نقد
“العدد صفر” كما تحدث عنه أمبرتو إيكو في روايته السابعة
تاريخ إيطاليا المعاصر من خلال حكاية مجلة لن تصدر أبداً
في روايته السابعة والأخيرة للأسف، وللأسف لأن الكاتب رحل بعد حين من صدورها بشكل مباغت، وهو الذي كان في نيته أن يلحقها برواية ثامنة يؤكد فيها أكثر وأكثر جانبه الإبداعي، وهو الذي كان قد أكد نظيره العلمي والنقدي المدهش في عدد كبير من الكتب.
في روايته الأخيرة إذاً عاد أمبرتو إيكو إلى الواقع والزمن الحديث نسبياً، وإلى الشخصيات التي يشعر القارئ أنه يعرفها، وربما قابلها ذات يوم أو حتى شاهدها على شاشة التلفاز.
والحقيقة أن هذا الشعور هو الذي يخامر القارئ فيما يطالع تلك التي كانت على أي حال أقصر روايات إيكو، ولا يزيد عدد صفحاتها على ربع ما تشغله رواية عادية أخرى من رواياته، بدءاً من “اسم الوردة” وصولاً إلى “مقبرة براغ” مروراً بـ”بندول فوكو”، وغيرها من تلك الروائع التي تجوّل إيكو من خلالها بين الأزمان والأمكنة والأفكار والعلاقات، مستعيناً بثقافته المذهلة وتحليلاته الواسعة ناهيك عن مخيلته الخصبة.
لكن المؤامرة تواصل حضورها
هنا في السابعة المعنونة “العدد صفر” بدّل الكاتب مواضيعه ونمط شخصياته ورَسْم العلاقات فيما بينها، لكنه في الوقت نفسه احتفظ ببعدين يشكلان النخاع الشوكي للرواية والمعهودين في رواياته السابقة: من ناحية، اهتمامه الدائم بنظرية المؤامرة؛ ومن أخرى حس السخرية التي تطبع أسلوبه والمواقف التي يصفها.
لكنه أضاف إلى ذلك نوعاً من التمعن الدقيق واللئيم في سياسات بلده إيطاليا والعلاقة بين الصحافة وتلك السياسات. وهنا كيلا نبدو كأننا نستبق الأمور لا بد من التوقف عند ما تحكيه الرواية أولاً وعند الكيفية التي تحكيه بها.
وقبل ذلك لا بد أيضاً من تحديد الزمن الذي تجري فيه الأحداث، لأنه يشكل نوعاً من تحديد سياسي ربما لم يخضه إيكو مباشرة، لكن الإشارة إليه تكفي وحدها في اعتقادنا للإشارة إلى ذلك الظرف السياسي الذي يحيط بالرواية.
الأحداث تعود إلى عام 1992 وتحديداً لمدينة ميلانو التي تبدو دائماً أكثر من روما ارتباطاً بالسياسات الإيطالية، لا سيما أن تلك المرحلة كانت تلك التي كانت لا تزال مرحلة برلوسكوني، رجل الأعمال الذي بسيطرته على السلطة وامتلاكه العديد من الصحف ومحطات التلفزيون تمكن من إزاحة الأحزاب الفاسدة التي كانت، من اليمين ولكن من اليسار أيضاً، تمسك بمقدرات البلد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ممعنة فيه فشلاً وفساداً، من دون أن يكون حكم برلوسكوني أقل فساداً وفشلاً منها.
أو هذا ما يمكن استشفافه من رواية “العدد صفر” من دون أن يكون ثمة أي ذكر فيها لبرلوسكوني نفسه. عند الحدود القصوى يمكن للقارئ أن يتصور في الأقل وجود شخصية معادلة لبرلوسكوني تحت قناع ما، لكن هذا ليس أهم ما في الرواية.
موسوليني لم يمت!
أهم ما في الرواية أمران، أولهما حبكتها التي تدور حول الصحافي كولونا، الذي يروي لنا كيف جرى الاتصال به كي يكون مديراً لتحرير مجلة ستصدر عما قريب، لكننا سندرك بعد حين أنها لن تصدر أبداً وسنعرف كيف ولماذا بعد سطور، لحساب الكومندانتي فيمركاتي؛ صاحب المال والأعمال الذي قرر خوض السياسة من خلال المجلة التي يريدها أن تكون “مختلفة عن كل ما في إيطاليا من صحافة”، وأن تكون “موجهة إلى المستقبل فيما نعرف أن الصحافة الإيطالية الكبرى تتوجه جميعها إما إلى الماضي وإما إلى الحاضر”؛
والأمر الأخير الحديث عن مؤامرة كانت قد حيكت بعيد الحرب العالمية الثانية، قوامها تهريب موسوليني إلى حيث اختفى في الأرجنتين، أو حتى إلى حيث يقيم الآن في أقبية الفاتيكان في انتظار انقلاب فاشي يعيده إلى السلطة. وهذه الحكاية التي تنطلق من فكرة أن من أعدم يوم تخلصت إيطاليا من موسوليني كان شبيهاً به أحلّ مكانه عبر تلك المؤامرة.
ومهما يكن في الأمر فإن هذا “السكوب” إنما يروي لكولونا وللقراء على لسان صحافي يفترض أن يشارك في تحرير المجلة، التي يشتغل محرروها الآن على إصدار ليس العدد “صفر” واحد منها فقط، بل على عدة أعداد طوال فترة غير محددة من الزمن. ولتوضيح ما يبدو غامضاً هنا لا بد من تفسير ما المعني بـ”العدد صفر”.
المجلة التي لن تصدر أبداً
فهذا العدد الذي يحضّر عادة من قبل الفريق الذي سيصدر المجلة هو عدد يصدر مرات عديدة قبل صدورها الفعلي على سبيل التجربة، وبالشكل والمضمون اللذين يفترض أن تحملهما المطبوعة التي ستصدر بالفعل.
والحقيقة أن ما نحن بصدده هنا، ونعرفه منذ الاجتماع الأول الذي يعقده مجلس التحرير بدعوة من مسؤول المطبوعة سينيور سيمايي الذي يُعرف أعضاء الطاقم الستة، وبينهم امرأة وحيدة، بعضهم على بعض، ومن ثم يصارحهم بأن ليس المطلوب إصدار المطبوعة بالفعل، بل الاكتفاء بإصدار عدة أعداد صفر متتالية وتوزيعها على نطاق ضيق في حلقات السياسيين والصحافيين وكبار الصناعيين.
ولكن لماذا هذا الجهد؟ الجواب واضح وصريح عند السيد سيمايي: يريد الكومندانتي فيمركاتي الثري المعروف أن يوجد لنفسه مكانة سياسية وأن يقبله السياسيون والصناعيون وأضرابهم كواحد منهم، لمجرد أن يشعروا بالرعب من أن المجلة وعنوانه “دوماني” (غداً) ستبدو كالسيف المصلت على رؤوسهم؛ إذ تعد “القراء” في كل مقال وصفحة تنشرها حتى في الأعداد التي لن تصل أبداً إليهم، بأن تخبر هؤلاء بما “لم يخبرهم به أحد من قبل”.
ويوضح سيمايي أن الفزع وحده سيجعل المعنيين من أفراد الطبقة السياسية موالية كانت أم معارضة، يسارية أم يمينية، يتهافتون إلى استقبال الكومندانتي في صفوفهم وبالتالي لن يكون في حاجة إلى مواصلة إصدار المجلة لأنه سيكون قد حقق غايته بأرخص كلفة.
وليكن ما يكون!
هذا كله يرويه لنا كولونا منذ البداية، موضحاً كيف أن وكيل رب العمل تعمد أن يتعاقد مع صحافيين من درجة دنيا ممن لا يتوانون عن بيع ضميرهم، غير آبهين لا بالسياسات التي تكمن خلف المشروع ولا بما إذا كانت المطبوعة ستصدر أم لا. هم سيكتفون بأن يقبضوا رواتبهم خلال الفترة التي سيحتاجها “إقناع” الكومندانتي للسياسيين بإفراد مكان له بين صفوفهم وليكن بعد ذلك ما يكون.
أما كولونا الراوي الذي لا يبدو مبالياً أكثر من الباقين، فإننا سنعرف كل الحكاية من خلال ما يحكيه لنا بنفسه عن علاقاته المتشعبة بالفريق المحيط به، هو الذي سيقيم على أي حال علاقة عاطفية بالصحافية المرأة الوحيدة في الفريق والمدعوة مايا، معتبراً العلاقة نوعاً من حافز له مقابل الرواتب والوجود في عالم الصحافة كحوافز للآخرين،
من خلال ذلك سنعايش نوعاً ما التاريخ السياسي وربما الصحافي أيضاً لإيطاليا طوال ما يقرب من نصف قرن، وبالتحديد منذ حكاية خطف موسوليني التي يرويها له واحد من زملائه في فريق العمل، لا يخفي منذ البداية أنه يؤمن بنظرية المؤامرة، لكنه في الوقت نفسه إنما يرضى بذلك العمل “الوضيع” لمجرد أن يجمع ثمن سيارة يريد شراءها.
وللمناسبة لا بد من الإشارة إلى أن جلسة التعارف الخاصة بين كولونا وهذا الصحافي المدعو براغادوتشيو في إحدى الحانات، حيث يتوزع حديثهما بين “مؤامرة موسوليني” وحديث السيارة التي يريد هذا الصديق الجديد شراءها لكنه في حيرة من أمره بين الماركات والسرعات وسعة المحركات والأسعار، يمكن قراءتها بمتعة توازي متعة الرواية كلها، إذ تضعنا بحس ساخر في قلب ذلك المجتمع الاستهلاكي المريع الذي بتنا نعيش فيه وليس في إيطاليا وحدها بالطبع.
وصية سياسية عابقة باللؤم
غير أن الأدهى من هذا هو رواية كولونا للتاريخ الإيطالي بالتوازي مع حكاية إصدار العدد صفر في حد ذاته. فهنا تتتابع أمامنا أسماء نعرفها جيداً وتشكل معاً محاور ذلك التاريخ ولحظات أحداثه الكبرى متنقلة من الدو مورو إلى فرانشسكو كوسيغا وجوليو أندريوتي وحتى جان بول الأول وخليفته جان بول الثاني، إضافة إلى جمعيات وأحزاب ومنظمات إرهابية، لا سيما الـ”سي آي أي”.
وكل هذا في أقل من 200 صفحة تُقرأ بشغف ومتعة كما لم يُقرأ التاريخ الراهن لأي بلد على الإطلاق، وبشكل يبدو معه كأن إيكو أراد من “العدد صفر” على قصرها أن تكون وصيته السياسية الأخيرة!
إبراهيم العريس باحث وكاتب (المصدر)