نقد

معرض كانط شتراسه في برلين.. أسئلة العالم والمدن المفتوحة

يقام حاليًا في متحف فيلا أوبن هايم في حي شارلتون بورغ في برلين، معرض يستمر حتى 15 أيار/ مايو 2022. وليست المسألة التي نود الحديث عنها في هذه المادة هي المعرض فحسب، بل أيضًا موضوع المعرض والعلاقة بين الثقافة والناس، من حيث أن المعرض يشكل مدخلًا لتلك العلاقة الشائكة (بين الثقافة والناس) في العالم عمومًا وفي عالمنا العربي خصوصًا، وبما يشير إلى الدور الذي تلعبه الثقافة في عملية التغيير والحداثة وإن بشكل تدريجي وتراكمي وبطيء.



المعرض مخصص للاحتفاء بشارع يحمل اسم الفيلسوف الألماني وصاحب “نقد العقل المحض”، إيمانويل كانط. للوهلة الأولى، قد يتبادر إلى أذهاننا أنّ المعرّض مخصّص للفيلسوف الألماني وفلسفته، إلا أن الأمر خلاف ذلك إذ هو مخصص للاحتفاء بالشارع نفسه وبما يمثله، بعيدًا عن الحمولة الفلسفية لمن تسمّى الشارع باسمه. لكن لماذا هذا الشارع بالذات؟

من معرض كانط شتراسه 

يقع شارع كانط شتراسه في منتصف مدينة برلين، ويمتاز عن غيره من الشوارع باعتباره حيًّا كوزموبوليتيًا، حيث ترى وأنت تمشي في هذا الشارع الصيني والعربي واللاتيني والأميركي والأفريقي، اللاحم والنباتي، المثلي والغيري، اليهودي والمسلم والمسيحي، البوذي واللاديني والملحد، الأبيض والأسود والأسمر والأصفر…

ترى هؤلاء بلغاتهم المتعددة وسحنات وجوههم الملونة وثقافتهم ومطاعمهم ومحلاتهم التي تقدّم أصنافًا من الأطعمة ومشغولات من الثقافات التي أتوا منها كمهاجرين، بعضهم مهاجر حديث وبعضهم مهاجر منذ عقود طويلة، ما يجعل من هذا الشارع مختبرًا حيًا لصناعة هوية جديدة لا تتوقف عن النمو والتجدّد، فمع كل وافد جديد يضاف لون مختلف لهذه الهوية، ما يجعلها في غنى وتجدّد دائم، ليقدّم هذا الشارع في نهاية المطاف فكرة ممكنة عمّا من الممكن أن يكون عليه العالم لو سار قطاره على سكته السعيدة، بعيدًا عن سكك التعصب والعنصرية ورفض الآخر والانغلاق والتقوقع على الذات.

ومن هنا تأتي أهمية هذا المعرض، إذ يأتي ليحتفي بالشارع ويعزّز القيم الذي تمثله، ما يضعنا أمام ثقافة تتفاعل مع الناس والبشر حين تحكي عن شارعهم، مكانهم، مطعمهم المفضل، المقهى الذي يحبونه، المحل الذي يشترون منه الهدايا لأحبائهم، أي السعي لاستيلاد الثقافي المضمر من العادي والهامشي، سعي لرؤية الجمال والحب في أبسط تفاصيل الحياة وأسهلها، وسعي (من جهة أخرى) لربط الثقافة بما هو في متناول الناس دون أن يعني ذلك أن تتنازل الثقافة عن مقولاتها وطريقة تعبيرها.

بل تعبّر عن مقولاتها من موقعها هذا، وهو الذي تمثّل في المعرض من خلال النصوص واللوحات التشكيلية والصور والمشغولات اليدوية والمنحوتات والفيديو والتي قدّمت بطرق عرض مختلفة، سمعي بصري، جداريات قماشية، كلمات معروضة على شاشات ضوئية وأخرى مكتوبة على الجدران، صور قديمة للشارع تجاور أخرى حديثة له، الأمر الذي يعطينا فكرة أخرى عن كيفية توظيف التكنولوجيا والتطور التقني في خدمة الثقافة بدلا من أن تكون الأخيرة تابعة للأول، وبما يوّظف الثقافة في خدمة التغيير وصناعة المستقبل الجديد.


المعرض كان من تنظيم الروائية والكاتبة الألمانية أنيت كروشنر والنحاتة الألمانية آنا فيبر، وقد شارك فيه كل من الكتاب والفنانين جوي بايتسا ولويزا بريستوف ومحمد ديبو ودينس فوكس وأنيت كروشنر وفاليريا هايزينبيرك وشتيفاني كلوس وفيلهم كلوتسيك وكارل لودفيج لانج وإيفالينا لورتسا ووداد نبي وشي نجوين وروبرت شتادلوبا وفنسنت تافيني  وكوريني فاسموت وآنا فيبر وماركوس فيبا.

 نص محمد ديبو سماعيًا، ونص وداد نبي على شاشة عرض 

تقول الروائية الألمانية أنيت كروشنر لـ”ضفة ثالثة” عن كيفية ولادة الفكرة في ذهنها وشريكتها: “منذ فترة طويلة وأنا صديقة للنحاتة آنا فيبر. لقد ولدنا عام 1964، نشأت هي في الغرب وترعرعت أنا في شرق ألمانيا، لذلك نشأنا مع التقسيم، لكننا قريبين من بعضنا جدًا، فنحن نتشارك في حب مدينة برلين ولدى كلينا وجهة نظر مماثلة للمدينة.

نحب المدينة القاسية، مدينة التناقضات، مدينة الناس من مختلف الأصول والطبقات والأجناس، لكنهم يتسامحون مع بعضهم البعض ويعيشون معًا بسلام على الرغم من اختلافاتهم. في عام 2018، عندما كنا نعمل في جامعة الفنون معًا، قمنا بمشروع “كانط شتراسه” مع طلابنا، وتوصلنا حينها إلى فكرة تنظيم معرض أكبر.

وقد حدث الأمر هذا العام بمساعدة من مدير المتحف الإقليمي شارلوتنبورغ فيلمرسدورف، ولقد تمكنا الآن من جعله حقيقة واقعة، حيث طلبنا من الكتاب والممثلين والفنانين البصريين والمصورين من مختلف الأصول، والذين نقدر عملهم، المشاركة معنا في هذا العمل، والنتيجة هي سرد ​​متعدد الألحان لهذا الشارع المهم في غرب المدينة”.


وعما يعنيه هذا الشارع لها، تقول أنيت: “ما أحبه في هذا الشارع أنه يقع في غرب المدينة، ولكنه مفتوح على الشرق والغرب والشمال والجنوب. يمكنك العثور على المقهى الروسي بجوار المطعم الجورجي، ومطعم الوجبات الخفيفة الصيني بجوار متجر عمره 100 عام، ومتجر التصميم بجوار موقف سيارات قديم متعدد الطوابق، والمسرح المجاور للسجن…. هنا يمكن للجميع أن يكونوا كما يريدون ويرغبون”.

 أنيت كروشنر وآنا فيبر أثناء تقديم المعرض، ووداد نبي وأنيت كروشنر في المعرض 

يشكل شارع كانط شتراسه بالنسبة للقائمين على المعرض مثالًا للمدينة المفتوحة (والتعبير لعالم الاجتماع الأميركي ريتشارد سينيت)، لذا هم يطرحون في معرضهم سؤالًا كبيرًا: كيف يمكن أن تنجح المدينة المفتوحة؟ وهل يمثل هذا الشارع مثالًا لها؟ إنه سؤال بحجم مساحة العالم، سؤال رغم بساطته وبداهته، يعكس في طياته كل ما يؤرق عالمنا اليوم، إذ يكفي إطلالة سريعة على عناوين الأخبار اليوم (روسيا تقرع طبول الحرب في أوكرانيا، مأساة اللاجئين على الحدود البيلاروسية البولندية، كورونا وما فرضه من تحولات، الانسحاب الأميركي من أفغانستان وما خلفه من تداعيات، صعود اليمين…) لنفهم أهمية السؤال المطروح، إذ حقًا كيف يمكن أن نعمّم تجربة شارع كانط شتراسه على العالم، أوَليس هذا سؤال العالم اليوم؟

من جهة أخرى، يحيلنا هذا المعرض ليس إلى علاقة الثقافة بصناعة التغيير فحسب، بل إلى كيفية اقتراب الثقافة من الناس من جهة وإلى توسيع مفهوم الثقافة، ليشمل أبعد من “الاختصاصات الضيقة” التي لا نزال نجترها في عالمنا العربي، فالشارع يمكن أن يكون ثقافة، والبيت ثقافة والعمران ثقافة والطعام ثقافة…

الثقافة تكمن في العادي، في كيفية عيش الناس، وهي جاءت أو تكون لتساعد الناس على العيش بطريقة أفضل، لتفتح مسارات جديدة وآفاقا جديدة، وهذا لا يكون ما لم تقترب الثقافة من هموم الناس لتحول العادي والهامشي والمعاش اليومي إلى مادة فنية تطرح بدورها سؤالًا يلامس العالم بأسره، وهذا ما فعله هذا المعرض، إذ انطلق من المحلي (شارع كانط شتراسه) ليلامس همومًا عالمية ويضعها على نطاق البحث: حقًا هل من الممكن أن نصنع العالم المفتوح أو المدينة المفتوحة؟


ضفة ثالثة

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى