الدراسات الثقافيةنقد

نقد العقل الكولونيالي

يعرف العقل الغربي أزمة عميقة لأنه لم يستطع التخلص من تناقضاته و نزعته الكولونيالية و  الاستشراقية المتعالية. و هذه الأزمة في العمق هي  من طبيعة النظام الرأسمالي ومؤسساته السياسية التي تنتج الفوارق الطبقية والأزمات الاجتماعية.

والحداثة  الفكرية الغربية و عقلانيتها سرعان ما تم مصادرتها  من طرف البورجوازية الأوربية. ليحل محلها العقل الأداتي كعقل أحادي مهيمن أعطى العنان لحملاته الاستعمارية، للسيطرة على باقي العالم تحت قناع  “الرسالة الحضارية “، وما واكبها من هيمنة و إبادة للشعوب في القارة الأمريكية و الإفريقية بلغاتها وثقافتها، وتوطين لغة و ثقافة الوافد  الكولونيالي الجديد.

في هذا السياق، استعمل المستعمر الحرب من أجل الهيمنة على المجتمعات المحلية قصد فرض لغته وثقافته و قوانينه، لتحل محل اللغات والثقافات الأصلية و تفكيكها، ضاربا عرض الحائط الهويات الثقافية والحق في الاختلاف والقيم الإنسانية التي رفعها ودافع عنها الفلاسفة والأدباء و المجتمع الأوربي منذ عصر النهضة مرورا بعصر الأنوار الذي عرف انبثاق الفكر العقلاني مع رونيه ديكارت وجون جاك روسو وفولتير وإيمانويل كانط و هيغل وفيكتور هيغو

وقد أدان فولتير الحرب و ما تسببه من مآسي وضحايا وخراب للإنسانية في كتابه ” كونديد أو التفاؤل “. كما انتقد الكنيسة ومحاكم التفتيش التي استعملتها لمواجهة كل من ينتقدها بتعذيبهم وحرقهم، مطالبا بحق الإنسان في الحياة كحق مقدس. و في نفس الكتاب سيرفض ويدين العبودية وما تقترفه من عنصرية و تعذيب و فضائع ضد الإنسانية. 

كما انتقد مونتسكيو الاستبداد والحكم المطلق للكنيسة مدافعا عن تصوره لفصل السلط بحيث يقول في كتابه “روح القوانين”: “يوجد في كل دولة ثلاثة أنواع للسلطات، وهي السلطة التشريعية، وسلطة تنفيذ الأمور الخاضعة لحقوق الأمم، وسلطة تنفيذ الأمور الخاضعة للحقوق المدنية (القضائية).

فلا تكون الحرية مطلقاً إذا ما اجتمعت السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية في شخصٍ واحد، أو في هيئة حاكمة واحدة… وبذلك تنشأ السلطات المختلفة داخل الدولة، بشكل تحدُّ الواحدة منها الأُخرى، وبحيث لا تستطيع أي واحدة منها أن تنفرد، أو تقومَ بشيء على حِدة.

” إن تنوعَ آليات المنع والإقرار بين مختلف السلطات، هي وسيلة الحرية السياسية، وأداتها الرئيسية لدى مونتسكيو بحيث أكد على ضرورة فصل السلط لتحقيق الديمقراطية.

لكن العقلانية الأوربية ستنحرف عن هدفها النبيل وسيسيطر العقل الأحادي والأداتي، مغلفا بغلاف القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. و أصبح الصراع والحروب آلية من آليات السيطرة والهيمنة على الآخر، وإخضاعه قصد النهب والاستغلال، سواء في العصور القديمة أو الحديثة من خلال الحملات الاستعمارية وما أفرزته من ظلم واضطهاد.

أدت إلى تباعد الدول والشعوب بثقافاتهم ولغاتهم. وبذلك تعمقت الجراح  بالكراهية والعنصرية بين الأفراد والمجتمعات وبين الأنا والآخر. إذ زاد التباعد حدة بين المجتمعات؛ وتقلص الحوار والتواصل بسبب المركزية الأوربية المتعالية وما أنتجته من أزمات عرقلت إمكانية إرساء أسس السلم والعدل والتضامن الإنساني. 

في هذا السياق، لا زال الشعب الفلسطيني يتعرض للعدوان  ومصادرة الأرض والتهجير على أيدي الكيان الصهيوني، كغزاة جدد يحرفون التاريخ و الجغرافيا والثقافة في محاولة يائسة لاقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه. كما يعمل على تغيير معالم القدس، والمدن الفلسطينية  لطمس هويتها العربية والإسلامية.

لكن، القضية الفلسطينية ستبقى قضية عادلة تعبر عن إرادة الشعب الفلسطيني وحقه في الحرية و التحرر من الاحتلال الصهيوني. بحيث لم تفلح كل المحاولات الاجتثاث أمام تشبث هذا الشعب الصامد بأرضه وجذوره الضاربة في التاريخ القديم والمعاصر، والمطالبة بالدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وتفكيك الاحتلال الإسرائيلي.

بالمقابل، إذا كانت العولمة قد اخترقت حدود الدول وعممت نظامها الاقتصادي النيوليبرالي معتمدة على الضغط السياسي والحصار واستعمال الجيوش العسكرية، فإنها فشلت، مع ذلك، في تحقيق التضامن والتعاون بين الشعوب ومساعدة الدول النامية على تحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية.

يقول المفكر الفرنسي إدغار موران : ”  تكشف لنا هذه الأزمة أن العولمة هي ترابطٌ وتشابك فاقد التضامن. فمما لا شك فيه أن مسار العولمة قد نتج عنه توحيد تقني و اقتصادي شمل كوكب الأرض. بيد أن العولمة لم تحرز تقدما في مجال التفاهم بين الشعوب.“.

ومنذ الثمانينات من القرن الماضي ازدادت النيوليبرالية العالمية بطشا وفتكا بالإنسانية في عدة حروب خربت دولا ومجتمعات. لازالت جراحها لم تعالج إلى حد الآن، بل تعمقت أزمة الدول مع الإرهاب والتطرف فتدحرجت الإنسانية إلى مستنقع مظلم.

كل ذلك بسبب غياب الإرادة الفعلية لحل الأزمات ونهج سياسة فرق تسد، أمام غياب المنظمات الدولية وعجز هيأة الأمم المتحدة و غياب التضامن الدولي، نظرا لهيمنة اليمين المتطرف والشعبوية على مراكز القرار للدول الغربية. كما تعرضت البيئة إلى نكسة حقيقية بسبب التلوث وعدم التزام بعض الدول بالاتفاقيات الدولية لحمايتها وتجنب ارتفاع درجة حرارة الأرض والكوارث الطبيعية.

كما عرف النظام النيوليبرالي تأزما في خطابه السياسي، وتدحرج نحو اليمين المتطرف العاجز عن تقديم الحلول الموضوعية للأزمة المركبة للمجتمع الدولي. وتحول اهتمام الساسة من الصالح العام والقيم الإنسانية النبيلة إلى استغلال النزعات القومية والدينية ومعاداة المهاجرين.

يقول الكاتب الكندي في كتابه ” نظام التفاهة ” : ‏” إن التافهين قد حسموا المعركة لصالحهم في هذه الأيام، لقد تغير الزمن زمن الحق والقيم، ذلك أن التافهين أمسكوا بكل شيء، بكل تفاهتهم وفسادهم؛ فعند غياب القيم والمبادئ الراقية، يطفو الفساد المبرمج ذوقا وأخلاقا وقيما؛ إنه زمن الصعاليك الهابط”.

لقد أصبح واضحا أن العالم اليوم يزداد تأزما في جميع المجالات. يفترض تضامن جهود المواطنين والدول والشعوب للدفاع عن حق الإنسان في الحياة على هذه الأرض، من أجل العيش المشترك الذي يجمع الأفراد والمجتمعات و من بينها الشعب الفلسطيني الذي لا زال يعاني من الاحتلال بتواطؤ الدول الأوربية والولايات المتحدة

إن العولمة ونظامها النيوليبرالي يفتك ويفكك الدول والمجتمعات على أساس عرقي وديني. ويشجع الطائفية وخلق التوترات الإقليمية وإشعال فتيل الحروب، لخلق دول فاشلة متحكم فيها مع  مصادرة الحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية واللغوية للمجتمعات. واعتماد آليات الضغط السياسي ولوبي الشركات الكبرى و العابرة للقارات للتأثير في سياسات الدول التبعية.

في هذا الإطار يقول المفكر والاقتصادي سمير أمين :” إن العولمة التي تقدم دائما كضرورة يفرضها التقدم الاقتصادي والتحولات الإيجابية في المجتمع، ليست في الواقع إلا استراتيجية هيمنة تهدف الولايات المتحدة من خلالها إلى ضمان التحكم بالإدارة الاقتصادية للعالم، من خلال مؤسسات عالمية شكلا ولكنها مدارة في الواقع  بطرق الشركات العابرة القوميات والحكومة الأمريكية، من جهة، ومن الإدارة السياسية والعسكرية للعالم من خلال حلف شمالي الأطلسي.”

إن الدول النامية في حاجة إلى بناء اقتصادها على أساس المصلحة الوطنية والعلاقات المتكافئة والمتوازنة مع باقي دول العالم. وهذا لن يتأتى إلا عن طريق التكتل والاندماج الإقليمي والجهوي للتكامل الاقتصادي. فالتكتلات الاقتصادية تجعلها قادرة على فرض كلمتها وإرادتها السياسية والاقتصادية في نظام العولمة  المفكك، لتطوير مشروع التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

يكون مدخله البناء الديمقراطي الوطني و التخلص من نظام التبعية الاقتصادية للنظام النيوليبرالي العالمي المتهالك ومؤسساته المالية، والذي يتسبب في تعميق واقع الأزمة الشاملة في المجتمعات وخلق التوترات الاجتماعية. في هذا السياق، يؤكد الاقتصادي سمير أمين بالقول في كتابه ” الرأسمالية المتهالكة ” : “يجب أن تواجه رؤية العالم الأحادي القطب برؤية عولمة متعددة الأقطاب.

وهي الإستراتيجية الوحيدة التي تمنح هامشا من الاستقلالية يتيح تنمية اجتماعية مقبولة لمختلف مناطق العالم ، وبالتالي دمقرطة للمجتمعات، وتقليصا لعوامل النزاع.”

لقد أصبح المجتمع الإنساني مطالبا بمراجعة وضعه ووجوده الإنساني ونقد النظام النيوليبرالي باعتباره أدى إلى إفلاس المجتمع المعاصر، بمختلف بنياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، نظرا لطبيعة بنيته المأزومة التي تنتج الحروب و البؤس  والفقر والتخلف.

وهذا يفترض بناء مجتمع  بديل بمنظومة قيم عادلة  تؤسس لبناء مجتمع إنساني عادل ومتضامن يضع ضمن أولوياته العيش المشترك و تنمية الإنسان وتقدمه، لتخليصه من الاستغلال والفقر والهشاشة، مسلحا بالعلم والمعرفة  من أجل تحقيق التنمية و الأمن الغذائي ومواجهة الاحتباس الحراري و تأثيره على البيئة والجفاف و الكوارث الطبيعية و متشبعا بالقيم الإنسانية من أجل عالم أكثر عدلا وإنصافا للشعوب والدول  بهوياتها اللغوية والثقافية المتعددة والمختلفة.

المصطفى رياني

المصطفى رياني: أستاذ باحث، حاصل على الدكتوراه في الترجمة القانونية من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة، طنجة، المغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى