نقد

إبراهيم الخطيب: المدرسة المغربية

 

مَن مِن النقاد العرب المعاصرين الذين اهتموا بنقد الرواية، لا يستشهد بأحد أعلام الشكلانيين الروس؟ ومن منهم أيضا لا يعتمد على بروب في تحليل السرد الشعبي وغيره؟ ومن منهم، أيضا وأيضا، لم يتعامل مع رولان بارث؟ ومن منهم لم ينطل عليه سحر بورخيس؟ لو لم يكن إبراهيم الخطيب لما أمكننا التعرف على هؤلاء الأعلام، المتميزين في مجالاتهم الخاصة، أو لتأخر اطلاع القارئ بالعربية على أعمالهم إلى زمن غــير الذي قدم فيه ترجماته المتميزة.

منذ بداية الثمانينيات انطلق الخطيب مدشنا حقلا جديدا من ترجمة الدراسات النقدية الرائدة، التي سيكون لها تأثير في النقد العربي خلال المرحلة «البنيوية». ترجم نصوص الشكلانيين الروس سنة 1982، و»نقد وحقيقة» لبارث سنة 1985، و»مورفولوجيا الحكاية الخرافية» لفلاديمير بروب (1986)، و»المرايا والمتاهات» لبورخيس (1987)، و»الدنو من المعتصم» لبورخيس أيضا، سنة 1992.

إنه من الأوائل الذي فتحوا أعينهم على التحول العميق الذي عرفته الدراسة الأدبية الغربية عامة، والفرنسية بصفة خاصة منذ الستينيات. في سنة 1981 كنت ألتقي بين الفينة والأخرى مع القاص محمد عزيز المصباحي، في الدار البيضاء للتحضير لشهادة استكمال الدروس في بيته، فأخرج لي مرة أوراقا من تقييداته، عندما كان في المدرسة العليا للأساتذة، وأطلعني عليها، فإذا هي دروس إبراهيم الخطيب، تتضمن معلومات عن النقد الجديد، وعن بارث، وتودوروف وغيرهما. وليس لذلك من معنى سوى أنه كان خلال فترة السبعينيات عندما كان النقد العربي منشغلا بالأيديولوجيا، كان هو مهتما برصد ما يطرأ في الساحة الفرنسية، من تجديد للبحث الأدبي والعلوم الإنسانية.

ريادة إبراهيم الخطيب في مجال الترجمة والدراسات النقدية، التي تنفتح على الجديد والعميق في الوقت نفسه، تكشف عن قارئ متميز، ومتابع جيد لما يطبع من كتب، سواء بالفرنسية أو الإسبانية أو الإنكليزية في مجال الإبداع والدراسة الأدبية. لقد مكنته معرفته بهذه اللغات من التعرف على ما يتحرك في هذه الفضاءات الثقافية، وما يطرأ عليها من تفاعل وتكامل وتقاطع. فكان ينتقي منها ما يراه محفزا على تفكير جديد في الثقافة العربية. يبدو لنا ذلك بجلاء في اختياراته لنصوص الشكلانيين الروس منذ مطلع الثمانينيات.

لقد ساهمت ترجمة تودوروف لنصوص الشكلانيين الروس إلى الفرنسية تحت عنوان دال «نظرية الأدب» سنة 1965، في تأكيد أثرهم في التحول العام الذي عرفته الدراسة الأدبية الغربية، وإعلانا لبداية حقيقية لوعي جديد بالأدب، وهو ما يتكرس مع كتاب بروب حول مورفولوجيا الحكاية العجيبة.

تتأكد لنا ريادة إبراهيم الخطيب في التفاعل مع الثقافة الأجنبية عن طريق الترجمة، في كونه فتح المجال واسعا أمام ما يمكن تسميته بالمدرسة المغربية، التي ساهمت إلى جانب المدرسة التونسية والمشرقية في إثراء التواصل مع ما ينتج في العالم.

نجد الشيء نفسه في اهتمامه بكتاب بارث «نقد وحقيقة» (1966) الذي يعتبر تدشينا لحقبة جديدة في الدرس الأدبي، إلى حد اعتباره بمثابة «بيان جديد» للنقد الجديد، عبر وضعه حدا للنقد التقليدي من خلال مساجلته مع ريمون بيكار. وفي مجال الإبداع يبدو إقدامه على ترجمة بورخيس، تأكيدا للوعي نفسه بأهمية نصوصه وخصوصيتها. ويمكننا قول الشيء نفسه عن مقالاته التي كان يسهم بها، سواء في الملاحق الثقافية المغربية، أو المجلات العربية، حيث كانت قراءاته استكشافية لكتاب طليعيين، وباحثين متمرسين ومجددين.

ولعل الإقدام على طبع مختلف كتاباته المتفرقة ضرورة مستعجلة لتعريف الأجيال الجديدة بمجهوداته وعطاءاته المتميزة.

تتأكد لنا ريادة إبراهيم الخطيب في التفاعل مع الثقافة الأجنبية عن طريق الترجمة، في كونه فتح المجال واسعا أمام ما يمكن تسميته بالمدرسة المغربية، التي ساهمت إلى جانب المدرسة التونسية والمشرقية في إثراء التواصل مع ما ينتج في العالم، ولا سيما في مضمار ترجمة الدراسات الأدبية. إن انتقاء ما يترجم، وطريقة تقديمه عبر التوثيق، والضبط، واعتماد الهوامش المصاحبة من لدن المترجم، من أهم ما تتميز به الترجمات المغربية والتونسية، مقارنة مع نظيرتها المشرقية، على وجه عام، التي يغيب فيها، أحيانا، حتى ذكر عنوان الكتاب المترجم باللغة الأجنبية.

لقد ساهم النقاد ودارسو الأدب واللسانيات في المغرب في الترجمة وعياً منهم بأهمية ما يترجم، وكان لذلك أثره في تطوير الدراسات المغربية. إن المعرفة بالحقل المعرفي، وإدراك ما يتصل به من خلفيات ثقافية، ومرام فكرية، يمكّن من ملامسة مميزات ما يترجم وفهمه بشكل جيد، لذلك نكاد نجد شبه تخصص في الأعمال التي يقدمون عليها.

هل أذكر في هذا السياق محمد برادة وعلاقته بباختين، أو محمد البكري الذي اعتنى بترجمة بارث في مبادئ علم الأدلة، أو «س/ ز»، أو علاقة مصطفى المسناوي بلوسيان غولدمان، أو محمد معتصم، وهو ينبري لترجمة «خطاب الحكاية» لجيرار جينيت، وخطاب الحكاية الجديد، إضافة إلى ترجماته الأخرى، أو رشيد بنحدو وترجماته لمقالات وكتب في نقد الرواية، وهو الناقد الروائي. هذه الأمثلة لا تغطي كل ما ترجم في المغرب في مضماري النقد والإبداع. وكلها تؤكد أننا أمام مدرسة مغربية للترجمة الأدبية.

إلى أين تتجه هذه المدرسة؟ وأين هي امتداداتها في وقت تطورت فيه الدراسات؟ ولم تبق فيه الريادة للغة الفرنسية؟ إعادة طبع الترجمات القديمة ومناقشتها تطوير لمجهودات نعتمد عليها، ولا نعترف بهاǃ

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى