في ذكرى ميلاد الماغوط.؛ شاعرُ جيلِ السَّخط والغضب والتمرّد
محمّد الماغوط (الذي صادفت هذا العام ذكرى ميلاده الـ85) لا يتكلّم عن تجربته، وإنمّا يتكلّم عن تجربة جيل بأسره، جيل مسكين خدع منذ الصغر بالشعارات السياسية والفكرية البرّاقة، ولم يكتشف أنه مخدوع إلا وهو يدقّ أبواب الشيخوخة بقبضات واهنة، فعلم آنذاك أنه أضاع أجمل سني عمره هباء.
مأساة الماغوط أنه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها “الشرق الأوسط”، ومنذ مجموعته الأولى “حزن في ضوء القمر” وهو يحاول توسيع ما بين قضبان النوافذ ليرى العالم ويتنسّم بعض الحرية. والمشكلة أنه لا يملك سوى الشعر ليغيّر به العالم، وبالشعر وحده لن يستطيع تغيير شيء.
ومحمّد الماغوط يبحث عن الحماية منذ صغره، وكلما التجأ إلى زاوية رآها خانقة كالسجن.
“الماغوط كاتب ناقم، ساخر، يكره المدح، يتحاشى مجالس الأدباء، ويكره التنظير، والكتابة هي حصانته الأخيرة، يلجأ إليها حين يحاصر من قبل الطغاة”.
أراد أن يدخل عالم الشعر فوجد أن المناخ الاجتماعي الذي عاش به أعطاه الصفاء، والحياة السرية أعطته التأمل، وهذان هما أساس الإبداع الشعري، فكان واحداً ممن تحرّر من أوزان الشعر وعبوديتها، لينطلق إلى قصيد النثر، ومنها إلى الأعمال الأخرى، فكان كحارس جهنم، يصرخ في الناس، وهو يمسك سوطاً من نار، يلهب به ظهورهم كي يعلمهم الثورة والغضب والرفض، على ما تقدّمه لهم الأنظمة العربية، فلقد اتقن الماغوط اللعبة، وصار يعرف كيف يمكن الوصول إلى الناس.
يجلس في مقهى “أبو شفيق” على ضفاف بردى في دمشق يومياً وبالقرب منه زكريا تامر وآخرون، و”يدور الحوار عن دمشق التي أحبها أكثر من عشيقة ولكنها رفضته، قلت لها: عطشان يا دمشق – قالت: اشرب دموعك، قلت لها: جوعان يا دمشق – قالت: كل حذائي”، وعن سلمية المحبوبة المشتهاة قال: دميتها في البحر/ وأصابعها في الصحراء/ يحّدها من الشمال الرعب/ ومن الجنوب الحزن/ ومن الشرق الغبار/ ومن الغرب الأطلال والغربان/ فصولها متقابلة أبداً/ كعيون حزينة في قطار.
والماغوط أعطى بعداً جديداً لقصيدة النثر، ولا يمكن لأحد كتب قصيدة النثر إلا ومرّ على ما كتبه، ليقرأ كيف كان يصيغ القصيدة النثرية الملفحة بتخاذل الحكام وبالثورة، إنه يكتب قصيدة تنحاز إلى تفردها، وتفرد صاحبها، وتستوعب ثقافته وثقافة العصر الذي يعيش فيه، وهي تتجادل مع عناصر تنتمي إلى الشعر، وعناصر تنتمي إلى النثر في أرقى تشكيلاته.
الماغوط من أوائل من كتبوا الشعر المنثور، وله نتاج متميز في هذا المجال، ومن دواوينه الشعرية: حزن في ضوء القمر – غرفة بملايين الجدران – الفرح ليس مهنتي. وله عدّة مسرحيات، ورواية واحدة هي الأرجوحة، ومن نثره: سأخون وطني.
وقد عالج المواقف الوطنية والقومية برؤية شعرية تنطبق على أيّ وطن، إنه لا يذكره أبداً، وعلى ذلك يكون الوطن قارة بكاملها، والثورة شاملة على هذه القارة.
الماغوط كاتب ناقم، ساخر، يكره المدح، يتحاشى مجالس الأدباء، ويكره التنظير، والكتابة هي حصانته الأخيرة، يلجأ إليها حين يحاصر من قبل الطغاة، وحين ييأس، في عصر كلّه إحباط ويأس.
ولد الماغوط عام 1934 في سلمية، وانتسب وهو شاب صغير إلى الحزب القومي السوري،
“أعطى بعداً جديداً لقصيدة النثر، وهي تتجادل مع عناصر من الشعر وأخرى من النثر”
وقد تضاربت عنده السخرية إلى أقصى مراحلها، بأنه فضل الانتساب إلى هذا الحزب، لأنه وجد عندهم مدفأة، بينما الأحزاب الأخرى لا يوجد لديها مدفأة، فبإمكانه أن يتدفأ شتاء من قرصة البرد، فيلوذ بالمدفأة ويستمتع بها. وقد سببّ له الانتماء إلى هذا الحزب الهروب إلى بيروت، بعد أن بقي هارباً لفترة من الزمن في غرفة صغيرة ذات سقف واطئ، حشرت حشراً في خاصرة أحد المباني.
وفي بيروت كان الماغوط غريباً ووحيداً، إلى أن قدّمه أدونيس في أحد اجتماعات مجلة “شعر”، قرأ لهم شعراً له ولم يعلن عن اسمه، وجعل الناس يتخبطون عمن قرأ لهم هذا الشعر. وأشار أدونيس إلى شاب، أشعث الشعر، يرتدي ثيابه بشكل فوضوي، ويقف إلى جانبه، ارتبك الشاب ولمعت عيناه، إنه الشاعر الغريب والأعزل.
خاض في بيروت قتالاً شرساً مع خصوم الحزب، وكتب أفضل القصائد الساخرة، إنها سخرية مغموسة بالألم، أو الكوميديا السوداء، المأخوذة من الواقع، والمترعة بمآسيه، ومن هنا نجد الماغوط طفلاً كبيراً جباراً يواجه العالم، عالم البؤس والعنف والقتل والوحشية والموت، وهو يمثل جيل السخط والغضب والتمرّد. لقد استطاع أن يروّض الجواد العربي، ويعلمه حركة النسور، وهي تنقض على جيف الحياة ثم تحلق في الفضاء، كما يقول صلاح فضل في أشعار الماغوط، واستطاع أن يتحرر من إيقاع التاريخ القديم ليعانق حلم الحرية في المستقبل. وهكذا جاءت أشعاره معبّرة عن خبايا النفس المتمردة التوّاقة إلى الحرية والانعتاق من براثن القهر والظلم: “إلى الجحيم أيها الوطن الساكن في قلبي”.
ومثل صياد بارع تمكن من أن يحوّل مفردات مهملة على قارعة الطريق إلى قيمة فنية استطاع أن يوظفها لتصبح ذات دلالة في القصيدة النثرية.
“سامحيني… أنا فقير وظمآن/أنا إنسان تبغ وشوارع وأسمال”.
“مأساة الماغوط أنه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها “الشرق الأوسط”
من يقرأ الماغوط اليوم يبحث عن نفسه بين السطور، فهو بطل هنا أو شاهد هناك أو ضحية في مكان ما، لكنه لن يكون جلاداً في أي مكان، لقد كان طوال حياته شاعراً حرّاً ومتحرراً من أسر الشعر نفسه، ومن الأفكار الجامدة التي تغص بها كتب التاريخ واللغة، عاش حريته كأنه يتنفسها غريزياً في الحياة كما في الكتابة، وهو في شعره شخص صعلوك، يرود الشوارع والأرصفة، جائع ومقهور، ساخر ومارق، إنه ليس أنموذج الشاعر القومي المناضل والمثقف، فلقد مزج شعره بين الوحل والعطر والبول وضوء القمر.
المصدر : العربي الجديد