نقد

الإنسان في وجهِ النّقد

 

يأتي الحديث عن التقييم والتقويم في حياة الفكر انطلاقا من مفاهيم عدة منها الجمال والأخلاق والمنفعة، وغيره من جوانب عدة يعيش الفرد في ظلها، وتسعى هذه العملية “التقويم” للوقوف على إشكالات الأعمال الإنسانية والممارسات الفردية في تعاملاتها مع الآخر ومع الموضوعات الكبرى التي يروم العقل البشري الإحاطة بها في شتى جوانبها العلمية والعقدية والأسطورية، ولاشك أن لكل بيئة مدركاتها التقويمية التي انطلقت منها في إضفاء الجمالية على الظاهرة الثقافية؛ فحين عرض ظاهرة معينة على شخصين مختلفين فإن ردة فعلهما من خلال الاستجابة بالاستحسان أو القبح هي نابعة من مخزونها الثقافي بالدرجة الأولى، ومن وعيهما اللاشعوري الذي تعوّد على قوانين الذوق الجماعية التي تربى في كنفها؛ وهنا تعترضنا إشكالية خصوصية الذوق الفعلي الإدراكي وليس التحتيمي المكتسب من خلال الأسرة والبيئة ونطرح سؤالا مفاده:

هل فعلا نتذوق الأعمال الفنية أم نرضى منظومة الجمال النسقية المؤسساتية؟ والحال كذلك مع سؤال آخر: هل بإمكان الفرد أن يؤسس لمفاهيم جمالية بعيدة عن السائد؟

كعادة؛ الفرد التزيّن والتجمّل كل صباح عند الخروج من البيت، وفي تصوره ذلك الانطباع الذي يتركه في كل من يشاهده ويلقاه، وهو ما نسقطه أيضا على مسألة الأفكار أو التفكير، فكل إنسان يحمل تمثلاث لا نهائية لمفاهيم عديدة تجد فاعليتها داخل المجتمع؛ فحين نتتبع سيرورة تلك التمثلات نجدها تتلبس الذات عن طريق العادة أو الخطابات الجماهيرية التي تترصد الذات في بداية تكوّنها، وأيضا مناهج التعليم المتبعة في تأهيل الذات للتواجد داخل فضاء معرفي وفكري وفلسفي معين،

إلا أن كل هذه السبل المتبعة تغفل مسألة قابلية التحاور والتعديل في المفاهيم والأفكار، وهذا ما يؤدي الى تصادم بين الموجود والممكن؛ حيث تصبح الذات في تصارع مع إمكانية الممكن نظرا لعدم اتساع أفق تفكيرها أو تهيئها للمستجد، إن مثل هذه الوضعية تتسبب في خلخلة وجودية وثقافية تمنع الإنسان من وقوفه أمام المرآة النقدية، هذه المرآة التي تروم التعديل والوسطية والتفاعل القائم على روح التطور، وهو ما يحدث للفرد عند وقوفه أمامها؛ حيث يجد نفسه مرسكلا لجميع الخطابات على علاتها ، فيصعب عليه غربلتها وكذلك تجاوزها، وهنا تخلق الفجوة الذاتية تجاه الذات من جهة وحضور الذات من جهة أخرى، وتبعا لذلك ينشأ الصراع الفكري المتوسل للدفاع عن الذات تجاه الخطاب الممكن الذي يتغيا التغيير و التطور.

ولقد أدى هذا الوضع إلى أزمة وعي وفكر وتقبل؛ بحيث نلاحظ وندرس وأحيانا نحضر حوارات فكرية تطبعها العصبية والتزمت الفكري والفكراني، كل هذه المظاهر وليدة الأفكار المشاعة من لدن الأصوات المدعية فقه الحياة والوجود ، إن أخطر هذه المظاهر هي تلك الدامية في الممارسات الحياتية ، فنحن نسجل يوميا حوادث القتل والتجريح والقذف، كل هذا نتج عنه مذهبية ممارسة التفكير وتنميط الأدوات المتوسل بها ومن خلالها تفسير المظاهر الثقافية.

وحين العودة إلى البنيات الثقافية المنتجة لهذا الأنموذج التفكيري نجد ملامحه هي تتجلى في فلسفة الوجود الفاعلي، ومن هذه التمثلات تحدث الواقعات المفارقة لمبدئها الوجودي، فيحدث التشتت والتعصب والانفلات الأخلاقي، كما لا يجدر بنا أن نتغافل على مفهوم الأخلاق الذي ربط في معظمه بأخلاق تعاملية مصلحية دنيوية، ومنه أصبح الفرد في مجتمعه يمثل مصدرا للأخلاق في زعمه أنها أخلاق تتساوق مع الحاضر ، فهذا هو المأزق الحواري والثقافي الناتج عن مثل هذه الأفكار المتوارية وراء قناع المعرفة وهو ما يزيد الوضع تأزم فتزيد العصبية توسعا ، كما تزداد العتمة انتشارا.

إن التأمل يغيب عن الفرد ويسقط مبدأ التجاوز المنطقي للمغالطات المعرفية بينما ينمو مبدأ الارجاء الفعلي للتجاوز في الوقت نفسه، وهو المشهد الذي يعيشه الفرد العربي على حد تقديرنا لوضعه تجاه جملة المعارف المتداولة والمقولات الفاعلة في المجتمع ومن نتائجه أصبح من الصعب تجاوز هذه الوضعية الإدراكية وتبلورت كحقيقة تستمد فاعليتها من الممارسة الأداتية لها.

فالملاحظ في الكفاءات التأويلية و التفسيرية على اختلاف الفروق المفهومية أن النمطية تسيطر على عمليات التواصل الفكري في شتى مستوياته وذلك ما نراه في منجزات ونتائج التوعية السلوكية في شخصية الفرد من تعصب وتزمت يقصي الجوانب الايجابية من الواجهة، ولهذا نلمس اليوم أن عقم الخطابات إنما يرجع الى قصر الفهم ومحدودية التلقي والتفسير في إطار الشخصانية المذهبية ونختم بصراع الوجود (الأنا والآخر ) الصراع الدؤوب من أجل فاعلية بناءة ، هذه الأخيرة ( الفاعلية ) مبنية على لغة السؤال والكشف والتنقيب من أجل حصول الاستقرار الذاتي، لكن عادة ما تكون النتيجة سلبية وهذا راجع إلى الفروق والانتماءات المختلفة لكل من الطرفين، وهو الحال كذلك مع نشوء صراع القبول والرفض للمعطى الثقافي الذي بدوره يفضي إلى الفوضى والتصدع الإدراكي للمتاح الثقافي وإلى واقع حضاري لا قرار فيه ولا قرار له .

 

عبد المطلب براهمي

عبد المطلب براهمي، باحث في الأدب العربي الحديث والمعاصر، مهتم بالتأليف في مجال السرديات والدراسات الثقافية، عضو مشارك وباحث لدى المركز المتوسطي الدراسات المغرب، مشارك في ملتقيات وطنية ودولية وابحاث دولية، مُشرف على استكتابات دولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى