سلطة الناقد: من النابغة الذبياني حتّى إدورد سعيد
يشير معنى السلطة هنا إلى القوّة، والهيمنة، والتأثير. وقد شهدت المدوّنة الثقافيّة العربيّة العديد من الأمثلة التي تؤكّد هذه السلطة.
فعندما يعيد الدارس قراءة النشاط النقديّ في العصر الجاهلي على ضوء هذا المعنى، سيكتشف كم كانت حاضرة تلك السلطة التي قد فاقت سلطة المبدع ذاته، ومن أمثلة ذلك أحكام النابغة الذبياني النقديّة في أسواق العرب، لقد كان لقوله قوّة وهيمنة وتأثير، إذ كان ناقداً فذّاً مرهوب الجانب، يخافه الشعراء، ويحسبون لرأيه ألف حساب، ويسعون إلى المثول أمامه، حاملين جيّد شعرهم وجديده، للحصول على شهادات نقديّة تعلي من شأنهم.
كانت هذه الشهادات النقديّة تؤدّي إلى النشوة إذا ما توافقت وهوى المبدع. وإن حدث العكس، سيقرأ الدارس عبارات من قبيل، سكت ولم يجب، وخنس فلان، أو انكسر، ولم يحر جواباً، إلى غير ذلك من هذه العبارات التي تشي بهذا التأثير. واستمرت هذه السلطة في العصور اللاحقة، وكانت سبباً في المشاحنات بين النقّاد والمبدعين التي قد تصل أحياناً إلى الهجاء المقذع، وكتب التراث حافلة بعشرات الأمثلة.
أسوق بعجالة موقف الشاعر الفرزدق مع الناقد عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، فقد بلغ الناقد مبلغه من الفرزدق، حتّى أغضبه، وهجاه، ومع كلّ ذلك لم يترك الناقد الحضرميّ دوره في تتبّع أخطاء الفرزدق حتّى أغضب الفرزدق ودفعه لأن يهجوه؛ معبّراً عن سلطة الناقد القوية فيه وفي المتلقين، ويبين صاحب كتاب الموشّح هذه السلطة بقوله: “وبلغ الفرزدق أن الناس يقولون: قد أقوى الفرزدق، ولم يبلغه بعد أن قائله ابن أبى إسحاق، قال: فما بال هذا الذى يجر خصييه فى المسجد- يعنى ابن أبى إسحاق- لا يجعل له بحيلته وجها؟”. في هذا التعليق يظهر مدى تأثير الناقد في المتلقي والمبدع على حدّ سواء.
وقد سبق في عهد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أن استعانت السلطتان السياسية والقضائية بسلطة الناقد لتثبيت أحكامها في الإدانة الجنائية، كما حدث مع الحطيأة عندما هجا الزبرقان بن بدر، فاستشهد عمر بن الخطاب بحسان بن ثابت؛ بوصفه ناقدا، عالما بالشعر، فكان من نتيجة هذه الاستعانة حبس الحطيأة. وكذلك تفعل السلطات القضائية في العصر الحاضر في الحكم على الكتّاب المتهمين بتهم الزندقة والتعدي على الأديان مثلا، إذ لا بد من وجود أهل المعرفة، وهذا أساس من أسس القضاء العادل.
ومن عجائب سلطة النقد الخفية المهيمنة ما يبدو في التعامل مع مجموعة القصائد الجاهلية التي تم التسليم لها في كل العصور على أنها أفضل الشعر، وهي “المعلقات”. إن للناقد في هذه المسألة العابرة للأجيال والزمن تأثيره في كل من جاءوا بعده، فلم ينتقد أحد تلك القصائد، ولم ينقص من شأنها، ولم يسع أحد إلى أن يزحزحها عن مكانتها الرفيعة التي تبوأتها منذ عرفت أيام الأمويين وحتّى الآن.
هل كان الناقد الذي اختارها خبيرا عارفا إلى هذه الدرجة من العلم واليقين؟ لا أظن ذلك، إنما يعود الأمر كله إلى تلك السلطة الخفية السحرية للناقد التي تدفع الآخرين عموما- إلا نادرا- على أن يتأثروا بها وبسحرها، فظلت المعلقات أجود الشعر الجاهلي، وتوارثت الأجيال ذلك، حتّى استقرّ في وعيهم أنها لا تضاهى، ولا تُنقض، ولا تُنتقد، وليس فيها أي عيب، وهي أعلى النماذج الأدبية التي لن يصل أحد من اللاحقين بها. إنها أصبحت “قصائد مقدسة” و”معجزة” لكثرة ما قيل حولها، ولكثرة الدراسات والأبحاث التي تناولتها قديما وحديثا على ضوء المناهج النقديّة المختلفة.
استمرت سلطة الناقد متقدمة على سلطة المبدع حتّى مجيء المتنبي. في ذلك العصر تنازع الناقد والمتنبي القوّة والهيمنة والتأثير، ولم تعد أحكام الناقد على كثرتها التي جاءت في مؤلفات طويلة وتفصيلية أن تزحزح من سلطة المتنبي الشعرية، وإلى الآن، أعتقد أن المتنبي ذو تأثير قوي جدا في الناقد بحيث يجبره على أن يتورط جماليا في عالمه الشعري، ويتحول الناقد إلى مجرد خادم مطيع يؤكد سلطة المتنبي الشعرية.
لا يعود ذلك إلى تفوق الأنا لدى المتنبي وتراجع أنا الناقد العارف البصير، بل لأن الناقد كان ينقد المتنبي وهو بين خيارين؛ إما أن ينال منه، فيفشل، وإما أن يمدحه فلا يزيد إلى سلطته سلطة إضافية، فيتحول الناقد إلى ظل يسير وراء راحلة المتنبي حافيا لاهثا، لم يستطع اللحاق به.
لقد كان كلا الفريقين بائسا جدا في تلك المرحلة من النقد، على الرغم من أنها أنتجت العديد من الكتب النقديّة المهمة، إنما أتحدث عن شخصية الناقد ذاتها، وإحساسه بالضآلة والضعة أمام المتنبي، فكثير من النقد آنذاك لم يعوض هذا النقص في السلطة المفقودة، وبقي المتنبي كما وصف نفسه: “أنام ملء جفوني عن شواردها// ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ”.
إنه هنا بالضبط يعرّض بالنقّاد ويسخر منهم، لأنهم يسيئون فهمه، ويحاولون “اغتياله”، فلا يقيمُ لهم وزناً، فتجده يقول في موضع آخر معرّضا ومنتقداً: “وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً // وآفته من الفهم السقيمِ”، فلعله يلفت النظر إلى أهمية التدقيق والتمحيص، فشعره ليس سهلا وإنما يحتاج إلى درجة عالية من الفهم والإدراك.
كما أن المتنبي كان طاغياً في سلطته بحيث أطفأ كثيرا من وهج شعراء كبار عاشوا في زمنه، ولم يحظوا بمعشار ما حظي به. إنه حالة نادرة في هذا السياق من الثقافة العربية، وبدلا من انتقاده توجّه الدارسون والشعراء إلى شرح قصائده، فوجدت شروح متعددة، ولعل أهمها في الدلالة على استحواذ السلطة الشعرية شرح الشاعر أبي العلاء المعري لديوان المتنبي تحت عنوان “معجز أحمد” مع ما في هذا العنوان من توطيد لسلطته التي اشتبهت بمعجزة القرآن الكريم البيانية.
هذه السلطة الإبداعية المتفوقة على سلطة الناقد لم تعد موجودة حتّى مع أكثر الشعراء شهرة بعد عصر المتنبي، فثمة ما يقال حول أشعارهم، وينجح الناقد في جر المبدع لأن يدافع عن نفسه، وإذا ما أخذ الكاتب في الدفاع عن نفسه، فقد تجرد من سلطته، وسلم أمره للناقد يقوده حيث يريد. لم يكن المتنبي يفعل مثل هذا الأمر، ولم يُؤْثر عنه سوى الإهمال الكامل للنقّاد.
اليوم اختلف الوضع كثيراً؛ إذ أصبح لدى الكاتب شهادات إبداعية شارحة، يحاول فيها اتقاء شر النقّاد أو تخفيف سلطتهم أو تأكيدها من حيث لا يدري، وحوارات يفسر فيها إبداعه، ومقالات يحاول أن يكون فيها حكيما، ليخفف من أثر النقد وسلطته عليه. وعلى الرغم مما يقال عن الشاعر أدونيس في أنه لا يحفل بآراء النقّاد ولا يهتم بها، إلا أن سلطته الإبداعية منقوصة نوعا ما، لأنه واقع بما وقع فيه الكتّاب جميعا من كتابة المقالات الشارحة والكتب التفصيلية، والشهادات الإبداعية وإجراء الحوارات والمقابلات التلفزيونية والصحفية.
وإذا ما تجاوزت الحديث عن المبدع واختلاط دوره ما بين الإبداعي والنقديّ، وتحدثت عن سلطة الناقد اليوم بشتى صوره؛ الناقد الصحفي، أو الناقد المقالاتي، أو الناقد الأكاديمي، سيجد الدارس أن للناقد تأثيرا قويا في الحياة الثقافية والأدبية، فآراء النقّاد تساهم في زيادة نسبة مبيعات كتاب ما، وهذا تجلٍ من تجليات سلطة الناقد، كما أن الآراء الانطباعية في أي كتاب ستكون متأثرة بما يقوله ناقد معروف، فيأخذون يرددون قوله، ويتبنون آراءه، وتتمتع مقولاته وأحكامه النقديّة بالثبات.
وليس فقط عند الناقد الانطباعي بل ربما تجاوزتها إلى التأثير في النقّاد الجدد أيضاً، كما هو الحال مع الناقد الفلسطيني فاروق وادي الذي ما زال كتابه “ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية” مرجعا أساسياً فيما كتبه عن الروائيين الثلاثة: إميل حبيبي وغسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا، وضاقت المساحة كثيرا ولم تعد تجد مكانا بارزا لروائي جديد غير هؤلاء، على الرغم من أن الأسماء الروائية كثيرة، لكنها لم تستطع أن تحتل ما احتله هؤلاء الثلاثة بفعل ما كتبه وادي عنهم.
كما ساهمت آراء النقّاد في دعم الكاتب المتقدم لنيل جائزة أدبية أو رفضه واستبعاد أعماله. عدا أن حكّام الجوائز الأدبية هم نقّاد، وإن لم يكونوا نقّادا أصلا إلا أن مهمتهم تلك في الحكم على الكتّاب وتصنيف أعمالهم في مراتب، وتمرير أحدها ليكون أولا هي سلطة نقديّة، ولذلك تجد أحيانا أن الكاتب يحاول عقد صداقات مع هؤلاء النقّاد، لعله يفوز بجائزة من تلك الجوائز. ولعل أكثر الجوائز موضوعية هي الجوائز التي لم يكشف فيها قبلا عن أعضاء لجنة التحكيم.
لقد اكتسب هؤلاء النقّاد المشكلون للجان التحكيم الكثير من العداوات، واتهموا بالكثير من التهم من أولئك الذين لم يفوزوا. وكتبوا في ذلك مقالات معبرين عن سخطهم، إنهم بذلك يحاولون التقليل من سلطة الناقد وتأثيره في الكتب التي لم تفز، ومحاولين في الوقت ذاته استرداد شيء من سلطتهم المهدورة على أبواب الجوائز.
كثير من الأدباء فهموا هذه المعادلة جيدا، فلم يتقدموا لأية جائزة محلية أو إقليمية، حرصا منهم على ما لديهم من سلطة إبداعية ترفُّعية لا تخضع لأذواق النقّاد وأحكامهم التي اكتسبت معنى السلطة وقوتها، ورفضا لمنطق تسليع الإبداع، وجعله مجالا للمساومات غير المنصفة، فعدم فوز كتبهم يعني أنها ستتدحرج إلى الظل، وتُنسى، ولن يلتفت إليها أحد إلا نادراً.
إن للنقد أحيانا بعدا اقتصاديا واضحا، فالقراء يقبلون على أعمال القوائم القصيرة وعلى العمل الفائز، عدا ما يكسبه المبدع من أثر نتيجة هذه العملية النقديّة، من شهرة، وتمدد معرفي، يعود الفضل فيه إلى الناقد أولاً، فقد أفلح الناقد في جر المبدع إلى دائرة غير إبداعية، وإلى إخضاعه لمنطق غير إبداعي في نهاية المطاف.
عدا أن للناقد دورا مفصليا في الحكم على مخطوطات الكتب الواردة إلى دور النشر التي تحترم عملها، فلا بد من أن تجاز من لجنة خاصة، وهذه اللجنة ذات مَهمة نقديّة في الأساس، لأنها تقدم حكما نقديّا بالإجازة أو الرفض، وهاتان الكلمتان: الإجازة أو الرفض هما السلطة بطرفيها؛ سلبا وإيجاباً على المبدع المنتظر مثل هذا القرار.
يحتاج الكاتب إلى الناقد “احتياج ضرورة”، فلا يكفي أن يكون العمل الفني جيدا في ذاته، وخاصة مع كثرة الإنتاج الفني بأنواعه وأشكاله وتعدد بيئاته وكثرة الداخلين إلى ساحاته والمتعلقين به. إنه يحتاج مع جَوْدة العمل الذاتية ناقدا جيدا وبارعاً، ليمنحه السلطة الإبداعية، فكأن ذلك الرأي النقديّ هو تأشيرة دخول إلى عالم القراء، والحضور الإعلامي، والتفاعل مع العمل نفسه.
لعلّ اهتمام الناقد بعمل أدبي ما وقراءته يمنحه الكثير من الأهمية، ومن أجل هذا يسعى الأدباء إلى إهداء كتبهم إلى النقّاد، لأنهم يريدون أن يستمدوا “سلطة” إبداعية من سلطة الناقد، فصار معروفا أنه كتاب نجاح ذلك الكتاب الذي تعرّض له نقّاد كثيرون بالكتابة عنه أو الإشارة إليه، أو الاقتباس منه.
إن هذا يُحدث نوعا من النشوة المحببة لدى الكاتب، وهو يرى أن الآخرين يعتاشون على أفكاره ويساهمون في تأسيس سلطته الإبداعية وتشريعها، ولذلك تجد بعض الأدباء يشنون حربا على النقّاد إذا تجاهلوا إبداعهم، ولم يحفلوا بها، كما يشتمّ من قول الشاعر الفلسطيني حاتم جوعية في قصيدة له يصف الناقد في بيت من أبياتها بالأرعن: “وإنّني شاعرُ الأجيالِ قاطبةً // كم ناقدٍ غارَ مِنِّي أرعَنٍ خرقِ”.
كما تنبغي الإشارة إلى أن سلطة الإعلام المتنوع في حديثها عن الأعمال الفنية، تتكئ أيضا على رأي الناقد، لذلك تحرص البرامج الثقافية ذات الصلة على أن تستضيف نقّادا- خبراء- للحديث عن العمل الذي تتم مناقشته فنيا وموضوعياً، ولا بد من حضور سلطة الناقد لتعزيز سلطة الإعلام، إمعاناً في ترسيخ سلطة الكاتب الإبداعية التي صار لها دعامتان، أُولاهما وأَوْلاهما بالتنبيه هي سلطة الناقد، فإن لم توجد سلطة الناقد، صارت كل السلطات الأخرى مشكوك في شرعيتها، أو منقوصة التأثير على أقل تقدير.
هذه الحالة خاصة في الأعم الأغلب بالكتّاب الذين ما زالوا يبحثون عن فرصة لهم ليكونوا تحت الأضواء الشاسعة الساطعة، أما إذا وصلوا إلى هذا الفلك من الإشعاع والشيوع والانتشار فالأمر سيختلف؛ إذ يحاول كثير من المبدعين في مرحلة متقدمة من حياتهم الإبداعية التمرد على سلطة الناقد، كما فعل محمود درويش وإبراهيم نصر الله كنموذجين متقاربين في الموقف تجاه النقّاد. يقول درويش في قصيدة له بعنوان “اغتيال”:
“يغتالني النقّاد أحياناً
وأنجو من قراءتهم
وأشكرهم على سوء التفاهم
ثم أبحث عن قصيدتي الجديدةْ” (أثر الفراشة، 110)
هذا الاغتيال الأقرب إلى الحقيقي منه إلى المجازي، لأنه اغتيال للمعنى المقصود لا يستطيع فعله إلا أصحاب السلطة، وهم النقّاد. وعندما سئل درويش في أحد حواراته وقد نُشر هذا الحوار بعد وفاته (26/1/2012)، عن الناقد الدكتور عادل الأسطة، يصف دوره بوصف ليس بعيدا عن دائرة “الاغتيال” فيقول في رد على سؤال حول رأي الأسطة في حذف الشاعر بعض قصائده في طبعات لاحقة من كتبه: “عادل الأسطة محقق يمارس دورا بوليسيا” (القدس العربي، محمود درويش في لقاء شبابي فلسطيني).
إنه وصف يحمل كمّا هائلا من عدم تقدير رأي الناقد أو استيعاب دوره واحترامه، نافيا عنه- ضمنياً- صفة الناقد.
وفي مقالة بعنوان “خفة الناقد التي لا تحتمل” (القدس العربي، 24/8/2016) يظهر إبراهيم نصر الله بوضوح رأيه السلبي جدا من الناقد الذي لا يحتمل. ولا يُحتمل ليس لأنه ناقد، بل لأنه رأيٌ انتقادي سلبيّ، فيجمع لهذا الناقد كثيرا من الأوصاف “التي لا تحتمل” هي أيضا ليس من خفتها؛ بل لأنها “ثقيلة” وقاسية؛ كأن المبدع عندما يصاب بجنون العظمة والشهرة الطاغية والأضواء، يصاب بعقدة الأنا، فلا يعود يحتمل انتقادا أو نقدا سلبيا، ويريد نقدا تبجيليا يصنع منه أسطورة أو معجزة إبداعية جديدة، بل قد يتجاوز الأمر إلى أن يتجرأ وينفي أن يكون هناك “حركة نقديّة عربية نشطة”، وإلى أننا ما زلنا نعاني من فقر نقديّ مدقع، أو انعدام الناقد الجيّد.
ولذلك يسخر نصر الله في مقاله هذا من سلطة الناقد؛ سواء أقصد ناقدا بعينه أم الناقد عامة، بقوله: “وكلام النقّاد الملوك لا يعاد”. قائلا إنهم “يملكون الحقيقة المطلقة، فيما يتعلق بقدرتهم على المحو وقدرتهم على إعلاء شأن من يريدون وما يريدون، بجرة قلم”. ومع أن الكلام فيه الكثير من نزعة الاستهزاء إلا أنه محاولة للتهوين من سلطة النقد التي يعترف بها نصر الله وإن بطريقة غير مباشرة.
ولم يقتصر الأمر على هذا المقال، بل يجعل نصر الله من روايته “مأساة كاتب القصة” مدخلا لشن هجوم قاس على النقّاد، وسبق أن أشرت إلى ذلك في مقالة تناولت فيها هذا الموقف بالتفصيل. (صحيفة الحدث الفلسطيني، عدد 143، يوليو 2021)، إنه لا يعطيهم وصفا أبعد من أن الناقد سادسهم (سادس الشلة)؛ أي أنه “كلب”، لفتاً لنظر القراء إلى النص القرآني، ومن يعود إلى المقال، وإلى الرواية، ويجمع تلك الأوصاف التي وصف فيها نصر الله النقّاد، سيفاجئ من ذلك الحشد الكبير من الأوصاف السيئة، وتذكر تلك الأوصاف غير “الأدبيّة” الباحث بكتاب “على السفود” للكاتب مصطفى صادق الرافعي التي وصف فيها الرافعيُّ العقاد، إنها أوصاف هجومية لا تتغيا أكثر من تحطيم سلطة الناقد المستقرة للعقاد في الأوساط الثقافية آنذاك. تلك السلطة التي كانت شديدة التأثير والسطوع والفاعلية.
وإمعانا في إلغاء دور الناقد والحد من سلطته، لا يحفل نصر الله بالمقالات النقديّة التي تتناول تجربته الإبداعية؛ شعرية وسردية، تلك المقالات التي تبيّن عيوبه الفنية، فلا يعيد- مثلا- التنويه بها، ولا يلتفت إليها، ولا يعيد نشرها على صفحته في الفيسبوك، ومن يراجع تلك الصفحة لا يجد فيها الدارس إلا ذلك الوجه الإبداعي الساطع الخالي من الانتقاد. ربما يكون ذلك من حقه، لكنه بالتأكيد يعطي لنفسه صورة متضخمة- مع أنها منقوصة- لأنها لا تبين صورته “الحقيقية” في عيون النقّاد، رافضا الإذعان لهذه السلطة إلا إذا تماهت مع ما يشبع غروره الإبداعي.
ويبرز في العصر الحديث مثال مختلف للناقد الذي وقع بين تجاذبين مهمين، وقوعه تحت سلطة الآخرين، ووقوع آخرين تحت هيمنته وتأثيره، ولعل أهم شخصية نقديّة في هذا الجانب هو المفكر والناقد إدورد سعيد، فقد كان للكاتب الإنجليزي جوزيف كونراد تأثير كبير فيه، بحيث لاحقه هذا التأثير منذ كتب أطروحته فيه وحتّى آخر كتبه “عن الأسلوب المتأخّر: موسيقى وأدب ضدّ التيّار”، ويتتبع تلميذ سعيد تمبي برنن هذا التأثير على طول كتاب “أماكن الفكر”.
لقد استولى كونراد على سعيد استيلاء كبيرا، حتّى عندما أراد أن يكتب رواية، لم يستطع التخلص من كونراد وهيمنته. هذه الهيمنة التي وقع تحتها إدورد سعيد لم تجعله يكمل مشروعه الروائي، بعد محاولتين جادتين، لكنه بالمقابل استطاع أن يشكل مثيلا لتلك السلطة، وهو ينقد الآخرين وينتقدهم في مقالاته ومشاركاته التلفزيونية والصحفية، وفي كتبه كذلك، خاصة كتب: الاستشراق، وتغطية الإسلام، والقضية الفلسطينية.
لقد شكل سعيد حالة لافتة في قوة الناقد وسيطرته، فصار له حضور في الإعلام وفي الصحف وفي المؤلفات، ومن الغريب أن سعيداً كان يؤكد حضوره حتّى عندما يُمنع من نشر مقالة أو دراسة في صحيفة ما.
كان لأفكاره سحر، إما أن يصيب المتلقي بالنشوة، وإما أن يجعله يتحفز ليشعل حرب ردود عليه، وقد تعرض لمحاولات مضايقة، وتظاهُر طلاب الجامعة ضده، وربما التفكير بتصفيته جسدياً. كما تم التحقيق معه أمْنياً بناء على كتاباته النقديّة، لقد تفوقت سلطة الناقد في حالة سعيد هذه على السلطة الحاكمة وأجهزتها المسيطرة، ربما لأول مرة في تاريخ النقد، وأجبرتها على أن تخضع لسلطته النقديّة، تتبعه، وتحصي ما يقول، وتحلل، وتبني آراءها، والمرجع في كل ذلك سلطة الناقد التي كونها إدورد سعيد.
من أين جاءت قوة سعيد وسلطته النقديّة؟ لا أعتقد أن قوة سعيد النقديّة متولدة من كونه ينتقد الغرب، وسياساته وبعضا من أفكاره وأدبه وثقافته، فكثيرون يفعلون ذلك، ولا يُلتفتُ إلى ما يقولون، بل لأن “سعيد” كان يتغلغل في العقلية الغربية ويفضح ما بنيت عليه من أفكار غائرة في اللاوعي، لاسيما العنصرية المقيتة، ومخالفة مبادئ حقوق الإنسان وأسس الديمقراطية الغربية.
كما أن في أفكاره النقديّة تقويضاً لأسس حضارة كاملة تعيش على دماء الآخرين وخيراتهم، لقد أكد إدورد سعيد ما كانت تدعيه الاشتراكية، فبدا اشتراكيا في مجتمع رأسمالي، على الرغم من أنه ينفي عن نفسه هذه التهمة، وينفيها تلميذه (برنن) كذلك في كتاب “أماكن الفكر”.
ربما ما عزز من سلطة سعيد النقديّة أنه كان عقلانيا، ويتمتع بصداقة كتّاب ومؤلفين وموسيقيين وسياسيين يهود وغربيين، ليبراليين وشيوعيين، ومن يتتبع هذه المسألة في كتاب (برنن) سيرى عددا لا بأس به من هذه الشخصيات التي كان لها تأثير قوي في حياته وعلى نظرته للأمور، لقد منحته هذه الصداقات اختبار الآخرين عن قرب، وفهمهم بشكل أعمق، فقد كان سعيد يقرأ الأفكار أيضا خلال علاقاته الممتدة مع هذه النخبة المثقفة، ويبني سلطة نقديّة مطلقة.
يحرص النقّاد- كما كان سعيد أيضاً- على ألا يكرر أحدهم الآخرين، ويتجنبون قراءة الكتب التي قرأها غيرهم، وإذا ما تناولوها بالنقد والتحليل نادرا ما أشاروا إلى جهود من سبقوهم من النقّاد إلا ليعارضوها ويقوّضوها، لأنهم لا يريدون تأسيس سلطتهم النقديّة على سلطة نقديّة سابقة، أو أن يُشركوا معهم غيرهم في هذه السلطة، لأنهم يريدونها سلطة مطلقة ونهائية وباتّة، فيبتعدون عما تحدّث عنه غيرهم، ليبنوا سلطتهم الخاصة بهم وهم يكتبون قراءتهم للعمل الفني.
لعل هذا واضح في عمل النقّاد الذين يتوخون الحفر في مناطق لم يلتفت إليها الآخرون، فصارت كتب النقد الناتجة عن وعي نقديّ حقيقي مختلفاً بعضها عن بعض بالضرورة، وتشكل كل دراسة أو مقالة حالة نقديّة لها وزنها الخاص، تبعا لقوة الناقد وتأثيره، وهيمنته في المجتمع الثقافي الذي يتحرك فيه إنتاجه النقديّ.
ربما- من أجل هذا، وفي هذه المسألة تحديداً- يُعلّم النقد النقّاد الأنانية نوعا ما؛ فهم يعتزون بآرائهم، يكتبونها ولا يلتفتون لمن يغضب ولمن يفرح، كما فعل ابن الحضرمي وإدورد سعيد، وهذا لا ينفي من زاوية أخرى ديمقراطية النقد والنقّاد، إنما هم في العادة يكتبون ليعلنوا عن هذه السلطة، ربما دخلوا في صراع صامت بين بعضهم البعض، ليعزز كل واحد منهم حضوره وحده.
ولا تظهر جهود النقّاد الآخرين- خارج نطاق الرد والنقض- إلا في الدراسات المحكمة، يجبرهم عليها (برتوكول) الدراسة المحكمة، وليس رغبة منهم في الإشارة إلى غيرهم، إن هذا لا يعني بالمطلق انعدام المسؤولية الأخلاقية لدى النقّاد، فمسؤوليتهم هذه تبدو في موضوعيتهم وهم يؤسسون لأنفسهم نهجاً خاصاً مميزاً.
أظن- بعد كل ما سبق- أن النقد الجيد نقد سلطوي ومهيمن، ويدفع الكتّاب إلى أن يراجعوا أنفسهم. إن النقد سيدفع الكتّاب عند التقدم في العمر أو في التجربة، أو هما معاً، شرط أن يصبحوا أكثر نضجاً، وغير خاضعين لشهوة الشهرة والأضواء الساطعة- سيدفعهم ذلك إلى الاعتراف بسلطة الناقد وتأثيره عليهم، وأنهم في مرحلة ما من مراحل حياتهم كانوا هُوجاً، وعُوجاً.
وسيروْن أن النقد كان دافعا قويا ليكونوا أجمل وأقوى، أما الكاتب الرديء الذي شبّ رديئا وشاب على ما شبّ عليه من الرداءة، لن ينفع فيه النقد مهما كانت سلطته قوية، بل إنه سيمارس أساليب التشهير والحطّ مما كُتب عنه، وسيلجأ إلى محاولة تجريد الناقد من أدواته وقدراته.
هذا النوع من الكتّاب لا أمل فيه، فهو لن يتطور ألبته، بل إن الزمان تجاوزه، ولن يكون بمقدوره أن يخلق نفسه من جديد، لقد استقرّ على أن يكون رديئا، ولن ينتج غير الرداءة والتكرار، وهم كثر، ويزدادون استفحالاً، لأنهم جمعوا من حولهم جوقة من الكَتبة الذين يوهمونهم أنهم يكتبون نقداً، فينفخونهم كما يُنفخ البالون، هذا البالون الذي يتلاشى عندما تتعرض تلك الأعمال لتلك العمليات النقديّة الموضوعية، وإذ بكل الذي كُتب لا يمثل شيئاً ولا يفيد كاتبه مثقال حبة من خردل.
ربما هذه الظاهرة هي الخطر الحقيقي الذي يواجه سلطة الناقد، فلا يقوضها إلا تلك “الأعراس النقديّة” الاحتفالية التي يهرف بها المدعون بما لا يعرفون، فيكونون وبالا على الكتابة والكتاب، وعلى النقّاد أيضاً، وإذا ما تم تجريد الناقد من سلطته الإبداعية المؤسسة على الخبرة العميقة والمعرفة سيختلط حابل الأدب بنابله، وستصبح مهمة القارئ عصية، فأي كتاب سيختار لينمّي به فكره ومشاعره؟ إن في سقوط “سلطة الناقد” تقويض لسلطة المبدع أساساً، ليتساوى الكاتب المجتهد المبدع مع الكاتب الذي يخبط في عشواء الأفكار والأسلوب، ليضيع كل ما هو قيّم ومفيد في حمأة الرداءة الكثيفة القاتلة.
لعل في النفي المتعمّد للناقد كليا من المشهد الكلي للثقافة المحيط بكاتب ما، يصل الناقد إلى أعلى درجات سلطته وهيمنته، فهذا النفي دليل الوجود حتماً، فمن عمل على التخلص من الناقد ونقده، ولم يعترف به، ولم يسع إلى محاورته، يكون الناقد قد أصاب عمل الكاتب في مقتل، وجعله مشلولا لا يدري ماذا يعمل سوى النفي الكلي من مشهديته الخاصة في الحضور، وفي الكتابة، وفي التفاعل أيضا، أظن أن الكاتب في هذه الحالة سيظل يعاني من “فوبيا النقد”، ولن يكون بمقدوره إنتاج نصّ جيد إلا إذا تطور وعيه، وتصالح مع إمكانية انتقاده وبيان عيوب كتابته،
ولنتذكر جميعا أنّ “مَنْ نشر عرّض نفسه للنقد”، ولن يستطيع أحدنا أن يكتب قرآنا مهما أوتي من بلاغةٍ وقوةِ عبارة، ولذلك كل المبدعين واقعين- شاءوا أم أبوا- تحت سلطة الناقد التي لا تتسامح ولا تعرف الحلول الوسط.
ولأن النقد يشغل هذه المساحة من التفكير الإبداعي، كان لا بد من أن يتمتع بالسلطة بتجلياتها كافة، سواء أكانت سلبية أم إيجابية، وبذلك تكتسب العمليات النقديّة على اختلافها أهميتها التي لا غنى عنها، مهما اتسعت النظريات الإبداعية والنقديّة ونظريات التلقي، سيظل النقد صاحب هذه السلطة التي يخشاها المبدع الحقيقي،
لكنه أيضا يسعى بحكم عملها الرقابي الفني إلى أن يجوّد عمله، طامحاً أن يفاجئ الناقد الخبير، والقارئ المتذوّق سواء بسواء، فكما تدغدغه آراء القراء العاديين والإقبال على كتبه وشرائها ومناقشتها في المحافل، إلا أنه أكثر نشوة وزهوا إذا ما كتب ناقد متبصّر نقدا فيما يكتب وإن كان في بعض منه في غير صالح العمل، وكأن لسان حاله يقول كما قال الشاعر ابن الدمينة الخثعميّ: “لَئِنْ ساءَني أَن نِلتِني بِمَسَاءِةٍ لَقَد سَرَّنى أَنّي خَطَرتُ ببالِكِ“.