صدر قديماً: “الأدب العربي في المغرب الأقصى” للقبّاج
تحدّدت بداية النهضة بالمغرب في أواخر العشرينيات من القرن الماضي. وفي سنة 1929، صدر كتاب “الأدب العربي في المغرب الأقصى” لمحمد بن العباس القباج كعلامة فارقة لبداية نهضة أدبية مغربية، وانتشرت أصداؤه في الأوساط الثقافية آنذاك.
في مقدمة الكتاب، يذكر المؤلف “منذ سنتين كنت في مجمع ضمّ ثلة من أدبائنا وعلية من مفكرينا، فجرى ذكر الأدب العربي الذي تطور في فجر هذا القرن تطوراً محسوساً، وساير العلم والحضارة في تقدمهما وارتقائهما، فساقنا الحديث في الأمة العربية من قُطر إلى قُطر، واستعرضنا أمامنا شعراء العراق والشام ومصر والسودان والمهاجر وتونس والجزائر فإذا بنا.. ندرك حق الإدراك ونعلم علماً يوشك أن يكون يقيناً مقدرة أي أديب من أدباء كل قُطر”.
ويكمل “ونعرف حق المعرفة المكانة التي تبوأها من البيان والبراعة والابتكار، وما ذلك إلا من مزايا حركة النشر والتأليف التي أمدتنا وأفادتنا كثيراً، ومن عظيم اهتمام أهل كل قُطر بشعرائه وأدبائه حيث قاموا أجل قيام بنشر بنات أفكارهم وثمرات قرائحهم”.
” حسه النقدي والجمالي يتماهى مع المناهج النقدية القديمة”
لكن الكاتب سرعان ما اكتشف أن الأمر ليس نفسه حين يتعلق بتقديم الكاتب المغربي إلى القارئ المغربي نفسه وبالتالي العربي، يضيف: “جال في ضميري لأول مرة أن أتصدى للقيام بجمع تأليف يضم بين دفتيه تراجم شعرائنا ومنتخبات من شعرهم ليعطي لكل قارئ صورة صادقة من الشعر المغربي ويفيد كل باحث في الأمة المغربية مبلغ تدرج الأدب فيها وطرق تفكير شعرائها”.
يكشف لنا هذا الاقتباس سبب جمع المؤلف مواد كتابه ودوافعه، فيشير إلى ما كان سائداً في عهده من رواج لأدب البلاد العربية، بفضل النشر، وكيف أن المغاربة يعرفون بعمق ما يروج من أدب في باقي الأقطار العربية، لكنهم لا يعرفون أدب بلدهم بسبب عدم إقدام الأدباء المغاربة على نشر إبداعاتهم.
وهو ما مثل دافعاً ومحفزاً للقباج للتفكير بجدية في جمع تراجم الشعراء وشعرهم، قصد التعريف بالأدب المغربي وجعله رائجاً لدى غير المغاربة، وحتى يبلغ هذا مبلغ ومكانة أدب باقي أقطار العروبة. بيد أننا نلحظ هنا “اختزال” الأدب المغربي في الشعر وحده، بينما كان الأدب المشرقي على عهد القباج مزدهراً في الشعر والنثر كليهما.
كان القباج يسعى إلى تأليف كتاب يعرّف بالشعر المغربي، ما دام يضاهي الشعر المشرقي الذي لفت الأنظار منذ أواخر القرن الـ 19. وبعد تحديده الغاية من الكتاب والظروف المحيطة به، وخاصة بتحقق النهضة المشرقية، وتحفيزها لشعراء المغرب وأدبائه على الإبداع والعطاء، يتحدث القباج عن الطبقات الثلاث التي تمثّل تعاقب الأجيال في الأدب المغربي.
يقول: “فالأدب المغربي اليوم يمثّله رجال هذه الطبقات الثلاث: طبقة أدبائنا الكبار الذين يمثلون أدب الماضي بطلاوته وجناساته وأمداحه وتغزلاته. وطبقة المخضرمين الذين جمعوا بين الحسنيين وضربوا بالسهمين فنالوا من أدب الماضي أوفى نصيب وأكبر حظ وأخذوا من الأدب الحديث بعض معانيه ومقاصده فأفرغوها في قوالب ذلك الأدب فكانوا خير واسطة قائمة بما يجب عليها للماضي وللحاضر.
والطبقة الثالثة وهي الطبقة الثابتة التي تربّت وتثقفت في عصر تحلّق فيه الطيارات في الأجواء وتخترق فيه السيارات شاسع الأطراف وتعم آلة البخار والكهرباء أغلب البقاع، وتشاهد ما تخرجه العقول من الإبداع والاختراع، فجاءت أفكارها مطابقة لروح العصر مناسبة لرقيه وحضارته نوعاً ما”.
” كثير من شعراء الأنطولوجيا لم يصدر لهم ديوان مطبوع”
وتبعاً للتصنيف النقدي للقباج في تأليفه الذي يقع في جزأين، يضم هذا المؤلف أنطولوجيا شعرية لشعراء الطبقات الثلاث بحسب ترتيب يختاره من دون أن يصنف الأسماء كل في الطبقة التي ينتمي إليها، بل يوردها بهذا الترتيب دونما فواصل: محمد غريط، الشيخ أحمد البلغيثي، الطاهر بن محمد بن إبراهيم البكري، الشيخ عبد الله الفاسي، محمد السليماني، الحاج محمد بوعشرين، أحمد سكيرج، أحمد الصبيحي، محمد أبو جندار، أحمد النميشي، عبد الرحمن بن زيدان، محمد الجزولي، محمد بن اليماني الناصري، جعفر الناصري، محمد الناصري، محمد جنون. محمد علال الفاسي، محمد المهدي الحجوي، عبد الرحمن حجي، عبد الله جنون، محمد القري، محمد المختار السوسي، محمد المكي الناصري، عبد الكريم سكيرج، عبد الأحد الكتاني، الحسن الداودي، عبد المالك البلغيثي.
والمتأمل في طريقة تصنيف القباج يخلص إلى أن حسه النقدي وذوقه الجمالي يتماهيان مع المناهج النقدية القديمة، وهو في عمله إما أن يجعل الشاعر يتحدث عن نفسه فيسوق ترجمة بقلمه، وإما أن يكتبها عنه مما تناهى إليه، ويورد مختارات من أشعاره تمثل أهم الأغراض الشعرية التي عالجها، في طريقة تشبه تصنيف الأقدمين في تجميع شعر الفحول على ما نجده في “جمهرة أشعار العرب” أو “طبقات الشعراء” أو غيرهما من المصنفات والمنتخبات عند القدماء، والقباج يجاريهم وإن كان يختلف عنهم لأن مؤلفه انصبّ على شعراء عصره من المحدثين.
وقد أثار كتاب القباج في زمانه ضجة أدبية لأنه لم يتردد في انتخاب شعر الشعراء الذين رأى أنهم يستطيعون بنماذجهم أن يُعرِّفوا بالأدب المغربي داخل المغرب وخارجه، وقد أقبل عليه القرّاء بحسب أصداء مجلات تلك الفترة، وفي ما قاله عنه العلامة عبد الله كنون (1908-1989)، منوهاً بأهميته، في غير ما موضع، إذ شكّل في زمانه حدثاً، ويبقى في زماننا مرجعاً لا غنى للباحث في الشعر المغربي أواخر القرن التاسع عشر والعقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، وخاصة أن كثيراً من شعراء هذه الأنطولوجيا لم يصدر لهم ديوان مطبوع، عدا المتأخرين الذين نشرت دواوينهم مثل علال الفاسي.
لقد ساهم هذا الكتاب بشكل فعال في نهضة أدبية، ولذلك لا نستغرب أن يقتفي أثره في التأليف والتعريف بالأدب المغربي كل من كنون ومحمد بنتاويت وعباس الجراري في مجموعة من أعمالهم التي راودتها فكرة وصل الجسر بين المغرب العربي ومشرقه.
- وجه من الرباط
ولد الفقيه محمد بن العباس القباج في الرباط سنة 1916 ورحل فيها عام 1979، ودرس على يد علماء الرباط في مساجد المدينة، وكان يلقب بـ “حليف الكتب والمجلات” لإيمانه بأهمية الصحافة. كان من أعضاء الجماعة الأولى بالرباط التي ساهمت في إنشاء الحركة الوطنية، ودعت الى تأسيس الصحافة بالمغرب. من مؤلفاته “الأدب المغربي من دخول العرب إلى العصر الحديث” و”ابن عطية والفكر العلمي في مغرب القرن السادس الهجري”.