نقد

الامتياز النقدي والفكري في المغرب

كرَّستهُ الجامعة والانفتاح على المدرسة الفرنسية

يكتسب الحراك الثقافي المغربي على مستويات المنتج النقدي والفكري والفلسفي موقع حجر الزاوية في المشهد الثقافي العربي العام، وهذه المكانة التي حازها ليست وليدة صدفة، بل هي نتاج مسار طويل بدأ في الجامعة المغربية التي انفتحت في وقت مبكر على أحدث المناهج الغربية وبالأخص المدرسة الفرنسية في الفلسفة والعلوم الإنسانية.


ريادة هي اليوم في المحك الحقيقي، لأنها مطالبة على الدوام بأن تكون في أفق القارئ العربي وأهل البحث والاختصاص.. حتى أن أهل المشرق أصبحوا ينظرون بعيون الإعجاب والترقب إلى ما يحصل في ساحة المغرب الثقافية من جديد ومن سجال نقدي مدموغ بحرية الممارسة النقدية ومسؤوليتها، واصطفافها إلى جانب العقل المتوقد الخلاق، في أفق تحريك سواكن الثقافة العربية المهيضة الجناحين.


وفي هذا السياق يرى الناقد المغربي الدكتور سعيد يقطين أن الساحة النقدية في المغرب تكتسي أهمية خاصة ضمن النسيج العام للمنتج النقدي العربي، ويقول: لا أحد يجادل الآن في الموقع الذي بات يحتله النقد المغربي المعاصر في خريطة الأدب العربي الحديث.

فالكل، وأقصد إخواننا في المشرق العربي، يقرون وليس فقط بالصوت العالي، ولكن بالصورة الواضحة أيضا، بما صار يتميز به، عطاء المغاربة ليس فقط في مجال النقد الأدبي ولكن في الترجمة أيضا لما يتصف به هذان الحقلان من جدية وخصوبة وتجديد.


لم يبدأ هذا الموقع في التشكل إلا في الثمانينات من القرن العشرين فقط. أما قبل هذه الفترة، فقد كان المغرب، نسياً منسياً في المشرق العربي. وكانت النظرة السائدة تجاهه، نظير ما كانت عليه خلال قرون طويلة، حيث كان المغاربة الغرب الإسلامي يستشعرون فيه، أبدا، إهمال المشارقة لإسهاماتهم في المجالات المختلفة وعدم الاعتراف بقيمتها أو إضافتها. فما الذي تحول؟ وما أسباب هذا التحول؟


  • بداية التحول

وفي جواب عن هذا التساؤل يطرح الناقد سعيد يقطين التالي: قد تتعدد تفسيرات هذا الوضع الجديد الذي بات يعرفه النقد المغربي، لكني أجملها في ثلاثة عناصر مجتمعة هي: الجامعة، التحديث، التفاعل، فقد كانت بدايات التحول منذ أواسط السبعينات وكانت شعبة اللغة العربية في الرباط وهي الأم ورشة معرفية ومنارة فكرية وقلعة سياسية: محمد برادة مدير آفاق اتحاد كتّاب المغرب، ومحمد بنيس مدير الثقافة الجديدة، وسعيد علوش مدير الزمان المغربي وعبد الحميد عقار مدير الجسور.

وكانت شعبة اللغة العربية في مدينة فاس وهي أم أخرى كي لا أقول ثانية حلقة للبحث وطليعية ورائدة: محمد العمري ومبارك حنون وحميد لحميداني ومحمد الولي يشتغلون في مجلة دراسات لسانية وسيميائية.


ومن وجدة مشكاة حسن الأمراني، ومن طنجة مواسم أحمد الطريبق، ومن الدار البيضاء فضاءات مستقبلية لمحمد البكري، ومن الناضور فضاءات مغربية لأقضاض ورشيق، ومجرة في القنيطرة حين كان بشيرالقمري مسؤولا عنها،

ولا تزال علامات سعيد بنكراد ترفع الراية من مكناس، وبمحاذاتها تصدر جريدة الجامعة عبد الصمد بلكبير ومصطفى المسناوي، وجريدة الحوار الأكاديمي والجامعي لمحمد الطالبي، علاوة على أنوال الثقافي، ولكل منها منشورات لتجديد النظر في الأدب والنقد والفكر والثقافة، هذا بالإضافة إلى المجلات الحائطية الثقافية الرصينة للاتحاد الوطني لطلبة المغرب.


أما التحديث فهو إدماج الأدب الحديث والمعاصر في التعليم العالي والثانوي. فكان تدريس المناهج الحديثة والجديدة والفنون الأدبية الحديثة مثل الرواية والمسرح والقصة القصيرة طليعياً في المغرب بالقياس إلى العديد من كليات الآداب في الوطن العربي التي ظلت منفصلة عن الأدب المعاصر. ولم يقتصر التحديث على تقديم مواد حديثة، ولكنه اتصل أيضا بتدريس المواد القديمة بمناهج حديثة وجديدة.

فأدى التحديث وظيفة مزدوجة: تجديد الدرس الجامعي بالنظر إلى الأدب والمناهج القديمة والحديثة من منظور جديد من جهة، وربط الأدب القديم والحديث بالعصر.


أما التفاعل فكان تفاعل المغربي أستاذاً وطالباً مع الثقافة العربية في المشرق قوياً جداً. وكان المغاربة يعيبون على أنفسهم معرفتهم بالمشرق أكثر من المغرب، في حقبة أولى. ومنذ السبعينات كان تفاعل المغاربة في شعبة اللغة العربية قوياً مع الثقافة الفرنسية.

وخاصة في الجانب النظري والمنهجي، ونسبيا مع الإنجليزية، في حقبة ثانية. فكانت نتيجة هذا التفاعل المزدوج مفيدة جدا على المستوى المعرفي بالإنتاج المشرقي وبالمنهجية الغربية. فكان العطاء المتميز، وكان الجدية في التناول، وكان تميز التجربة النقدية المغربية.


ويرى الناقد والمترجم المغربي إبراهيم الخطيب أن الحركة الفكرية والنقدية عرفت تحولات جذرية جعلتها تتربع على عرش الريادة والحداثة، ويقول الخطيب لم يكن النقد الأدبي في المغرب، منذ نشوئه، منصرفا عن محاورة الشرق والغرب، شأنه في ذلك شأن الثقافة.

ويبدو لي أن هذه الوضعية لا ترتبط فقط بظروف النشأة والتبلور والاختمار، وإنما تعبر عن واقع بنيوي. فإذا كنا قريبين من الشرق بفضل اللغة والتاريخ، فإننا أيضا قريبون من الغرب بسبب الجوار والهيمنة.


وإزاء التخبط الذي عرفته الثقافة المشرقية في ظل سياسة الانفتاح وفشل المشروع القومي، وجه نقاد الأدب المغاربة اهتمامهم إلى الثقافة الفرنسية التي عرفت حيوية جديدة على إثر ماي 1968 تجلت في ظهور مجلات متخصصة في النقد الأدبي تعتمد التحليل الشكلاني والبنيوي والبنيوي التكويني والسيميائي.

ونظراً لحلول الإنتاج الأدبي المغربي بالمقررات التعليمية سواء في الثانوي التأهيلي أو الجامعة، فقد أصبح الطريق ممهداً لدخول النقد الأدبي الجديد في المغرب إلى مناهج تحليل النصوص، وذلك بموازاة ظهور كتب مترجمة عن الفرنسية تعالج نظرية الأدب وتطرح مفاهيم النسق والحبكة والانزياح وتعدد الأصوات إلخ…


في هذا الوقت، أخذت الترجمة والنقد الأدبي في المغرب يجتذبان أنظار النقاد المشارقة، بل أصبح الإقبال على اقتناء الكتب المنشورة في المغرب، إبان معارض الكتب التي تقام في المشرق، ظاهرة مألوفة خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، لكن هذه الظاهرة لم تلبث أن عرفت خفوتا تدريجيا في السنوات الأخيرة، وهو الخفوت الذي واكب أزمة المصطلح النقدي واحتلال التحليل السياسي والاقتصادي الواجهة الثقافية باعتبارهما معبرين عن قضايا الساعة، وتعقيدات الأوضاع الاجتماعية.


  • النص والقارئ

ويذهب الناقد المغربي حسن المودن إلى القول إنه يعود الفضل إلى المحطة الجديدة التي يعيشها الفكر النقدي في المغرب، والتي لا تزال متواصلة في تكريس فكرة أساس مفادها أن الأدب هو هذا الشيء الذي يسمح بأن نقاربه من منظورات متعددة، وأن الأهمّ ليس هو اختبار فعالية المنهج، بل الأساس هو فتح فضاء حوار حرّ بين النص والقارئ، بالمعنى الذي يؤدي إلى أن النص هو الذي يفرض منهج قراءته وزاوية مقاربته.


وهذا بلا شك يعني أن الأمر لا يتعلق بمنهج مقنن محكم صارم نفرضه على النص الأدبي، بل هو أمر يقتضي أن يبدو المنهج كأنه لا يطلب الاستقرار، وهو كالأدب نفسه، يقوم في كلّ مرّة بفتح الطريق أمام احتمالات جديدة، ويتقدّم بعيدا عن المعيارية والإسقاط والتعسّف.

وقريبا من النص الأدبي بالشكل الذي يجعل التخييل عنصرا مشتركا بين الكتابة والقراءة، ويسمح للقراءة بأن تكون تورّطا للذّات القارئة داخل عوالم النص الأدبي، كما يسمح للنص بأن يسهم في توليد وتوسيع امتدادات الخطاب الأدبي.


ويضيف المودن يمكن أن نستخلص مما تقدم أن النقد الأدبي في المغرب قد عرف، منذ عقدين أو أكثر، تحولات نوعية في لغته ومنهجه وتصوره للكتابة تؤهله ليحتل مكانة متقدمة في الساحة النقدية العربية المعاصرة.

وهي مكانة يؤكدها الإقبال على المؤلفات النقدية المغربية، ويؤكدها حضور المغاربة في أهم المجلات النقدية العربية، والمواقع الأدبية الالكترونية، وانخراطهم في التنظير للأدب الرقمي، ومشاركتهم في الملتقيات الكبرى، وحصولهم على أهم الجوائز العربية.


وليست الغاية من تسجيل هذه الخلاصة ادعاء تفوق للمغربي على المشرقي أو ما شابه ذلك، فإذا كان المشارقة قد التفتوا إلى النقد الأدبي في المغرب، فالناقد المغربي المعاصر، من جهته، صار أكثر انفتاحا على النص العربي في مختلف أرجاء الوطن العربي: هناك التفات إلى الأدب المغاربي، فصدرت دراسات وأقيمت ملتقيات ودورات متبادلة بين أقطار المغرب العربي.

وهناك اهتمام بالنصوص الجديدة في مصر والأردن ودول الخليج… والناقد المغربي أضحى أكثر قربا من النص القديم، ونجح في تأسيس قراءة جديدة للتراث الأدبي كان لها صدى كبير في الوطن العربي. والناقد المغربي عرف كيف يواكب التحولات التي يعرفها الأدب المعاصر، وعرف كيف يقدم أهم التجارب الجديدة في الأدب العربي المعاصر، في المغرب كما في المشرق.


والمفارقة أن النقد الأدبي في المغرب، وبالرغم من التحولات التي عرفها، والنجاحات التي حققها في الخارج الوطن العربي، فإنه يوجد في وضعية صعبة داخل المغرب، في غياب الدعم والاعتراف، وفي وجود صعوبات كبرى في النشر والتوزيع والقراءة.

فالكتاب النقدي المغربي المطلوب في الوطن العربي لا يجد، على المستوى المحلي، دعما ولا شروطا تسمح بوصوله إلى القارئ المغربي والعربي، وهو ما يدفع الكتّاب والنقّاد المغاربة اليوم إلى نشر أعمالهم في أقطار عربية أخرى.


الخليج

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى