الاستشراقنقد

إدوارد سعيد قوّةُ الثقافة تواجه ثقافةَ القوّة

يستحيل الحديث عن إدوارد سعيد في نصف ساعة؛ فقد كان مؤلِّفًا وكاتبَ مقالات وأستاذًا جامعيًّا وموسيقيًّا ومساجلًا ثقافيًّا وفاعلًا تعبويًّا منخرطًا في الشأن العامّ، العربيّ والأميركيّ والعالميّ، بشكل شبه يوميّ، على امتداد أكثر من أربعة عقود.


ولو شئنا أن نستعرض، ولو بإيجاز مُخلّ، إسهامَ سعيد في جميع هذه المجالات، لما استطعنا كشفَ تميّزه الفعليّ.


وقد تظنّون أنّني بهذه المقدِّمة أستجدي منكم دقائقَ إضافيّة ــ ــ وهو ظنٌّ في محلّه تمامًا. ومع ذلك فسوف أُضطرّ إلى حصر كلامي بأفكار سعيد ضمن المجاليْن الاستشراقيّ والفلسطينيّ فقط، لسببٍ آخر، غير عامل الوقت، وهو توجُّهي إلى جمهورٍ فلسطينيّ عربيّ أوّلًا، وغيرِ مختصٍّ بقضايا النقد الأدبيّ ثانيًا.


ومن هنا رأيتُ أن أعرضَ في البداية، وبشكل سريع، تطوّرَ رؤية سعيد إلى العالم بحسب أعماله الفكريّة الرئيسة، وخصوصًا الاستشراق والثقافة والإمبرياليّة. بعدها سأركّز على نظرته إلى الحلّ في فلسطين، وعلى دورِه كمثقفٍ ناقدٍ لـ”إسرائيل” أولًا، وللسلطة الفلسطينيّة بعد توقيع اتفاقيّات أوسلو ثانيًا.


وأختمُ ببعضِ ما أعتبرُه جديرًا بأن يترسَّخَ في طلّابنا الجامعيين، في غزّة وخارج غزّة، ممّا حرِص سعيد على قوله وممارسته خلال حياته الصاخبة.


لكنْ، لنذْكرْ في البداية، لمن لا يعرف إدوارد سعيد، أنّ تخصّصَه الأساس كان في الأدب الإنكليزيّ، وكانت رسالةُ الدكتوراه التي قدّمها سنة 1964 إلى جامعة هارفرد عن الكاتب البولنديّ الأصل جوزيف كونراد (صدرتْ في كتابٍ بعد عاميْن بعنوان: جوزيف كونراد ومخيِّلة السيرة الذاتيّة).


بعد عشر سنوات تقريبًا أصدر كتابًا بعنوان: البدايات: النيّة والمنهج (1975)، وفيه يَربط بين الأعمال الأدبيّة الأوروبيّة وسياقِها الاجتماعيّ. ثمّ نشر كتابَه الأشهر، الاستشراق (1978)، وهو مَعْلمٌ بارزٌ في كشف الفكرالاستشراقيّ وارتباطِه بالمؤسّسة الاستعماريّة.


ثم مسألة فلسطين (1979)، فـ تغطية الإسلام (1980)، وهو في نقد دوْر الإعلام الغربيّ التشويهيّ والسطحيّ حيال العالم الإسلاميّ. بعدها أصدر تحفتَه النقديّة: العالم، النصّ، الناقد (1983)، وهو كتابٌ في نقد النقد الحديث ابتداءً من القرن الثامن عشر.


في العام 1991 اكتشف إدوارد، عبر تشخيصٍ طبيّ، إصابتَه بسرطان الدم (اللوكيميا)، وكان ذلك أحدَ دوافعه الرئيسة إلى كتابة سيرته الذاتيّة الرائعة، خارج المكان (صدرتْ سنة 1999)، وفيها تحدّث عن ولادته في القدس من أبٍ فلسطينيّ (بجنسيّةٍ أميركيّة) وأمٍّ لبنانيّة، ثم انتقالِه مع عائلته إلى القاهرة، قبل أن يرسَلَ طالبًا إلى الولايات المتحدة لنيل الدكتوراه وبدءِ حياته الأكاديميّة (والاشتباكيّة) اللامعة.


وكان سعيد في العام 1993 قد أصدر عملَه الضخم، الثقافة والإمبرياليّة. وبعدها جمع ستَّ محاضراتٍ قدّمها إلى هيئة الإذاعة البريطانيّة ضمن كتابٍ بعنوان: صور المثقّف (1994)، وفيه استعرض نماذجَ مختلفةً من المثقّفين، ولاسيّما مَن رفض الخضوعَ لإغراء السلطة والنفوذ، سالكًا (أي سعيد) سبيلًا حذرًا، قوامُه: الالتزامُ السياسيُّ العميق، لكنْ من دون الوقوع في أشراك التبريرات القومويّة والإلزامات الحزبيّة.


سنة 1994 نشر سعيد سياسات الحرمان، وهو مجموعةُ مقالاتٍ كتبها بين العامين 1969 و1994، وتتمحور حول القضيّة الفلسطينيّة والعالم العربيّ. ثمّ جمع مقالاتِه الناقدة لـ”عمليّة السلام” الفلسطينيّ  الإسرائيليّ في كتابٍ واحد بعنوان: نهاية عمليّة السلام (2000).


في الأثناء، كان سعيد قد أصدر كتبًا أخرى، وبعضُها مع مثقّفين آخرين، ومنها: لوْمُ الضحايا(1988)، مع الصحافيّ كريستوفر هيتشينز، وتضمّ إسهاماتٍ لنوام تشومسكي ونورمن فنكلستين ورشيد الخالدي وإبراهيم أبو لغد وغيرهم.


الجدير ذكرُه أنّ كتبًا عدّةً صدرتْ بعد رحيل سعيد سنة 2003، أهمُّها: الأنْسنيّة والنقد الديمقراطيّ (2004)، وعن الأسلوب المتأخّر (2006). وغالبيّةُ هذه الكتب، فضلًا عن كتبٍ أخرى لسعيد (مثل تأمّلات في المنفى)، جرى تعريبُها ونشرُها عن دار الآداب في بيروت.

يتعامل المستشرقون مع الشرق والغرب كأنّهما جوهران ثابتان


  • القسم الأول: نظرةُ سعيد إلى العالم: ما يتعدّى فالق “شرق/غرب”

مرّ إدوارد سعيد بثلاث مراحل فكريّة أساسيّة في ما يخصّ رؤيتَه للفالق المزعوم بين الشرق والغرب:
1) في المرحلة الأولى عمد إلى نقد الاستشراق. وكتابُه الشهير، الاستشراق (1978)، تناولَ نظرةَ فريقٍ من الكتّاب الغربيين إلى “الشرق،” وبعضُهم (مثل برنارد لويس) على علاقةٍ وثيقةٍ بالمؤسّسة الإمبرياليّة.


هكذا صُوّر الشرقُ، بسبب هذا الفريق، بكلّ العلامات السلبيّة التي يمكن تخيّلُها: إرهابيًّا، شرِهًا، فاسدًا، غارقًا في النفط،… بما يبرِّر لـ”الغرب” السيطرةَ عليه واستعمارَه وافتكاكَ خيراته منه.

وباستثناء حفنةٍ قليلة، يتميّز المستشرقون، بحسب سعيد، بأنّهم يتعاملون مع الشرق والغرب كأنّهما جوهران ثابتان: أوّلُهما جامدٌ ولاعقلانيٌّ وأحاديّ، والثاني متغيّرٌ وعقلانيٌّ ومتعدّد. على أنّ إدوارد يستنتج أنّ “الغرب،” من خلال الاستشراق، إنّما يعمل على إنتاج نفسِه عبْر ما يروِّج أنّه نقيضُه.

وفي مواجهة ذلك الفالق، يحذّر سعيد الشرقيين من “تشريق ذاتهم” ومن ممارسة “الاستغراب”: فالتشريق يعني قبولَ الشرقيين بأحكام “الغرب” وبمحاكمته الزائفة لهم؛ والاستغراب يعني تضخيمَهم لذواتهم على حساب معرفتها ومعرفةِ الآخرين معرفةً أقربَ ما تكون إلى الحقيقة.

غير أنّ بعضَ الأصوليين قرأوا نقدَ سعيد للاستشراق وكأنّه دعوةٌ إلى الانغماس في “الهويّة” و”الخصوصيّة” الشرقيّة. والحقّ أنّ كتاب سعيد لا يهدف إلى مواجهة القراءة النمطيّة، المدفوعة بأهداف الاستعمار والهيمنة، بقراءة تسعى إلى تأبيد الماضي والسلف. إنّ كتاب الاستشراق هو كتابٌ ضدّ تسييج الثقافات، أيًّا كانت، ومهما كان الهدف، ضمن حصون مغلقة.

ومن هنا فإنّه لا ينتمي إلى حقل الأدب المقارِن أو دراسات ما بعد الكولونياليّة أو النقد الأدبيّ فحسب، بل ينتمي كذلك إلى حقل يجمع هذه جميعَها ويسير في اتجاه رؤية إنسانيّةٍ تقدميّةٍ كونيّة تتجاوز الفالقَ المذكورَ من أساسه.
2) المرحلة الثانية بلغتْ ذروتَها في كتابٍ لسعيد لا يقلُّ أهميّةً ونبوغًا عن الاستشراق؛ عنيت: الثقافة والإمبرياليّة.

هذا الكتاب، الصادر بعد أكثر من خمسة عشر عامًا على صدور الاستشراق، يُكمل هذا الأخيرَ من زاويتين: فسعيد هنا لا يكتفي بدراسة دوْر الثقافة في خدمة الإمبرياليّة، بل يتناول “الغربَ” من منظور الشرقيين هذه المرّة، مركِّزًا على الثقافة المقاوِمة للإمبرياليّة. في هذه المرحلة، يُظْهر سعيد ميْلًا أعظمَ إلى الحديث عن المصالح الاقتصاديّة والاجتماعيّة المرتبطة بالسلطة، بدلًا من المعرفة المرتبطة بهذه السلطة.

3) المرحلة الثالثة والأخيرة هي تجاوزُ الاهتمام بنقد الفالق الشرقيّ/الغربيّ، باتجاه التبنّي الجذريّ للأنسنيّة (humanism)، التي هي أساسُ الديمقراطيّة الفعليّة. وهذا ما يتبدّى في كتابٍ لسعيد صدر بالعربيّة بعد رحيله تحت عنوان: الأنسنيّة والنقدُ الديمقراطيّ.


  • القسم الثاني: سعيد وفلسطين

لم تكن فلسطينُ الهدفَ الأولَ لهذا الشابّ الفلسطينيّ ـــ الأميركيّ اللامع إلّا بعد هزيمة 1967. بل إنّ هذه الهزيمة، التي أتت على كامل فلسطين، بالإضافة إلى الجوْلان وسيناء، لم تدفعْه إلى دراسة الاستشراق فحسب، وإنّما إلى تطوير لغته العربيّة أيضًا، وإلى العودة إلى الذات والتاريخ الأصليّيْن.


يقول: “حتى وقوع حرب حزيران 1967 كنتُ ما أزال منغمسًا في حياة بروفيسور شابّ في الأدب الانكليزيّ. لكنْ، مع بداية العام 1968، بدأتُ أفكّر وأكتب وأسافر كأنّني شخصٌ يَعتبر نفسَه منغمسًا بشكلٍ مباشر في نهضة الحياة الفلسطينيّة والسياسةِ الفلسطينيّة.”


لم تكن كارثةُ فلسطين أطولَ احتلالٍ متواصلٍ منذ منتصف القرن العشرين فحسب، بل كانت كذلك تجسيدًا لأهمّ الأفكار التي سيعمل عليها سعيد طوال حياته: من تبرير استعمار الآخرين بذريعة “الرسالة التحضيريّة،” إلى رمي تبِعات المحرقة النازيّة (التي نفّذها قسمٌ من الغرب) على شعبٍ من الشرق، وانتهاءً باستخدام “زنجيّ السيِّد الأبيض” (أي السلطة الفلسطينيّة) في تنفيذ سياسات الاستعمار لقاءَ “الفتاتيت” (والتعبير لسعيد).


راح سعيد، الذي اكتشف ولادتَه الفلسطينيّةَ الجديدة بعد هزيمة 67، يدبِّج المقالَ تلو المقال، والكتابَ تلو الكتاب، من أجل تعريف الجمهور الغربيّ بالشعب الفلسطينيّ، تاريخًا وثقافةً ونضالًا، ومن أجل إبراز الظلم الصهيونيّ وارتباطِه بالمنظومات الثقافيّة الغربيّة الاستعماريّة. وقبيْل توقيع اوسلو وبعدَه، اتّجه سعيد بشكلٍ أسبوعيّ إلى الجمهور العربيّ، حتى تجاوزتْ مقالاتُه في جريدة الحياة وحدها مئة وعشرين.[1]


تمسّك سعيد بمبادئَ عامّةٍ لحلّ الصراع على فلسطين. وهو لم يتزحزحْ عن هذه المبادئ طوال حياته، خلافًا ربّما لنظرته إلى شكل الدولة المنشودة على أرض فلسطين التاريخيّة. وهذه المبادئ تلخَّص بالآتي:


1) ضرورةُ اعتراف إسرائيل بجرائمها وتهجيرها.

2) عدمُ إيمانه بالخيار العسكريّ، سواءٌ اختاره الفلسطينيون أو الإسرائيليون. يقول: “لقد كنتُ، منذ نهاية السبعينيّات، من أوائل الفلسطينيين الذين قالوا انْ ليس أمامنا أو أمامهم أيُّ خيارٍ عسكريّ؛ وأنا بالتأكيد العربيُّ المعروفُ الأوحد الذي أكتب هذه الأمور… في الصحافة العربيّة كما أقولها هنا [في الغرب].” وهو يؤكّد: “علينا أن نوضحَ للإسرائيليين… أنّ كفاحَنا لا يَهدف إلى طردهم من الشرق الأوسط…

لكنْ يمْكننا التأكيدُ لهم، كما حرِص مانديلا دومًا على التأكيد للبِيض، أنّنا نريد لهم البقاءَ والمشاركةَ معنا في الأرض على أساس المساواة.” ويضيف أنّ من حقّ الإسرائيليين البقاءَ شرطَ التخلّي عن إيديولوجيّتهم “التي تُنْكر حقوقَ الآخرين.”[2]
3) حقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين.


أمّا في خصوص الدولة التي يطمح سعيد إلى رؤيتها بعد زوال الاحتلال، فقد أيّد أوّل الأمر موقفَ منظّمة التحرير الأصليّ، أيْ قبل إعلان “البرنامج المرحليّ” عام 1974، والقاضي بقيام دولة علمانيّةٍ ديموقراطيّة على كامل فلسطين التاريخيّة.


لكنّ إدوارد، منذ أواسط السبعينيّات، دافع عن “حلّ الدولتين،” وفي العام 1988 تَرجم إلى الإنكليزيّة إعلانَ الدولة الفلسطينيّة على حدود 67، والأرجح أنّه شارك في صياغته إلى جانب محمود درويش. وكان قبل ذلك بعامين قد أعلن أنه يَقْبل بسيادة إسرائيل على ما بقي من فلسطين لأنه يَعُدُّ إسرائيلَ “واقعًا،” ولأنّها “نتيجةٌ للتاريخ المأسويّ جدًّا للشعب اليهوديّ!”


أمّا شكل الدولتين الذي ارتآه فهو أن تكُونَ لكلٍّ منهما حقوقٌ متساويةٌ لمواطنيهما، ولكنْ “في تفاعلٍ، بحيث يمْكن في النهاية خلقُ وضعٍ شبيهٍ بالكانتونات السويسريّة…”[3]


غير أنّ “توغّل الحركة الاستيطانيّة والحكومةِ الإسرائيليّة والجيشِ الإسرائيليّ في الحياة الفلسطينيّة،” بعد أوسلو 1993 بشكلٍ خاصّ، دفع إدوارد سعيد إلى نبذ “حلّ الدولتين” بسبب استحالة الفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين عمليًّا.


بل بات يعتقد أنّه حتى لو حُلّت مشكلةُ الطرق الالتفافيّة، وخُفِّض عددُ المستوطَنات، فلا إمكانَ لإقامة دولةٍ فلسطينيّة، لأنّ ما سيبقى من أرضٍ لتشييد هذه الدولة لن يتجاوز “النتاتيفَ الصغيرة.”

كما بات يرى أنّ “حلَّ الدولتين” يتجاهل فلسطينيّي الـ48 الذين سيبقوْن مواطنين من الدرجة الثانية في دولة إسرائيل. وهكذا أخذ إدوارد يتحوّل إلى حلّ “المواطَنة” على كامل فلسطين التاريخيّة، آملًا في انجدال النضال الفلسطينيّ مع نضال “الإسرائيليين الشجعان.”[4]

سعيد: “إنّ الكلَّ معرَّضٌ للخطأ، حتى ياسر عرفات.”


بعيْد إعلان الدولة الفلسطينيّة عام 1988، وبالترافق مع النقد العنيف والموثّق لسياسات “إسرائيل،” بدأ سعيد نقدَه القاسي لسياسات منظّمة التحرير وياسر عرفات، مشدّدًا على أنْ “لا معنى للتضامن مع القضيّة الفلسطينيّة قبل أن يسْبقَه النقدُ ويرافقَه.


إنّ الكلَّ معرَّضٌ للخطأ، حتى ياسر عرفات…”[5] وهو لم يخشَ أن يُرمى بـ”عدم الواقعيّة” لأنّ هذه التهمة تهدف إلى”ضمان بقاء السلطة [الفلسطينيّة] بعيدةً عن أيّ مساءلة.” كما يَسْخر ممّن يَعيب عليه نقدَه للسلطة “وهو موجودٌ في نيويورك لا غزّة،” وكأنّ الوجودَ في غزّة يمثّل في ذاته “ضمانًا لقول الحقيقة أو لإدراك الواقع” أو كأنّ “معظمَ الشعب الفلسطينيّ الذي تناسته عمليّةُ السلام الحاليّة لا يعيش… خارج فلسطين!”[6]


بدأ سعيد نقدَه لمنظّمة التحرير من المكان الذي يعرفُه أكثرَ من أيِّ واحدٍ فينا: الولايات المتحدة الأميركيّة. فقد شهِد بأمّ العين أنّها لا تحاوِرُ هناك إلّا الموالين لإسرائيل، فضلًا عن “سماسرةٍ ووسطاءَ بين النضال الفلسطينيّ والشعبِ الأميركيّ، بدلًا من الذهاب إلى جامعاتٍ ونِقاباتٍ وقطاعاتٍ عديدةٍ تدْعمُنا كليًّا”[7]  وهذا بالمناسبة ما تفعله منذ سنوات حركةُ المقاطعة العالميّة (BDS). واتَّهم سعيد المنظّمة بأنها لا تعْرف المجتمعَ الأميركيّ، ولا حملة إعلاميّةً مبرمجةً لها هناك.


وزاد نقدُ سعيد حدّةً حين عاين عدمَ كفاءة الفريق المفاوض في أوسلو. ولطالما ذكر أنّ الفلسطينيين وصلوا إلى أوسلو من دون أدنى تحضير، في حين حضر الإسرائيليون ضمن فريقٍ ضخمٍ من المحامين والمفاوضين، مسلّحين بالوثائق والخرائط والمسوّدات.


مع تأسيس السلطة الفلسطينيّة، لم يعد سعيد يوفّر أيَّا من جوانب هذه السلطة من لسانه اللاذع، مع التركيز على فسادها، وكثرة أجهزتها الأمنيّة، وسرقتها أموالَ الدول المانحة، وقمعِها الصحافيين المعارضين.[8] البعض ظنّ أنّ مواقفَ سعيد شخصيّة ومستجدّة لأنّ عرفات “استبعده” عقب اتفاقيّات أوسلو أو قبيْلها.

لكنّ هذا الظنّ يتبدّد حين نرى إدوارد ينبري مؤيّدًا رفْضَ عرفات التوقيعَ على كامب دايفيد (2000)، ومعلنًا استعدادَه لدعمه في صياغة رؤيةٍ جديدةٍ للنضال: “إذا كان عرفات يريد منّي الدعمَ في مُهمّةٍ كهذه، فإنّه سيلقاه!”[9]


وتوالت دعواتُ سعيد إلى سلسلةٍ من الإجراءات الفلسطينيّة والعربيّة والعالميّة من أجل وقف الانهيار الرسميّ الفلسطينيّ، بل الانهيار الفلسطينيّ برمّته. ومن بين هذه الدعوات:

ــــ دعوةُ فلسطينيّي الشتات إلى تنظيم أنفسهم، وإجراء إحصاء دقيق لأعدادهم، ولممتلكاتهم التي خسروها، وللقرى المدمَّرة، لأنّ سلطة عرفات “مشغولةٌ” بنفسها وبالضفّة وغزّة.[10] كما خصّ فلسطينيّي الولاياتِ المتحدة بالدعوة إلى “بناء صوتٍ فلسطينيٍّ فعّالٍ” بديلًا من عرفات، الذي لا يعرف التعاملَ مع الصحافة الأميركيّة.[11]

ــــ دعوةُ الفلسطينيين إلى إنشاء “إعلامٍ أخلاقيّ” يُظْهر للعالم ما ارتُكب ضدّنا؛ “ففي الأساس يجب أن نَكسبَ صراعَنا مع الصهيونيّة أولًا على المستوى الأخلاقيّ… آخذين في الاعتبار أنّنا سنكون دائمًا أضعفَ عسكريًّا واقتصاديًّا من إسرائيل ومؤيّديها.”[12]

ــــ دعوةُ الفلسطينيين والعرب إلى دراسة تاريخنا لفهم ما حدث بالضبط، بل دراسة المحرقة النازيّة كذلك على الرغم من استغلال إسرائيل لها من أجل تحقيق “أهداف سياسيّة.”

ــــ دعوتُه الأكاديميين والخبراءَ إلى الامتناع عن زيارة الكيان الصهيونيّ “إلّا إذا سعوْا إلى زيارة جامعاتٍ ومعاهدَ فلسطينيّةٍ وتقديم الدعم لها.”[13]

ــــ مطالبتُه الفلسطينيين بالاتصال بـ”الإسرائيليين الشجعان” خارج الأقنية الرسميّة، أمثال إيلان بابيه وإسرائيل شاحاك، وإلى القيام بنضالاتٍ مشتركةٍ من قبيل “إطلاق حملةٍ دوليّةٍ ضدّ المستوطنات.”[14] وهو هنا يسخِّف مقاطعةَ “كلّ شيءٍ إسرائيليّ” مهما كانت هويّتُه السياسيّة.[15]
ــــ مطالبتُه فصائلَ المقاومة بنبذ الكفاح المسلّح و”العمليّات الانتحاريّة” انطلاقًا من لاجدوى العنف ولاأخلاقيّتِه، كما يزعم.[16]


هنا سأسمح لنفسي، في حضرتكم، أن أمارسَ النقد الذي حضّنا عليه إدوارد سعيد. وهو ما فعلتُه دومًا في نقاشي الطويل معه، حتى قال لي يومًا: “لا فائدة. لقد فشلتُ معك. أنتَ الطالبُ الذي فشلتُ معه!”[17] ونقدي هنا محصور في القسم الخاصّ برؤيته إلى الحلّ في فلسطين:

أ ــ إدوارد سعيد راهن كثيرًا، أو أكثرَ ممّا تسمح به العقيدةُ الصهيونيّة والقياداتُ الإسرائيليّة (يمينًا و”يسارًا”)، على “الحلّ السلميّ.” هذا الرهان اللاواقعيّ، على ما أثبتتْ جولاتُ التفاوض العبثيّة، لم يكن خطيئةَ ياسر عرفات وحده، بل كان سعيد من أوائل المنظّرين له.

مَن قال إنّ اللجوء الى السلاح ليس خيارًا أخلاقيًّا في الصميم؟


ب ــ بالغ سعيد في الرهان على “الأخلاق” إلى حدّ اعتبارها “الميدانَ الوحيدَ لصراعنا” ضدّ إسرائيل. ولهذا، لم يكن النموذجُ التحريريُّ الذي دعا الفلسطينيين إلى الاقتداء به نموذجَ فيتنام مثلًا، بل نموذج جنوب أفريقيا، وذلك بـ”عزل الاحتلال وفضْحِ لاشرعيّته.

[18] ولكنْ مَن قال إنّ اللجوء الى السلاح ليس خيارًا أخلاقيًّا في الصميم، أو إنّه لا يمكن أن يترافق مع سياسات العزل الأخلاقيّة ويكمِّلَها؟ ألم يشرّعِ ميثاقُ الأمم المتحدة (المادّة 51) حقَّ المقاومة لتحرير الأرض؟ ثمّ، مَن يستطيع أن يجزمَ بأنّ كلّ نماذج الكفاح المسلّح فاشلةٌ واقعيًّا؟ وماذا نقول في هذه الحال عن نموذج لبنان، وقبله الجزائر، بل عن نماذج فرديّة وجماعيّة لافتة كثيرة، كنماذج جيفارا غزّة والمهندس عيّاش وكتائب القسّام وفرعِ العمليّات الخارجيّة ـــ وديع حدّاد… ومئات النماذج الأخرى؟


ج ــ وبالمثل، فإنّ إدوارد يبالغ في أثر تطوير إعلامنا في الغرب. وفي رأينا أنّ الإعلام، مهما بلغ من نجاح، فإنّه لن يحقِّق الكثيرَ إنْ لم يترافقْ مع القوة العسكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة.

د ــ يَحصر سعيد سببَ فشل المفاوض الفلسطينيّ في “لاكفاءته.” لكنّ الفشل، في رأينا المتواضع، يتخطّى معيارَ الكفاءة/اللاكفاءة. الفشل يعود، أساسًا، إلى توهُّم المفاوض الضعيف، عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، أنّ في مقدوره انتزاعَ النصر بالتفاوض وحده؛ والفشلُ يعود أيضًا إلى استخدام المفاوض الفلسطينيّ شبكةَ علاقاته العربيّة والدوليّة (الواسعةِ بلا أدنى ريب) من أجل نيل مكاسبَ شخصيّةٍ و”فتافيتَ بنتوستانيّةٍ” لا غير (كما قال سعيد نفسُه).

بمعنًى آخر، المشكلة ليست في أداء المفاوض الفلسطينيّ بقدْرِ ما هي في تبنّي مبدأ التفاوض حين يكون هذا المفاوضُ بالغَ الضعف والهشاشة، وحين تكون موازينُ القوى مختلّةً بالكامل لصالح العدوّ.

ه ــ يقوِّض سعيد جزءًا من مقاومتنا الشعبيّة، ويا لَلأسف، حين يسفِّه أعداءَ التطبيع عمومًا، ودونما تخصيص أو دراية بمواقفهم التفصيليّة. فقد أظْهر سعيد ناشطي مقاومة التطبيع وكأنّهم ضدّ فلسطينيّي 48،[19] واتّهمهم بأنّهم صمتوا إزاء بيع مصر الغازَ الطبيعيّ إلى إسرائيل وإزاء إدامة العلاقات الدبلوماسيّة معها أثناء حملاتها القمعيّة المتكرّرة ضدّ الفلسطينيين.[20] بل زعم أنّ معادي التطبيع لا يدينون “المعاملةَ المحلّيّة القاسية” التي يتعرّض لها اللاجئون الفلسطينيون في البلدان العربيّة![21]


وزاد الطينَ بلّةً أنّ إدوارد سعيد شجّع على نوع خطير من التطبيع الفنّيّ، خصوصًا عبر شراكته مع الصهيونيّ “الناعم” دانييل بيرينبويم في تأسيس “أوركسترا الديوان الغربيّ ــــ الشرقيّ.” والحقّ أنّ هدفَ “الديوان” المعلن يتجاوز جمعَ الموسيقيين الشباب العرب والإسرائيليين في ورشات تدريبٍ أو حفلات، إلى حثّهم على تخطّي “الخلافات” السياسيّة والقوميّة ــ ــ وكأنّ على العرب أن يتناسوْا، ولو لساعاتٍ أو أيّام، أنّهم يعزفون مع محتلّين “يبيِّضون” بعزفِهم وفنِّهم صفحةَ الاحتلال والإجرام.[22]


  • القسم الثالث: ماذا يبقى من إدوارد سعيد؟

على الرغم من كلّ الانتقادات التي يمكن توجيهُها إلى مسيرة إدوارد سعيد الفكريّة والسياسيّة، فثمّة أمورٌ جوهريّةٌ في إرثه ينبغي أن نستبقيَها ونرسّخَها. من بينها:

ـــ أوّلًا، تشريحُه العلميُّ للاستشراق، الذي ما يزال قائمًا بمعناه الذميم إلى اليوم، أيْ: شيطنةُ الشرق بهدف السيطرة عليه (وخدمة إسرائيل). ويزداد الدرسُ السعيديّ إلحاحًا اليوم مع استبطان المزيد من المثقفين العرب لفحوى الاستشراق، إلى حدّ تأليههم”الغربَ،” متغاضين عن وجوه الإرهاب والصهيونيّة والأصوليّة المسيحيّة والنهبِ الاقتصاديّ فيه.

ـــ ثانيًا، إدانتُه للردّ الأصوليّ على الاستشراق، بمعنى التقوقع في دعوات الخصوصيّة والسلفيّة.

لعلّ صورتَه هذه صورة ترمزَ إلى الأكاديميّ المشتبك


ـــ ثالثًا، انزياحُه عن عالَم الأكاديميّة المختصّ، الى عالَم الاشتباك الثقافيّ الدائم. فمن أجل الوصول إلى أوسع شرائح الناس، كتب سعيد في مجلّاتٍ وجرائدَ غيرِ مختصّة (مثل الحياة، وهاربرز ماغازين، والأهرام ويكلي،…). وخاض في كلّ مجالٍ يمكنُكم تصوّرُه من ساحات الاشتباك، دفاعًا عن العدالة في فلسطين ولبنان والعراق بشكلٍ خاصّ.

ولعلّ صورتَه الشهيرة وهو يرمي حجرًا من الحدود اللبنانيّة باتجاه فلسطين المحتلّة، بعد طرد الاحتلال الإسرائيليّ من معظم الأراضي اللبنانيّة سنة 2000، أن ترمزَ إلى صورة الأكاديميّ المشتبك التي أرادها سعيد لنفسه، غيرَ آبهٍ بلقب “بروفسور الإرهاب” الذي أسبغه عليه المتصهينون بعد التقاط تلك الصورة، ولا مكترثٍ باتهامه بـ”معاداة الساميّة.”

وفي هذا الإطار نفسه نستذكر بُغضَ إدوارد لـ”المثقف الخبير” لأنّ هذا، في العادة، يضع معرفتَه في خدمة “السلطة المركزيّة في المجتمع ـــ وهذه هي خيانةُ المثقفين التي تحدّث عنها جوليان بندا في العشرينيّات.” وحقيقةُ الأمر أنّ إدوارد لا يحصر بغضَه في “الخبير” في شؤون السياسة وحدها، بل يمدُّه إلى “الخبيرَ” في شؤون النقد الأدبيّ أيضًا؛ أيْ ذاك الذي يَغرق في النصوص من دون أن يربطَها بسياقها التاريخيّ والاجتماعيّ.


ــــ رابعًا، شجاعتُه، أو قولُه الحقيقةَ في وجه القوة. وهنا نتذكّر بشكل خاصّ هذا المقطعَ الباهر: “إنّ دورَ المثقف هو قولُ الحقيقة بأكبر قدْر ممكن من الوضوح والمباشرة والأمانة. لا يُفترض بأيّ مثقّفٍ أن يأبَهَ إنْ كان ما سيُقال يُحْرِج الناسَ في السلطة أو يرضيهم أو لا يرضيهم.

وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ قولَ الحقيقة في وجه السلطة يعني أنّ جمهورَ المثقف ليس الحكومة، ولا مصلحةً مهنيّةً أو شركاتيّة، بل [جمهورُه] هو الحقيقةُ غيرَ مزيّنةٍ” [23] (truth unadorned)

ـــ خامسًا، روحُه النقديّةُ المشعّة في مجالات كثيرة. سعيد لا يكتفي بنقد الظلم في وجوهه كافّةً، وأبرزُها الاستعمارُ والاحتلالُ والعنصريّة، بل ينتقد المقاومة كذلك، وفي وجوهها جميعها، ومن بينها وجهُ القوميّة “المتبجِّحة غيرِ النقديّة.”

ولقد رأينا في السطور السابقة أنّه لا يدافع عن القضيّة الفلسطينيّة فحسب، بل يفضح تهاونَ قياداتها أيضًا؛ ولا يدين الاستشراقَ وحده، بل يدين الاستغرابَ كذلك. ونضيف الآن أنّه لا يكتفي بمدح ماركس كيفما كان، على الرغم من ديْنه الكبيرِ له، بل ينتقد كذلك استشراقيّتَه في خصوص الهند و”نمطِ الاستبدادِ الشرقيّ”؛ ولا يؤلّه ميشيل فوكو، مع إعجابه الكبير به، وإنّما يَعِيب عليه أيضًا تجاهُلَه لإمكانات المقاومة في التصدّي للسلطة.


لا شيءَ خارج النقد لدى سعيد. بيْد أنّ النقد الذي يدعونا إلى رحابه هو ما أسماه “النقدَ الدنيويّ” لا الدينيّ. وهو لا يقصد هنا نقدَ الدين لصالح الدنيا، وإنّما وجوبَ التعامل مع النصوص في إطارٍ نسبيٍّ لا مطلق، عقليٍّ لا كهنوتيّ، شكّاكٍ لا يقينيّ، اجتماعيٍّ/تاريخيّ لا حَرْفيّ أو حِرَفيّ.

سعيد لا يمتصّ، إلّا لكي يمزجَ، ثم يصفّي فيما بعد؛ وهو لا يَجْمع، إلّا لكي ينتقيَ ويغربلَ لاحقًا. ولعلّ أفضلَ ما يعبِّر عن روح سعيد النقديّة هو كلماتُه الآتية: “إنّني لآخذُ النقدَ على محملِ الجِدّ الشديد، إلى درجة الإيمان بضرورة وجودِه حتى في خضمّ معركةٍ نكونُ فيها طرفًا واضحًا ضدَّ طرفٍ آخر!”

ــــ وتبقى من سعيد أخيرًا، لا آخرًا، رسالةٌ وجّهها غيرَ مرّة إلى الجامعة؛ ومن الضرورة ذكرُها لأنّنا اليوم في حَرم جامعيّ مهيب. فهو يؤمن بضرورة الحفاظ على مسافة بين الجامعة من جهة، وبين “قيم” المجتمع الدينيّة والسياسيّة وغيرها من جهةٍ أخرى.

الجامعة، في رأي سعيد، ينبغي أن تكون مكانًا تمارَس فيه الحريّةُ الأكاديميّةُ إلى أقصى مدًى، ولو خضع المجتمعُ بأسْره لصنوفٍ شتّى من الرقابة. وهنا نتذكّر أنّ إدوارد دافع عن تدريس رواية محمد شكري، الخبز الحافي، في الجامعة الأميركيّة في القاهرة عند تعرّضها لحملة إقصاءٍ وترهيب بتهمة “الإباحيّة” و”الشذوذ الجنسيّ.” وقتَها، أصرّ سعيد على تأييد الحريّة الأكاديميّة المطلقة، وزاد أنّه يعتبر الأدبَ بشكلٍ خاصّ حقلًا ذا استقلاليّةٍ نسبيّة، ومن ثم ينبغي عدمُ معاملته بحَرْفيّة.[24]


  • خاتمة

أيّها الأحبّة،

إنّ تكريم إدوارد سعيد لا يكون بتنزيهه عن الأخطاء، بل بالاقتداء بما ذكرناه للتوّ: من شجاعة، وروح شكّاكةٍ، ورؤية إنسانيّةٍ مشبعة بحسّ العدالة. لقد علّمنا إدوارد أن يكون ولاؤنا للحريّة، لا للسلطة أيًّا كانت، وللإنسان، لا للعقيدة الجامدة مهما علت.

وعلّمنا ألّا نكونَ أتباعًا لأحد، بمن في ذلك هو بالذات، بل أن نكون أصحابَ فكر نقديٍّ مستقلّ متميّز، وأن نكشف مَواطنَ القوة والضعف والتناقض والالتباس في كلّ فكر واتجاه وحزب وكتاب وكاتب ــ ــ وهذا يشمل إرثَ إدوارد سعيد بالتأكيد، مع وجوب التشديد على وضع مواقفه السياسيّة في سياقها التاريخيّ، وأخْذِ الجمهور المخاطَب (الأميركيّ والغربيّ أساسًا) في الاعتبار.

لكنْ هل يعني ذلك كلُّه أن يتعالى المثقفُ النقديُّ الإنسانيُّ الكونيّ عن فلسطين، لصالح التميّز والاستقلال الفكريّ؟

كلّا، على الإطلاق! ففلسطين، في عُرف سعيد، ليست مجرّدَ ساحةٍ لنضال شعبٍ محدّدٍ على أرضٍ محدّدة من أجل الاستقلال والحريّة، ولكنّها أيضًا عنوانٌ لكلّ نضالٍ من أجل الكرامة والعدل، وعنوانٌ لكلّ فكرٍ نقديٍّ إنسانيّ لا يُنتج ظلمًا بديلًا أثناء سعيه إلى الانعتاق من الأسْر.

وهذا ما قصده سعيد، على الأرجح، بـ”فكرة فلسطين” (the idea of Palestine). ولعلّ قلّةً في العالم كتبتْ عن فلسطين، تاريخًا وثقافةً وسياسةً ونضالًا، كما فعل سعيد. نعم، قلّةٌ في العالم حوّلتْ فلسطينَ إلى فكرةٍ يحلو العيشُ من أجلها، ويَعْذُبُ الموتُ في سبيلها.

قلّةٌ في العالم أسبغتْ على فلسطين قوّةً نابعةً من الثقافة نفسها. يقول البروفسور سري مقدسي، وهو (بالمناسبة) ابنُ أخت إدوارد:

“إنّ الثقافة ليست محضَ تزيين لِما هو ماثلٌ أصلًا، وإنّما هي التي تُسبغ على السلطة فكرَها ولغتَها. وبالنسبة إلى كلّ مَن يسعى إلى تحدّي السلطة بدلًا من خدمتها، فإنّ ميدانَ الثقافة هو ما يجب أن يسعى إليه… ولعلّ البرهانَ الأفضلَ على ذلك هو شخصيّة إدوارد.

فلو لم يكن عالَمُ الثقافة والأفكار مهمًّا إلى هذه الدرجة، لَما استطاع رجلٌ واحدٌ ـ رجلُ أدبٍ وموسيقى وفلسفةٍ، لا جنديٌّ أو حاكمٌ أو حوتٌ من حيتان المال ـ أن يصنعَ كلَّ تلك الأمور الكثيرة كي يضعَ قضيّة فلسطين على خارطة العالم بأسره!”[25]

إنّ أهميّة المثال السعيديّ تتجلّى اليوم في قدرة الكلمة على التجذّر في الوعي عقودًا من الزمن ــ ــ وهذا ما تُظهره ثقافةُ مقاطعة “إسرائيل.

” فلعلّي لا أبالغ إذا قلتُ إنّ عددًا مهمًّا من ناشطي المقاطعة اليوم، في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا والوطن العربيّ، تأثّروا بسعيد، أو بنموذجه القائم على قوّة التحدّي الثقافيّ للسرديّة الصهيونيّة والاستشراقيّة، بصرف النظر عن خلافهم الكبير مع بعض أفكاره ــ ــ خصوصًا ما يتعلّق بـ”السلام،” وتسخيف “مقاومة التطبيع،” وإدانة الكفاح المسلّح والعمليّات “الانتحاريّة،” والرهان على الحوار مع “الإسرائيليين الشجعان،” و”المواطَنة”…

على سبيل المثال لا الحصر. ولو تحدّثتُ عن نفسي حصرًا، لقلتُ إنّني استفدتُ (وأستفيد) كثيرًا، ولو بشكل عميق، أيْ غير مباشر، من إدوارد سعيد، في عملي في المقاطعة، وتحديًدا في البحث عن الأدلّةِ والأرقام والوثائق، وفي الصبر على الخصوم، وفي الإيمان بدور الحُجّة الثقافيّة في مقارعة الظلم مهما عتا.

ويخيّل إليّ أنّ قرار جامعة الأقصى تدشينَ محاضرة إدوارد سعيد السنويّة بعد ستةَ عشرَ عامًا على غيابه إنّما يهدف إلى تكريم الحسّ النقديّ، وإلى الإعلاء من قيم العدالة والحريّة والاستقلال والكرامة ــ ــ هنا، في قلب العدالة والحريّة والاستقلال والكرامة، في غزّة الباسلة.

حررت هذه الورقة في بيروت


* كلمة رئيس تحرير الآداب في تدشين محاضرة إدوارد سعيد السنويّة، قسم اللغة الإنكليزيّة، جامعة الأقصى، غزّة، 19/2/2019.

[1] الإحالات على جريدة الحياة هنا موجودة أيضًا في كتاب إدوارد سعيد، نهاية عمليّة السلام: أوسلو وما بعدها (بيروت: دار الآداب، 2002).

[2] الحياة، 12/2/1998؛ الحياة، 9/6/1998؛ إدوارد سعيد، السلطة والسياسة والثقافة، ترجمة نائلة قلقيلي حجازي (بيروت: دار الآداب، 2008)، ص 488 ــــ 489.

[3] حوار مع تيموثي آبلاي، ذا غلوب آند مايل، 1986، وذلك ضمن الكتاب السابق، ص 313. وراجع الحوار مع معين ربّاني، جورنال أوف بالستاين ستاديز، واشنطن، 1995، وذلك ضمن الكتاب المذكور، ص 441.

[4] المصدر السابق، ص 470. وراجع: الحياة، 1/10/1996؛ والحياة 30/6/1998.
[5] الحياة، 8/11/1995.

[6] المصدر السابق؛ وراجع: الحياة، 1/10/1995.

[7] حوار مع هشام ملحم، الفجر، كراتشي، 1990، ضمن كتاب: السلطة والسياسة والثقافة، مصدر مذكور.

[8] الحياة، 19/11/1996.

[9] الحياة، 18/8/2000.

[10] الحياة،11/2/2000.

[11] حوار مع منير ناصر، أراب أميريكان نيوز، 1990، ضمن كتاب: السلطة والسياسة والثقافة، مصدر مذكور.

[12] الحياة، 25/9/1997.

[13] الحياة، 25/9/1997.

[14] الحياة، 9/6/1998.

[15] الحياة، 20/6/1998.

[16] الحياة، 21/10/1997.

[17] https://www.facebook.com/samah.idriss.1/posts/1903593489727513

[18] الحياة، 25/9/1997.

[19] الحياة، 30/6/1998.

[20] الحياة، 23/5/2001.

[21] المصدر السابق.

[22] سماح إدريس، “احتفاء قطَريّ (ملغًى) بصهيونيّ ناعم،” الأخبار، 28/4/2012

https://www.al-akhbar.com/Literature_Arts/68963

[23] Edward Said, Al-Ahram Weekly, June 25-July 1, 1998

[24] سامية محرز، “ما لم أقله لإدوارد،” الآداب، 11/12، 2003، ص 31.

[25] سري مقدسي، “من أجل حكاية فلسطينيّة عربيّة جديدة،” الآداب، 11/12، 2003، ص 34. 


سماح إدريس:

رئيس تحرير مجلة الآداب الورقيّة (1992 ـ 2012) والإلكترونيّة (2015 ـ…). له كتابان في النقد الأدبيّ، وأربعُ رواياتٍ للناشئة، وإحدى عشرة قصّة مصوّرة للأطفال، وعشراتُ الدراسات والمقالات والكتب المترجمة. عضوٌ مؤسِّسٌ في “حملة مقاطعة داعمي “إسرائيل” في لبنان” (2002 ـ …). ينتهي خلال أعوام من إنجاز معجم عربيّ  ضخم صادر عن دار الآداب.


المصدر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى