نقد

انتخاباتُهم وشعوبُنا

 

انشغل العالم أجمع منذ بداية شهر تشرين الثاني/نوفمبر بتتبع مجريات الانتخابات الأمريكية، وكأنه أمام مقابلة نهائية في كأس العالم، يتابع أطوارها بين الحين والحين، والكل متحمس لمعرفة لمن تؤول الكأس بين يديه؟ كانت الغطرسة والكبرياء والثقة في النفس الزائدة  تعبيرا عن جنون العظمة الذي كان يتملك  ترامب.


وكانت تصريحاته قبيل الانتخابات ومنذ اليوم الأول منها إلى نهايتها تعكس أن الأوهام التي ظل يحملها قبض ريح، وأن كل رهاناته على تطويع العرب ودفعهم للتنازل لفائدة إسرائيل ستغطي عن كل بهلوانياته، وانتهازيته وذرائعيته المقيتة والجشعة التي لا مجال فيها للحس الإنساني والأخلاقي.

كان حضور ترامب المزعج يقدم أسوأ صورة عن الانتخابات الأمريكية. وكما أثار فوزه في الانتخابات السابقة موجة عارمة من الرفض داخليا وخارجيا تكررت الصورة نفسها إثر هزيمته في الانتخابات التي لم يرد التسليم بها، سواء من لدن المعارضين أو المؤيدين للسياسات الأمريكية.

باستثناء صورة ترامب السلبية في الانتخابات، قدمت التجربة الانتخابية الأمريكية واقعا متميزا لما وصل إليه المجتمع الأمريكي من تطور يعكس حصيلة تاريخ من التطور أهله ليحتل موقعا هاما على الصعيد العالمي. قد نختلف في تقييم الانتخابات الأخيرة، ونتائجها وتحديد مواقفنا المتباينة منها. أستخلص من تلك الانتخابات ثلاثة أشياء رئيسية:

ـ الإقبال المنقطع النظير على المشاركة في الانتخابات من قبل الأمريكيين. وهذه المشاركة هي التي تقرر في النهاية من سيتكفل بتدبير القضايا الأمريكية داخليا وخارجيا.

ـ وجود دولة لها مقوماتها الخاصة ومرجعيتها الدائمة التي بموجبها يتم الاحتكام إلى ما يجري تحت سمائها، بغض النظر عن رئيس الجمهورية، أو إدارته أو حكومته. إن وجود نظام متسق ومنسجم له مصداقية تجعله يتعالى عن المنافسة الحزبية، ويعطي الصلاحيات بموجب قوانين متعارف عليها ومسلم بجدواها للحفاظ على أصالة الدولة وديمومة استمرارها دون أي اعتبار لموقع رئيس الجمهورية أو تأثيره في المسار العام.

ـ إعلام قوي ومتعدد ومتنوع يقدم كل وجهات النظر سواء كانت زائفة أو حقيقية، واقعية أو خيالية، صائبة أو خاطئة. وتُمكِّنه هذه المواصفات من لعب دور في خلق رأي عام موجه لغايات ومقاصد معينة حسب ما تمليه ضرورات التطور في سياقات متعددة بهدف جعل المصلحة الأمريكية فوق الجميع.

نتبين من هذه الخلاصات أن الشعب له حضور وازن في اختيار من يمثله. وأن صناديق الاقتراع هي التي تحدد مستقبل البلاد، وأن الدولة قائمة من خلال قوانين تتعالى على الجميع، والكل حريص على الانضباط لها. وأخيرا فإن الإعلام تجسيد لمختلف التصورات وإن كان له انحياز ما لجهة معينة دون غيرها من الجهات.

لكل هذه الاعتبارات نجد أن المجتمع الأمريكي يعرف دينامية كبيرة على مستوى التحول الدائم، وأن الاختيارات الانتخابية تتحدد وفق تغير المصالح والطموحات على الصعيدين الداخلي والخارجي. فحين تعرف الدولة تراجعا عن موقعها بسبب سياسة “ناعمة” (تجربة أوباما) تحتل مكانها تجربة أخرى ترفع سقف التطلعات إلى مستوى أعلى (ترامب).

ومتى هيمنت المغالاة في ذلك، كان الرجوع إلى تجربة نقيض، ولكن بمواصفات جديدة تراعي حساسيات التحولات العالمية من أجل حضور وازن، وهكذا دواليك.

حين نقارن صورة الانتخابات الأمريكية، وما تعرفه أغلب الديمقراطيات في العالم، بما يجري في وطننا العربي نجد الصورة النقيض تماما. فالشعب هو المغيب الرئيسي في اللعب الانتخابية أو الاستفتائية على بعض الأمور القليلة التي تهم الدولة أكثر مما تهمه. إن الدولة هي الحاضر الأكبر، وهي “تمثل” نفسها، وليست لتمثيل الشعب. لذلك فهي لا تتغير أبدا.

فالشعب لا علاقة له بما يجري. إنه  يعتبر جاهلا ودون مستوى التفكير في شؤون الدولة داخليا أو خارجيا، وحين يستفتى فمن أجل أن يقول: نعم، ويبارك الخطوات المتخذة في تعديل دستور لتنصيب ابن الرئيس، أو التظاهر بأن هناك تحولات تخدم الوطن. أما الإعلام السائد فهو إعلام السلطة. فكيف يمكن في وضع كهذا أن يعرف المجتمع العربي دينامية في تحوله، أو تغييرا في صيرورته؟ فالحاكم يظل حاكما إلى أن يموت، أو يعزل.

وقبل أن يموت يقترح أحد أبنائه ليكون خليفة من بعده في الأنظمة الجمهورية. وحين تطرأ انتخابات لضرورة ما تكون النتيجة محسومة قبل الانتخابات. وفي السبعينيات والثمانينيات كانت لا تنزل النتائج عن تسع وتسعين في المئة. وأي حاكم جديد يصبح الإعلام يسبح بحمده، والصور الطويلة والعريضة والملونة للرئيس تملأ الساحات والواجهات.

غياب الشعب العربي وتغييبه سيان في واقعنا العربي. فالدولة تريده أن يكون طوع بنانها في كل الأحوال. والأحزاب إذا ما توفرت فليس لها من هدف سوى إيصالها إلى السلطة، لتمارس عليه ما كان يمارس سابقا، وهي توظف وسائل لا علاقة لها بخدمة المواطنين الذين تستغلهم للتصويت عليها. لماذا لا يشارك المواطنون بكثافة في الانتخابات العربية؟ وما جدوى مقاطعة انتخابات؟ ومن من المواطنين يشارك في انتخاباتنا؟ ولماذا تسعى الدولة من خلال إعلامها إلى دفع الناس إلى المشاركة في الانتخابات؟ طرح عندنا في المغرب في إحدى المناسبات نقاش حول ضرورة إجبار الناس على الانخراط في الانتخابات؟

عندما خرج الشعب العربي في الموجة الأولى والثانية من المطالبة بأن يكون له حضور في الواقع السياسي العربي تعرضت مطالبه للتشويه والتمييع والعسف. وها هي نتائج تلك المطالبة تقود إلى مزيد من تشتت وانقسام الوضع العربي، وتجرعه المزيد من الخيبات والتراجع عما كان يحلم به منذ الحصول على الاستقلال.

إنه وضع يعرف الثبات، والدوران في الحلقة نفسها: التبعية، التخلف، الانقسام، الصراع الداخلي، عدم الحضور الإيجابي على المستوى الإقليمي والعالمي. غياب الشعب وتغييبه في كل التاريخ المعاصر لم ينجم عنه أي تحول على مستوى الدولة العربية المستفردة بالسلطة. فلا هي حققت لنفسها ما تسعى إلى تحقيقه، ولا هي طورت مجتمعاتها، ولا هي ساهمت في أن يكون له موقع على المستوى العالمي.

لماذا نجحت إسرائيل في فرض أسطورتها، وتحقق باستمرار برنامجها الذي دشن منذ بداية التفكير في تشكلها في الوقت الذي فشل فيه الفلسطينيون في تحقيق مطلب الاستقلال؟ بغض الطرف عن مختلف العوامل التي ساهمت في ذلك، أرى أن إسرائيل تتخذ من أمريكا نموذجا لها.

فهي ترتهن في سياساتها المختلفة إلى تحقيق مطلب من أوهمتهم بأن القضية “اليهودية” قضيتهم وأنها تعمل من أجل تحقيقها. صار اليهود الذي قدموا من مختلف أنحاء العالم “مواطنين” يسهمون في انتخاب من يجعل حلمهم واقعا، على الطريقة الأمريكية في تداول السلطة. أما الفلسطينيون فكانوا يفكرون في قضيتهم على أنها قضية عربية، وليست وطنية.

وفي الوقت نفسه كانوا يفكرون بالطريقة العربية في حل القضايا التي تتصل بالواقع الفلسطيني. وكانت صورة الحاكم العربي هي النموذج المقتدى لدى مختلف التيارات والتوجهات، فتوزعوا بين الأنظمة العربية، فلم تُعرَف سوى الصراعات والانقسامات، وها الواقع الفلسطيني لا يختلف عن واقع أي نظام عربي.

في كل هذه الحالات، وفي كل هذا التاريخ، لم يكن الإنصات لصوت الشعب العربي ولا لمشاركته. كانت الأنظمة، والنخب السياسية والثقافية، والمعارضات ترى نفسها تنوب عن الشعب، وأنها ممثلته الشرعية الوحيدة. وكان أن جنت على نفسها براقش؟

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى