نقد

هارولد بلوم: كيف نقرأ ولماذا ؟

 

في رسالة إلى صديق الطفولة وزميل الدراسة، الناقد والمؤرّخ التشيكي أوسكار بولّاك (1883 – 1915)، يتساءل فرانز كافكا عما يجعل كتابًا جديرًا بالقراءة؟ يجيبُ كافكا بعبارة، تحوَّلت فيما بعد إلى أيقونة تصدّرت أغلب أدبيات القرن العشرين، تقول: “..أعتقد أنه يجب علينا فقط قراءة الكتب التي تُـدمـيـنا بل وتغرِس خناجرها فينا، وإذا كان الكتاب الذي نقرأ لا يوقظنا من غفلتنا فلماذا إذن نقرأه أساسًا؟”، نتكلّم هنا عن سنة 1904.

بعدها بمئة سنة تقريبًا، وتحديدًا سنة 2000، وضع الناقد الأمريكي، وأستاذ الأدب الإنجليزي والدراسات الإنسانية المرموق بـ “جامعة ييل”، هارولد بلوم (1930- )، كتابًا بعنوان “كيف نقرأ ولماذا؟”، نقله المترجم المصري نسيم مجلّي إلى العربية (المركز القومي للترجمة 2010) مُجيبًا عن سؤال كافكا في كتابٍ وافر المادة، خصب المعلومات، يستعرض فيه نماذج مِن نصوص أدبية شكّلَت علامةً فارقة في تاريخ الأدب الحديث.

يمدح بلوم كافكا قائلًا: “..أعتقد أنّ كافكا بلغ حدًا رائعًا في البحث عن الكتاب”، مُشيرًا بذلك إلى الكتابَ الذي ينهال على أرواحنا كالحظّ العاثر، فيضغطُ علينا ويؤثّر فينا بعمقٍ، مثل مطرقة تكسر الجليد المتجمّد فينا.

يضطلع بلوم في هذا الكتاب بمهمّة مسّاح جغرافي، وهي وظيفة كا في رواية كافكا “القصر”، حيث يقوم بمسحٍ شامل لكلاسيكيات الأدب الغربي، مُحلّلًا بعمق الناقد المخضرم، وبفضول القارئ النهِم، نصوصًا تأسيسية في الفكر الغربي. وعلى مدار الرحلة البانورامية، لا تفارقه روحُ الأستاذ الأكاديمي، المولـع بالتقسيم والتبويب، حيثّ يقسَّم فصولَ كتابه إلى “القصص القصيرة، مُتناولًا فيها أعمال تورجينيف وتشيخوف وموباسان، وهيمنجواي، وفلاديمير نابوكوف، وصولًا إلى التجديد الفنيّ والشكلي في كتابة القصّة على يد خورخي لويس بورخيس وإيتالو كالفينو. وفي معرض مناقشته لمختارات شخصية مِن القصص القصيرة، يذهب بلوم إلى أنّ ثمّة نمطيْن مِن القصّة الحديثة: نمطُ تشيخوف/هيمنجوي وآخر بورخيسي. هارولد بلوم، الأكاديمي المخضرم، لا يترك عقد الكتاب ينفرطُ مِن يديه. يعرف الرجل جيّدًا أنّه ليس بصدد تقديم دراسةً حول فنّ القصّة القصيرة وأجناسها، فلكل مقامٍ مقال، ومقام التنظير والبحث هو الجامعة وقاعة المحاضرات.

يعي بلوم أنّه يؤلف كتابًا اسمه “كيف نقرأ ولماذا؟”، وبالتالي فهو لا يدعو إلى المفاضلة بين نمطٍ وآخر، بل يؤكّد أننا- كقراءٍ في المقام الأول- نريد كلا النمطيْن لإشباع حاجات معيّنة، فالنمطُ الأول يشبعُ حاجة القارئ للواقع الحقيقي، والنمط الثاني، الذي يختلق حكاياتٍ مِن اللا شيء، يُعلَّـمُـنا كم نحن جائعون لما وراء الواقع المفترض. الخلاصة هي أننا نقرأ كي نشبعُ احتياجًا ما، فإنْ لم نجدَ الزاد المناسب لذلك، فالصيام أولَى. ينتقل بلوم بعدها إلى الشعر، منتقيًا مجموعة مِن نصوص كبار الشعراء: روبرت فروست، والاس ستيفنس، وت.س. إليوت، ووليم بتلر يتس، وكولريدج، ووليم بليك. ولماذا نقرأ الشعرَ إذن؟

بعد تحليل رصين لقصائد مختارة للشعراء السابقين، يقول بلوم إنَّ انتقاء الأشعار التي نقرؤها، هو في الأغلب وليدُ حاجة روحية، حاجةِ الخروج مِن رقدة الموت، أو الهروب مِن رتابة الحياة العادية وربما كآبتها في بعض الأوقات. قراءة الشعر تمثل الخروج إلى النهار. وبالتالي فقراءة الشعر طقس تطهرّي أقرب إلى طقوس “الشامان”. يضرب بلوم مثلًا بالشاعر الأمريكي الكبير والاس ستيفنس (1879- 1955)، الذي كان يرى في كتابة الشعر في أيامّه الأخيرة فرصةَ ليتغلّبَ على آلام السرطان الرهيبة التي قضتْ عليه. كانت كتابة الشعر وقرائته هنا صرخةً تتحدى الموت.

في القسم الثالث مِن الكتاب، ينتقل بلوم إلى الروايات. هارولد بلوم، الشكسبيري الهوى، يتخذً مِن “دون كيخوته” نقطة انطلاق أساسية، فهي أفضل وأجمل الرويات وفقًا لتعبيره، وهي الإنجيل الإسباني الجديد بحسب رؤية المفسّر الأكبر للكيخوته، الكاتب الإسباني ميخيل دي أونامونو، الذي قال أنَّ “دون كيخوته هو مـسـيحـنـا الحقيقي”. يلاحظ بلوم نشوب كثير مِن المشاجرات بين دون كيخوته وسانشو، لكنّهما يتصالحان في النهاية، ولم يخذل أحدهما الآخر في الحبّ والإخلاص والولاء، بينما- والكلام هنا لبلوم-، نلاحظ لدي شكسبير أنّ أغلب شخصياته المسرحية، مثلها مثل الحياة العادية، لديها صعوبة حقيقية في الاستماع للآخر، ونجد أنّ أنطونيو وكليوباترا لا ينصت أحدهما للآخر إطلاقًا.

لماذا نقرأ الكيخوته إذن؟ يقول بلوم لأن هناكَ جوانب داخل نفسكَ لن تعرِفها حق معرفتها إلا حين تتعرّفَ عن قربٍ إلى دون كيخوته وسانتشو. فدون كيخوته، كبطلٍ، لم يتوقّفْ عندَ حدّ الحُلْمِ، لقد أخضعَ دون كيخوته نفسه لفكرته، ولهذا استطاع أنْ يؤكدَ “أنا أعرف مَنْ أنا”، وهذا يعني أنا أعرف ما أريد أنْ أكونَ، لأن الرجال وحدهم يعرفون ويستطيعون. يعرّج بلوم بعدها على أدباء وكتّاب عِظام آخرين: ستندال، وجين أوستن، وديكنز، ودوستويفسكي، وهنري جيمس وصولًا إلى بروست وتوماس مان. يطرح بلوم عددًا مِن الأسئلة، هي في حدّ ذاتها إجابات. يتساءل بلوم: ما الذي نستفيده مِن القراءة، قراءة الروايات والقصص والشعر؟ أن نستمع لأنفسِنا؟ أن ننصِتَ للآخرين وأن نعرِفَ ما نريد على نموذج سرفانتس في دون كيخوته؟ الإجابة عند كل قارئ بطبيعة الحال.

هذا عن سؤال لماذا نقرأ؟ فماذا عن سؤال كيف نقرأ؟ يجيبُ بلوم عن سؤالٍ مفترضٍ لقارئ مفترض: كيف يمكن أن نقرأ رواية طويلة عظيمة؟ يستشهد بلوم بصمويل جونسون (القارئ الدؤوب الأعظم مِن وجهة نظره)، والذي كان شديد الإعجاب بروايةٍ معقّدة ومُرهقة مثل “كلاريسا” لصمويل ريتشاردسون، وهي رواية في طول “البحث عن الزمن المفقود” لبروست، يقول إنك إذا قرأتَ كلاريسا مِن أجل الحبكة، فستشنق نفسكَ حتمًا، وبالمثل أنتَ لا تقرأ دون كيخوته أو البحث عن الزمن المفقود مِن أجل الحبكة، بل مِن أجل مراقبة تطورّ الشخصيات، مِن أجل فهم بواعث تغيّر البشر بمرور الزمن، وبالطبع بهدف الكشف التدريجي عن رؤية المؤلّف، وبمرور الزمن يصير سانشو ودون كيخوته وسوان وألبرتين أعزّ أصدقائكَ، إلا أنّهم يحافظون على غموضهم، وهذا ما يدفعكَ لتعودَ إليهم.

هكذا تُقرَأ الروايات الصعبة والعظيمة؛ تُقرأ لتكوين صداقاتٍ مع شخصيات صعبة ومُركبّة. وفي فصلٍ آخر يعودُ بلوم إلى المسرح، فنّه الأثير، وإلى شكسبير الكاتب العظيم الذي طالما تغنّى بفلسفته. يطوف بلوم بمسرحيات لشكسبير وهنريك إبسن وأوسكار وايلد، واضعًا شكسبير في المقدمة عبر العصور. فهو المؤلّف المسرحي الأول والآخر، القادر على الحذف والإضمار، امبراطور فنّ إسقاط الأشياء وإهمالها، لتسيتقظَ في عقل القارئ/المتفرَّج. شكسبير هو “الساحـر” الذي يجعلنا نتساءل كيف فعلتَ ذلك أمام أعيينا ولم نلحظ الخُدعة؟ كيف استطعتَ فهم البشر ودواخلهم بهذا العُمق؟

يضع بلوم في الورقات الأخيرة مِن كتابه عبارةً تلخصّ صفحات الكتاب التي تربوعن الثلاثمائة في ترجمتها العربية. وظيفة الإنسان هي البحث عن الكتاب الذي يكتشفُ نفسَه فيه، هي البحثِ عن القصّة التي تحكيه، مُـتسائلًا التساؤل ذاته الذي طرحه أحد الحكماء القٌدماء: إذا لم أكن لنفسي، فمَنْ سيكون لي؟ المهمّة فردية محضة. اعرف نفسكَ.

صحيحٌ أنّ قارئ كتاب بلوم لن يخرجَ خالي الوفاض، ففصول الكتاب مُثقلة بعصارة تجربة حياةٍ كاملةٍ مع الكتب والأفكار، وتحليلات معمّقة لأجمل نصوص الأدب الغربي، ولكنَّ إذا كان الأمر هكذا، هل يتسع العُمر لقراءة كلّ شيء والإحاطة بكلّ شيء؟ نعرف أنَّ الكتب المتاحة والمُراد قراءتها لا نهاية لها، فما الحلّ إذن؟ وأين توجد الحكمة؟

يستشهد بلوم بمقولة لرالف إيمرسون وردت في كتاب المذكّرات:”..أنا أقرأ لكي أبحث عمّا يلمع، فأنتَ تقرأ في النصّ مِن أجل شيء يضيء أمامكَ، هذا الشيء الذي يضيئكَ أنتَ ويجعلكَ تشعر بأنكَّ استنرتَ. القراءة هي مسألة كينونة المرء ووجوده، مسألة ماذا تريدُ أن تكونَ.”

وكأنّ معرفة الإجابة عن السؤاليْن عنوان الكتاب، “كيف نقرأ ولماذا”، تقتضي بالضرورة معرفَة الإجابة عن السؤاليْن الأكثر أهميّة: كيف نعيشُ ولماذا؟ لأن معـرفة ما تودّ معرفته، تقودكَ إلى معرفة مغزى وجودِكَ.

يُنهى بلوم كتابه بعبارة بليغة: “..أما وأنني قد بلغتُ التاسعة والستّين، فإنّ الأسئلة المطروحة حول كيف نقرأ ولماذا هي أساسية الآن بدرجة أكبر مِن أي وقتٍ مضى في سبيل أي عمل ينبغي لنا أن نقومَ به.”


أحمد الزناتي : روائي وقاص من مصر. من رواياته “البساط الفيروزي: في ذكر ما جرى ليونس السمّان” 2017، و”ماضي” 2017.

 

 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى