الحداثة العربية .. “سؤلات التقويم”
يأتي الحديث عن شروط التبدلات الحضارية وفق ما تمليه سيرورة الوعي بمتغيرات الحياة وأنماط الخطابات الرائجة، وكذلك تحولات البنى السوسيوثقافية والبنى التحية التي تفرض ذهنية جديدة في كيفية التعامل والتقبل والنقد والمعايشة والتأقلم، فمن خلال هذه المشهدية التي تسطرها الانتقالات وضرورياتها الحتمية من أجل فلسفة البقاء الوجودي موضوعا وذاتا؛ تُشيد المفاهيم والفلسفات والمذاهب الفكرية التي تصبو إلى مقاومة التشتت الإدراكي في عمليات المخاض الاجتماعي بكل وجوهه، ولعل الحديث هنا يقتصر عن طموح مشروع الحداثة التي اكتسحت التربة العربية وأربكت السكون الإدراكي والتقنين المضاوي، بأشكال خطاباتها المراجعاتية للموروث الفكري.
سار الاتجاه العرفاني وقولنا العرفاني نقصد به الكشف الغيبي أو الفكري التحليلي عن المعضلات الاجتماعية والنفسية والوجودية وقد يذهب البعض إلى وصل هذه الكلمة بمساق التصوف وهذا ما نرومه من خلال غاية المصطلح وهي محاولة للوصول إلى ما عجزت التجارب للإحاطة به وفق ما تملكه من ترسانات ووسائل مقارباتية من خلال منظومات التفكير والإدراك والتحليل الهادفة لبلوغه _ الاتجاه العرفاني _نحو التفضيل والتمحيص والتكديس والتخريج الفهومي للمعطيات الظاهرية الكونية من خلال السعي الدؤوب لإقامة مسالك شارحة للبنية العارفة للمجتمع بكل حمولاته الثقافية، أي بمحاولات شتى لتجزئة التقنيات المستعملة في عمليات المكاشفة وازالة الغموض وتبسيط الفكرة للمتلقي الذي يرى في السلطة المفكرة بديلا للشك الوجودي،
طبعا هذا كله يبدو يسيرا في منظومة الفكر المترسب في مسالك نمو الوعي الجمعوي لأنه لا يجد مضادات مراجعاتية للوجبات المقدمة له من أجل السير على منوالها، في حين لو ذهبت آلية النقد إلى محاولة تشغيل محركها فإن آبار البنزين ستنشف ويستأصل المفتاح من المحرك دوما، أسرد هذا المثال لأدعم به ما أصبو إليه من خلال تقديمي هذا والذي أريده أن ينتقل من النتيجة إلى الفرضيات أي الانتقال من الكل وهو الغالب على نمط العقلية العربية المطلقة الى الجزء وهو التفريقات التحليلية الشعبية التي تحاول إقامة جسر بين الحقيقة ومعطياتها المنتشرة، الآن نقف عند سياسات الانتقال من نموذج حضاري الى نموذج أخر ونعيد طرح السؤال الذي لطالما طرح في المحافل العلمية وغيرها من مجامع الثقافة العربية وهو: هل للانتقال شروط منطقية؟ وهل الإجابات الموجودة للإشكالات الكبرى أصبحت غير قادرة على إرضاء الفعل التقبلي؟ وهل المصادر المعرفية أصبحت عاجزة عن تقديم تفسيرات مقنعة؟ كل هذه الأسئلة نوجهها لأصحاب المملكة المعرفية التي كرست نظرية الاستراحة الإدراكية وهنا أستعمل مصطلح نظرية مجازيا وأصله بالغاية المنشودة من ورائه والتي أصبحت فعلا لها مقننات ودعائم وأحزاب تناصرها وتنصب لها تماثيل القداسة في أي مكان، بهذه الأسئلة سأحاول رسم ورصد واقع الحياة المعاشة في التربة العربية بعد الانسياق وراء موجات التعريف النفسي واللاواعي بدافع التحديث والمعاصرة والتطور وغيره، فبداية هذه اللحظة التاريخية الغريبة عن المجتمع العربي كانت بالانقسام بين مؤيد ومخالف وهو ما حملته معظم الكتب التي أرخت لهذه القنبلة الشكية والتفكيكية في ورودها الى المجتمع العربي طبعا لا يجب أن اغفل هنا عن تبرير وصفي لها بالقنبلة التفكيكية لإن للمفاهيم خصوصية وهذا متعارف عليه ونقل المفهوم وتغصيب الية التقبل بهضمه واستقباله دون سابق مخاض ودون سابق أزمات لها رجالاتها والحال كذلك تثبيط الدراسات الاستشراقية للأفق النظري للعقل العربي وهي مظهر من مظاهر تسيس المعرفة تتبعها دول الوصاية والمركزية.
كانت حجة المخالفين أن كل ما هو وارد من الأخرى باعتبار الخلفية الاستدمارية هو عامل مقوض ومفكك لما حاولت الثقافة العربية الحفاظ عليه بعد الهجمات الكبيرة الموجه لها، في حين تخلى الطرف المؤيد عن التراث وهو إشكاليتهم الوحيدة وانساقوا وراء كل ما هو غربي من مفهومات ومنظومات فلسفية وهو ما تسرده علينا الكتب التاريخية للمفكرين والنقاد وغيرهم من الذين كتبوا في هذا الموضوع، طبعا مررت بعجالة هنا عن مسار تاريخي ومحضن سوسيوثقافي لحركة أسالت الكثير من الحبر وهذا لكي أذهب إلى الاسئلة الجوهرية التي نوجهها أمام الحداثة وروادها وهو ما فعله حمودة في رفعه للمرايا المقعرة في وجه الحداثيين العرب.
سيذهب المتأمل للوضع الراهن إلى التسليم بالتفكك في منظومات الأخلاق والتعددية الثقافية الفكرانية التي تسعى الى بناء قلاع ثقافية متزمتة ومغلفة الأفق ولنا دوما في الواقع نماذج كثيرة ومتنوعة تتمثل في الإنحرافات وغيرها من مظاهر الحرية العرجاء، طبعا لا ننفي أن لهذه الحركة ابجابية التنبيه والنهوض من السبات ولكن هل يجد العربي بعد سباته ماهو في خدمته، المسار هنا طويل للوقوف عند مظاهر العراك الثقافي وغيره.
إن العودة لشروط التحولات الحضارية والقطرية تتطلب الوعي التام بما يستشكل الية التفكير من تخبطات عقلية وسياسية واقتصادية وليس كما هو مطروح باستدعاء المفاهيم والمناهج من خارج الجغرافيا ومحاولة تطويعها وفق خصوصية عربية تستمد مسلماتها وركائز هويتها من تراث عريق هذ أولا وثانيا لا يمكن بشكل من الأشكال تفعيل مفهوم دخيل في وعي دام على نسق تفكير واحد عدة قرون بل لا يجب أن تحدث الصدمة النفسية للمجتمع لأنه سيجد نفسه غير مفعل الشعور التطوري وبهذا تكون المفاجأة المعرفية والحضارية صدمة تعود به الى شعور المحافظة والركون والدفاع عن الكينونة بكل مظاهرها السلبية والإيجابية، والأمر كذلك بالنسبة لمهاجمة التراث الذي يمثل البطانة الواعية للذات العربية فإنه من المغلوط أن تذهب لتهاجم منظومة فكرية ترعى الشعور الجمعوي في كنفها بحجة الحداثة أو التطوير وهو السؤال المطروح كيف تفند هويتك لتصل الى المطموح الحداثي، سيبقى السؤال معلقا إلى ان تختلط الحداثة بما بعدها ويصبح الفرد العربي هائما بينهما ، قد يجدني القارئ هنا مدافعا عن التراث ومهاجما الحداثة ولكن أقول أن الوقوف عن المُرآة كما قال عبد العزيز حمودة أفضل من مخادعة شعور ووعي ذاتي ينطلق من الكثرة العددية لإثبات رأيه ورواجه، طبعا من يرى كلامي مهاجما للحداثة ومنافيا لمسارات التحولات الحضارية فهو حر فكريا دون مغالاة ودون عمي ثقافي ونقدي
وفي ختام هذه اللفة السريعة لواقع تقبل الحداثة وموجاتها أقول إن أي حركة فكرية لابد لها من شروط عقلية وشروط سياقية تقف عند سلبياتها وايجابياتها لتأخذ منها ما يصلح وتفند ما لا يصلح وهي دعوة إلى خوصصة المفاهيم والمشاريع الفكرية بعدا عن المسكوت عنه العربي في الخطابات الحداثية العربية.