، هو «رجوع الموجة» لمي زيادة. ووجدت أنّ تغيّر العلاقات بين الأنساق الثّقافيّة ينتج تغيّيرًا في الوعي الجمالي. وخلصت إلى أنّ خلخلة الوعي الجمالي القديم احتاجت زمنًا طويلًا نسبيًّا، إلى أن انتقلت الرواية العربيّة من مجرّد مغامرة جماليّة، إلى تجربة ذات نماذج جماليّة معياريّة، تشكّل عنصرًا «في عمليّة الحياة نفسها».
وقدّم تامر فايز دراسة عالج فيها إشكاليّة الجدل بين الموروث والوافد السّرديّين من خلال رواية «قلب الرجل» للبيبة هاشم. كشف التقسيمُ الشّكلي للفصول والعناوين الفرعيّة وأسماء الشّخصيّات الانتماءَ إلى التراث النقدي.
ومن خلال تناوله بناء الحدث الروائي وطبيعة تكنيكاته، وجد أنّ الكاتبة اعتمدت مقدمات تاريخية لها وظيفة الحدث التاريخي في السِّير القديمة. وكانت الصياغة الأسلوبيّة واللغويّة لـ «قلب الرجل» قريبة من العبارات المسجوعة في المقامات.
ثمّ أوضح تأثرها بالثقافة الغربية الوافدة، لا سيّما من الناحية الفنيّة عبر تضمين الوحدة السّرديّة الثانية مجموعة وقائع متسلسلة، شكلت «بنية سرديّة» وفق «منطق سببي معقول». وتابع دراسة الجدل بين الموروث والوافد من خلال تشكيل شخصيّات الرواية، إذ استلهمت ملامحها من روايات غربيّة. فضلًا عن وجود ملامح أخرى وافدة، تمثّلت في الرومانسية وكتابة الرسائل والمونولوج الداخلي.
- «عيد سيّدة صيدنايا»
وأفرد سرجون كرم دراسة لقصّة أنطون سعادة «عيد سيّدة صيدنايا» التي تنتمي إلى الأدب الفروسي الرومنطيقي، حيث يشكّل الصّراع بين الخير والشّرّ لبنته الأساسيّة. وظّف سعادة القصّة «على قاعدة سوريّة أسطوريّة» شكّلت خلفيّته العقائديّة وآراءه الاصلاحيّة التي تبلورت في الحزب الذي أسّسه.
وتوصّل الباحث إلى أنّ حبكة القصّة تنطوي على عناصر سينمائيّة تشبه أفلام الويسترن التي نسجت فكرة البطل القومي. أما أسماء الشّخصيّات فتعكس الصّراع بين الإنسان الجديد العلماني والدّيني التقليدي، أي ما يشكّل صلب مبادئ سعادة الاجتماعيّة.
ونشرت «حوليّات» في هذا العدد «نصًّا نادرًا» للأديب والمؤرّخ اللبناني حكمت شريف. وقد عدّ جرجي زيدان ذلك النّصّ أوّل بحث جدّي في وضع علم لدرس الرواية. وهو «أول مسعى لتقديم الرواية ودرسها والتّعريف بقواعدها الفنيّة» كما جاء في تقديم شربل داغر.
وجاء البحث الأخير لربيع طالب مهدي درمان تحت عنوان «النقد العربي وإشكاليّة الرواية الأولى في الأدب الحديث». انطلق من كتاب «الحداثة الممكنة» لرضوى عاشور بهدف إظهار مساعي الدّارسين العرب في نشر بواكير الأعمال الروائيّة.
وتناول كتاب أحمد فارس الشدياق «السّاق على السّاق» فقدّم تنوّع الاجتهادات والفروقات في دراسته بتنوّع الباحثين واختلافهم، لا سيّما في تمييزهم بين السّيرة الذاتيّة المتخيّلة، والرواية، تبعًا للنّسق الأوروبي.
بعد هذا العدد المتخصّص ببدايات الرواية، هل ثمّة اهتمام بالدّور الذي تؤدّيه الرّواية العربيّة في تشكيل الوعي المعرفي؟ أم أن تخلخل بنية مجتمعاتنا أثّر سلبًا في النتاج الأدبي النّقدي المتعلق بجذور الرّواية العربيّة وبغيرها من القضايا ؟