تنبعث على امتداد الأسئلة تعليقات وآراء تتسم في غالبتها تقريبا بالايجابية فيما يهم المسار المدني والأدبي للروائي. يبدو بدهيا على الرغم من السخرية التي تقابل بها أطروحة موت الأيديولوجيات ونهاية التاريخ، أن أي عمل أدبي يحتفظ بصلات وطيدة بالسياسة والتاربخ والمجتمع الذي يوجد فيه، سواء من خلال ما يتضمنه من خطاب أو من خلال البياضات أو مساحات الصمت التي تتخلله.
وتوجد هذه الصلة التي أعتبرها طبيعية دائما عند محفوظ في مستوى رفيع. وسوف تظهر بالفعل وابتداء من عام 1994 أبحاث ودراسات قيمة حول هذا الموضوع وتحديدا قبيل الحادث الذي كان عرضة له.
أصدرت سامية محرز الأستاذة في الجامعة الأمريكية في القاهرة كتابها «الكتاب المصريون بين التاريخ والتخييل» ويتضمن ستة أبحاث تناولت بالدرس نجيب محفوظ وصنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني. وفي الوقت الذي كان فيه الكاتب موجودا في المستشفى نشر الناقد غالي شكري في جريدة «الحياة» مقالا طويلا بعنوان «المشروع السياسي لنجيب محفوظ».
يدافع غالي شكري عن الفكرة التي مؤداها أن مشروع محفوظ قد تماهى روحا وعقلا منذ مشاركاته الأولى في ثلاثينيات القرن الماضي في «المجلة الجديدة» بالنزعة الوطنية الليبرالية لحزب الوفد، الذي أسس عقب ثورة 1919. وقد تمحورت مبادئه الأساس حول أفكار التقدم والعلمانية والاستقلال الوطني والدستور والديمقراطية البرلمانية والمساواة بين المواطنين والعدالة الاجتماعية.
ويبين التحليل الذي أنجزته سامية محرز لرواية «يوم قتل الزعيم» 1985، أن هذه المبادئ حافظت على وجودها إلى حدود الطور الأخير في حياة نجيب محفوظ. كان لهذه الرواية صدى باهت حين ظهورها في أوساط النقاد العرب والغربيين على الرغم من ترجمتها عام 1989إلى الفرنسية والإنكليزية.
تم الاحتفاء داخل مصر من لدن الصحافة وضدا على هذا الاستقبال البارد بالرواية بوصفها تعبيرا عن سياسة الانفتاح التي اتبعها أنور السادات، وبالنسبة لمحرز فإن الرواية تعبر بداهة عما مؤداه أن الأمر يتعلق بإعادة كتابة للحظة تاريخية محددة، وإن كانت هذه المراجعة تمثل نقيضا لبعض المواقف العامة التي التزم بها محفوظ، خصوصا ما يتعلق بمساندته لاتفاقية السلام مع إسرائيل.
يمكننا أن نعترض أن الكاتب انتظر أربع سنوات بعد الاغتيال، أو ما أصبح يعرف بحادثة المنصة كي يعبر عن موقفه من السادات. وليست هذه المرة الأولى التي يلتزم فيها محفوظ بهذه الاستراتيجية الحذرة. وما كان يفتنه أكثر يتمثل في أن يكتب عن مصر والقاهرة، وأن يكتب داخل هذه المدينة وينشر أعماله فيها.
وقد أدى به ذلك إلى التضحية باعتبارات ومعطيات ثقافية ومدنية أخرى. لم يكن هذا الحذر المتأمل والتسامح الذي أفصح عنه باستمرار حيال الإدانة الدينية لرواية «أولاد حارتنا» ذا جدوى أو نفع حين حمت الحقيقة وانتهت بطعنة السكين التي كادت ان تختصر حياته قبل اثنتي عشرة سنة.
يعمد محفوظ في «يوم قتل الزعيم» إلى بناء «تخييل» يمثل في الآن نفسه سردا أدبيا ويوميات تاريخية تعبر عن الآثار السلبية لسياسة الانفتاح على الأسرة والمجتمع المصريين، من خلال آراء ثلاث شخصيات تمثل الطبقة الوسطى.
يعمد محفوظ في «يوم قتل الزعيم» إلى بناء «تخييل» يمثل في الآن نفسه سردا أدبيا ويوميات تاريخية تعبر عن الآثار السلبية لسياسة الانفتاح على الأسرة والمجتمع المصريين، من خلال آراء ثلاث شخصيات تمثل الطبقة الوسطى.
يجري من بداية الرواية إلى نهايتها، مقارنة هذا الانفتاح الاقتصادي الذي ترعاه وتشرف عليه الولايات المتحدة بالمراحل السابقة. ورغم الاختلاف في الأجيال والتجارب بين أبطال هذه الرواية، فإن مرحلة الانفتاح تمثل الأكثر فظاعة وكارثية بالنسبة للجميع.
تسوق محرز في سياق استعادتها للخيط الناظم لمشروع محفوظ مقطعا دالا من الرواية يشكل من جهة تبنيا لثورة 1919 التي كانت بورجوازية ليبرالية ودستورية وتفكيرا من جهة أخرى في الحاجة إلى بلورة سرد مضاد: يتحدثون عن الثورة بلا معرفة. لم يسمعوا عنها. حكى لهم الراوي المأجور حكاية زائفة كاذبة.
يبدأ المدرس المغلوب على أمره درسه بالسؤال الخائن: لماذا فشلت ثورة 1919؟ يوم قتل الزعيم.
يحطم نجيب محفوظ هنا الحدود الفاصلة بين تاريخ المؤرخين والحكي التخييلي للسارد. يروي كل منهما حكايات؛ لكن ما يتميز به السارد في النصوص التخييلية يتمثل في روايته لأكاذيب مناقضة لأكاذيب السلطة. لقد سعى نجيب محفوظ من خلال هذه السطور المتضمنة في عمل تخييلي إلى تقديم تعريف جديد لدور ووظيفة الأدب بوصفه خطابا بديلا للسلطة.
حصلت ابتداء من يوليو/تموز عام 1995على إذن باجراء حوار قصير معه في منزله في الدقي. وقد توصلت بهذا الاذن من لدن مركزين للسلطة لا مندوحة عنهما، أقصد اطباءه والجامعة الأمريكية في القاهرة التي تشرف على حقوق نشر كتبه. انشرحت حين رؤيته ولاستعادته حيويته. وقد تمكن من استعادة صوته والقدرة على تحريك ذراعه، وإن كان ما يفتأ يجد عسرا في الإمساك بالقلم بين أنامله.
تحدثنا عن آخر كتبه المنشورة عام 1989. رواية «قشتمر» وهو أقدم مقهى في القاهرة و»الفجر الكاذب» وهي مجموعة قصصية. كانت «قشتمر» حين حصولي على جائزة نوبل تنشر مسلسلة في يومية «الأهرام». وقد نشرت أغلب النصوص القصصية في السنة السابقة أقصد ما بين 1987 و1988.
وأعتقد أن هذه النصوص القصصية هي من أفضل ما كتبت. وأعتقد في الآن نفسه أن الرواية ليست من أفضل ما كتبت. وقد نشرت «الأهرام» خلال الشهور الثلاثة التي سبقت إجراء هذا الحوار، النص الذي سوف يشكل آخر ما كتبه وهو «أصداء السيرة الذاتية». لا يتعلق الأمر على وجه التحديد بسيرة ذاتية، وإنما بسلسلة فقرات معنونة وإن كان من غير المقدور اعتبارها فصولا.
وهي تراوح بين السرد الغنائي والتأمل. وبفضل اتفاق مع الجامعة الأمريكية تم إصدارها عام 1997 في صيغة كتاب وبطبعة إنكليزية عن دار جونسون دافيس، وبمقدمة كتبتها نادين غوردينر. وسينشر هذا العمل لاحقا في أصله العربي.
وحين سألته عن الأسباب التي حملته على عدم اتخاذ القرار بنشر النصوص المنشورة مسلسلة في «الاهرام» في شكل كتاب، فإنه تهرب من الجواب بشكل مباشر واكتفى بالقول: لانني كنت ما أفتا خاضعا للعلاج ولم تكن لي أي رغبة.
الرغبة تملكتني في توثيق الرجل النحيل ذي العظام البارزة والهيئة الرقيقة والهشة، وطريقته في الكلام والحركة التي حافظت باستمرار على رقة وحيوية مثيرين للدهشة رغم فقد البصر والصمم والذراع المطعونة. كان نجيب محفوظ في حقيقة الأمر أروع شخوص وأبطال رواياته.
منذ تلك اللحظة وإلى حدود وفاته، كان يكتب أو يملي فقط زاويته في «الأهرام»: أكتب المقالات بشكل مغاير. أكتفي بالإملاء فيما يتكفل ًمحمد سلماوي بالصياغة في شكل حوار؛ لأنني عاجز عن الكتابة. وقد أجاب عن سؤال آخر طرحته عليه إن أفضل ما كتبه في الطور الأخير من حياته يتمثل في «الحرافيش» وهي عبارة عن ملحمة تتحدث في ما يبدو عن كل الإنسانية وليس عن عائلة أو جماعة من الأفراد و»ألف ليلة وليلة» 1982 التي كتبتها في واحدة من أفضل مراحل حياتي وحيث تتقاطع الحداثة مع التقليد والواقع مع الأسطورة.
افترقنا على هذه الكلمات الودودة الذي اعتاد إلقاءها كي يمد جسورا بينه وبين محاوريه من الأجانب تخصيصا. قال بمكره المعهود المشفوع بابتسامة رقيقة: نحن مدينون بالكثير لاسبانيا منذ سانشو بانشا وليس دون كيخوته.
التقيته من جديد في يناير/كانون الثاني من عام 1996 في منزله. وكنت مصحوبا هذه المرة بوزيرة الثقافة الاسبانية آنذاك كارمن البورش، التي كانت ترغب في التعرف إليه ودعوته إلى الدورة السابعة عشرة لمهرجان بلنسية السينمائي تقديرا لعمله، بوصفه كاتب سيناريو والاقتباسات السينمائية لرواياته.
وقد قبل الدعوة في حال من الامتنان والحبور. بيد ان حالته الصحية كانت تمنعه من الحضور. كلفت بإجراء حوار معه سوف ينشر في مجلة «ميطيماس» السينمائية التي تصدر في بلنسية وذات الصلة الوطيدة بالمهرجان. كان هذا الحوار أطول وتحدثنا في سياقه عن صلاته بالسينما والاقتباسات المنجزة لرواياته: لم يشكل أي منها خيانة لاعمالي واستشرفت جميعها مستوى تعبيريا رفيعا.
وكل السيناريوهات التي كتبتها كانت اقتباسا لأعمال كتاب آخرين. ومنذ ان شجعه صديقه المخرج صلاح أبو سيف عام 1947على التعاون معه، فقد كتب خمسا وعشرين سيناريو للسينما المصرية، وكان آخرها عام 1983. وبدا أن ذكريات أفلامه الوطنية والأجنبية متجذرة في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الفارط. ويعزى السبب على ما يبدو إلى العمى التدريجي الذي ألم به: توقفت منذ سنوات عن مشاهدة الأفلام بسبب استفحال فقدان البصر.
وحين أرغب في الحصول على معلومات أوفر عن راهن السينما المصرية، فإنني أسأل أصدقائي من المخرجين السينمائيين المعروفين. كان قد احتفظ بحالة رضا مسبق وتجربة ثرية وحيوية من الأشكال المتعددة والمختلفة لتعاونه مع عالم السينما: كان تأثير السينما على الأذواق وأنماط السلوك والوضعيات والمواقف شاملا وقويا، إلى درجة يمكننا أن نصف فيها القرن العشرين بأنه قرن السينما.
لبثت في القاهرة سنة بكاملها دون أن تتاح لي فيها رؤيته من جديد. هكذا إذن وبمعزل عن الامتنان الذي أحسه حيال الكاتب الكبير، فإن الرغبة تملكتني في توثيق الرجل النحيل ذي العظام البارزة والهيئة الرقيقة والهشة، وطريقته في الكلام والحركة التي حافظت باستمرار على رقة وحيوية مثيرين للدهشة رغم فقد البصر والصمم والذراع المطعونة. كان نجيب محفوظ في حقيقة الأمر أروع شخوص وأبطال رواياته.
نقلا عن : القدس العربي