جابر عصفور.. بين طه حسين ونجيب محفوظ
عمل الراحل الدكتور جابر عصفور، على امتداد عقود زمنية من التفكير والكتابة والتأليف، على تشييد مشروعه النقدي المؤثر، عبر كل ما نشره من مقالات ودراسات، وما ألفه من كتب وأبحاث، منشغلًا فيها بأسئلة وقضايا ثقافية وفكرية ونقدية وإبداعية عديدة، من قبيل أسئلة: التراث والأصالة والحداثة والمعاصرة والتنوير والحرية والمدينة، والصورة ومفهوم الشعر، ومفهوم النقد والمرآة، والمثاقفة والترجمة، ومستقبل الثقافة، والوعي النقدي، والمنهج والزمن الإبداعي، وغيرها من الأسئلة والقضايا الأخرى.
فضلًا عن اشتغاله الموازي على أجناس أدبية وتعبيرية أخرى، يأتي على رأسها الشعر العربي، قديمه وحديثه، في مرحلة أولى، قبل أن يأخذه “زمن الرواية” إلى عوالمه المثيرة، وغيرهما من الأجناس الأدبية والانشغالات الأخرى، كالقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، ورواية السيرة الذاتية، والنقد الأدبي، ونقد النقد.
ومن بين المشاريع النقدية والأدبية الرائدة، الأكثر هيمنة وحضورًا في اهتمامات الدكتور عصفور النقدية، نشير إلى المشروع النقدي كما بلوره طه حسين، وإلى المشروع الروائي كما شيده نجيب محفوظ، على امتداد فترات زمنية من حضورهما وتأثيرهما، الأدبي والنقدي، في الدكتور جابر، وفي الأجيال المتعاقبة.
على هذا النحو، يبدو أن كلًّا من طه حسين ونجيب محفوظ، على وجه الخصوص، قد شغلا تفكير الدكتور عصفور، وبشكل لافت ومهيمن، في كتبه وأبحاثه ومقالاته وحواراته، بمثل ما شغلا أيضًا الحياة الثقافية العربية في مصر، وباقي البلدان العربية الأخرى، أكثر من غيرهما من الأدباء والنقاد العرب الآخرين، ممن تناول عصفور أعمالهم الإبداعية والنقدية، في انتمائهم إلى أزمنة متفاوتة، وإلى مدارس واتجاهات متنوعة، وأيضًا في انحدارهم من أجيال مختلفة.
فإذا كان عصفور قد خص طه حسين بكتاب هام، بعنوان “المرايا المتجاورة: دراسة في نقد طه حسين”، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، عام 2014، في كونه بحثًا يحاول، كما جاء في مقدمته: “التعرف على طبيعة الفكر النقدي عند طه حسين” (ص7)، فقد خصّ نجيب محفوظ كذلك بكتاب شامل بعنوان: “نجيب محفوظ: الرمز والقيمة”، الصادر في طبعته الأولى عن “جائزة القذافي العالمية للكتاب” (د.س.ط)، بمناسبة حصول الدكتور جابر على هذه الجائزة، بما هو كتاب عده شخصيًا بمثابة حفريات في “عالم نجيب محفوظ الروائي ونقاده على امتداد ربع القرن الأخير”.
ويعدنا عصفور، في مقدمة كتابه، بدراسة شاملة معمقة عن رؤية نجيب محفوظ للعالم، راجيًا، كما قال، أن يكون في العمر بقية لتحقيق هذا الحلم (ص18)، لكن يد المنون كانت أسبق من أي حلم..
يقول الدكتور جابر، محددًا بداية علاقته الأولى بطه حسين، ومستحضرًا قراءته الأولى لإبداعه: “عثرت وأنا في المرحلة الإعدادية على كتاب “الأيام” لطه حسين في مكتبة من مكتبات المحلة الكبرى، أغلب الظن أنها مكتبة “البلدية”.
وقد فتنت بهذا الكتاب فتنة باهرة، وظللت متعلقًا به منطويًا عليه، مكررًا قراءته مرات ومرات، حتى أني كدت أحفظ صفحات منه، وجعلته نبراسًا لحياتي في المرحلة الأولى منها، وكان سحر الكتاب دافعًا لي إلى أن أكون مثل طه حسين الذي كتب هذا الكلام البديع، وهذه السيرة الذاتية الساحرة، وهي السيرة التي لا أزال أظنها حددت مجرى حياتي، كما حكيت في كتابات أخرى عديدة” (“بوادئ الكتابة”، مجلة العربي، العدد 753 ـ 2020)*.
أما عن قراءة عصفور الأولى لـ”نجيب محفوظ”، وبداية كتابته عن أعماله، فيشير في مقالته “سيرة وعي ناقد أدبي”: “لا أزال أذكر أنني في المرحلة الثانوية كنت قارئًا نهمًا للأعمال الأدبية التي تشدني، وكان على رأسها أعمال نجيب محفوظ، التي دفعتني إلى أن أكتب عنها مقالات قصيرة في صحيفة الحائط التي كنا نكتبها في المدرسة الثانوية، بوصفها نوعًا من النشاط الثقافي”، ويضيف في حديث آخر، في المقالة نفسها: “أذكر أنه عندما طلب منا أستاذي عبد المحسن طه بدر كتابة بحث في الرواية العربية الحديثة، اخترت أن أكتب عن إحدى شخصيات “بداية ونهاية” لنجيب محفوظ، متابعًا ما فعله محمد مندور في كتابه “نماذج بشرية، 1944” (مجلة العربي، العدد 689 ـ 2016).
ومن بين ما يستشف من هذين الشاهدين هو أن علاقة عصفور بكتابات طه حسين الإبداعية (في المرحلة الإعدادية) تسبق علاقته بنصوص نجيب محفوظ (في المرحلة الثانوية). ومنذ تلك المرحلة، شكل كل من طه حسين، ونجيب محفوظ، قدوة نقدية، ومرجعًا إبداعيًا، لجابر عصفور، وهو ما مكنه من متابعة وإدراك جوانب وتفاصيل عديدة، وعن قرب، حول دينامية هذين المشروعين، على مستوى الإبداع الروائي عند نجيب محفوظ.
وأيضًا على مستوى الخطاب النقدي عند طه حسين، والمعارك الفكرية التي كانت قائمة آنذاك، كتلك التي كان يخوضها طه حسين مع الجيل الجديد في ذلك الزمان، فضلًا عن أشكال أخرى من الصدام، خاضها كتاب ونقاد آخرون في جبهات أخرى، لكنهم لم يكونوا يتمتعون بالنزوع الصدامي الذي غرسه طه حسين في وجدان عصفور.
وطه حسين، وإن كان قد توقف عن التدريس للطلاب المبتدئين، من أمثال جابر عصفور وقتئذ، تاركًا تلك المهمة لتلامذته الذين أصبحوا أساتذة لجابر، من قبيل شكري عياد، الذي يسميه الدكتور جابر بـ”الأستاذ العظيم”، وآخرين غيره من “الأساتذة الأجلاء” كما يسميهم، فإن مكانة طه حسين ظلت لها حظوة خاصة عند الدكتور جابر،
هو الذي قال في أحد أحاديثه: “لكن المكان الأحب في قلبي وعقلي كان محجوزًا دائمًا لطه حسين، الذي فتنت به منذ شبابي الباكر من التأثر الذي جعلني أذهب إلى قسم اللغة العربية لأتعلم على يدي صاحب “الأيام” في الجامعة، الذي علمني هو ـ قبل غيره ـ معاني الانتساب إليها والحلم بمستقبلها”(من مقالته “ذكريات أستاذ عظيم”، مجلة “العربي”، العدد 714 ـ 2018).
وكثيرة هي أحاديث عصفور وذكرياته عن طه حسين وكتبه، بما فيها حكايته عن سر اختياره “المرايا المتجاورة” عنوانًا لكتابه الهام عنه، من خلال ما أثاره لديه تكرار كلمة (المرايا)، أو (المرآة)، في “كل المجالات التي كتب فيها، أو عنها، طه حسين (…) وكنت أتصور أن كلمة “المرايا” هي الكلمة المفتاح لأدب طه حسين ونقده الاجتماعي ونقده الأدبي على السواء” (عن مقالته: “أساتذتي الأجلاء… عبد العزيز الأهواني”، مجلة “العربي”، العدد 739 ـ 2020).
وهو الكتاب الذي كان له ما كان، منذ لحظة صدوره، فقد جعل منه المرحوم الدكتور عز الدين إسماعيل، الذي كان رئيسًا للهيئة المصرية العامة للكتاب، استهلالًا لسلسلة جديدة، بعنوان “دراسات أدبية”، فحقق الكتاب نجاحًا بارزًا، وأسهم في تأكيد مكانة عصفور النقدية، ما جعله يقول عن كتابه: “لا أظن أن كتابًا من الكتب التي ألفتها وأصدرتها للقراء، يثير في داخلي من الذكريات ما يثيره كتاب (المرايا المتجاورة) الذي صدر منذ ربع قرن…” (من مقالته “ذكريات كتاب”، مجلة “العربي”، العدد 561 ـ 2005).
ولم يتوقف اهتمام عصفور بطه حسين عند هذا الحد، أي تأليف كتاب عن مشروعه الفكري والنقدي، بل كانت له محطات أخرى، وجدانية، من قبيل خروجه في جنازة طه حسين، فـ”كان مكاني في الجنازة مكان الحفيد الذي يودع جده، ويسير إلى جانب أساتذته الذين هم تلامذة هذا الجد، الذي أحب أحفاده حبًا يزيد على حب الأبناء”، كما يقول الدكتور جابر في مقالته: “طه حسين (1889 ـ 1973): انتظار المعجزة الفردية” (مجلة “العربي”، عدد 419 ـ 1993)، بمثل ما خرج أيضًا في جنازة نجيب محفوظ: “وكان لا بد من إلغاء الاحتفال بذكرى صلاح عبد الصبور، والعودة إلى القاهرة مساء يوم الأربعاء الماضي للمشاركة في جنازة الهرم الأكبر للإبداع الروائي…”(نجيب محفوظ: الرمز والقيمة، ص12).
فضلًا عن محطات أخرى معرفية، من خلال الاشتغال القبلي للدكتور جابر على جوانب أخرى من الفكر النقدي لطه حسين، قبل وفاة هذا الأخير وبعدها، في إطار مشاركته في احتفالات تخلد ذكرى طه حسين، وفي مواسم ثقافية خاصة به، كما هو الحال بالنسبة لدراسته لـ”موقف طه حسين من الشعر العربي الحديث”، وبحثه عن “الاستجابات النقدية عند طه حسين”، ومقالته “لماذا طه حسين؟”، واستعاداته التذكرية لطه حسين، ولبعض كتبه، كما في مقالاته: “طه حسين (1889 ـ 1973: انتظار المعجزة الفردية)”، و”ملف طه حسين.. فكر طه حسين: الحرية أولًا”، و”عن كتاب (مستقبل الثقافة في مصر)”، فضلًا عن عديد مقالاته بمجلة “العربي” الكويتية، من قبيل: “في ذكرى طه حسين”، و”الشعر الجاهلي وخلفيته الأدبية”، و”في الشعر الجاهلي”، و”على هامش كتاب”، وكلها مقالات عن كتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي)، وعن سياق تأليفه، وعما أثاره من ردود فعل خلافية كثيرة، وغيرها من كتابات الدكتور جابر عصفور ومقالاته التأملية والفكرية والنقدية والتذكرية، عن طه حسين، وعن كتبه الجدالية.
هكذا، إذن، نجد أن كلا المشروعين الرائدين، في شقهما الإبداعي والفكري والنقدي، عند كل من طه حسين ونجيب محفوظ، قد حققا معًا، وعلى حد سواء، انتشارًا واسعًا على مستوى المقروئية والتلقي والتأثير والبحث والاهتمام بهما، سواء من قبل الدكتور جابر نفسه، أو من لدن غيره من مجايليه، ومن أتى بعدهم، في أرجاء البلاد العربية، وذلك بالنظر إلى خصوصية كل مشروع على حدة، وإلى قيمته المرجعية الممتدة في الأجيال المتعاقبة؛ إذ لا مجال، هنا، لإقامة أي تمييز بينهما، أو أي انتصار لأحدهما على حساب الآخر، رغم ما يميز بينهما، على مستوى مجال اهتمام كل منهما: النقد الأدبي عند طه حسين والإبداع الروائي عند نجيب محفوظ.
ورغم حدوث تكافؤ على مستوى اهتمام عصفور بهذين الهرمين، فيبدو أن اهتمامه بنجيب محفوظ تبقى له، مع ذلك، خصوصيته، وهو ما تزكيه طبيعة حضور محفوظ ومستواه وحجمه، سواء عند الدكتور عصفور بشكل خاص، أو في عصرنا الراهن بشكل عام، كما جاء في قول عصفور في كتابه عن محفوظ: “لا أظن أديبًا عربيًا ـ في عصرنا الحاضر ـ شغل عقلنا الأدبي مثلما شغله نجيب محفوظ. إن عالمه القصصي ـ بمستوياته المتعددة، وعلاقاته المعقدة، ورموزه المراوغة ـ يثير جدلًا لا يفض، ويطرح مشكلات لا تحد، ويغذي جهدًا لا يتوقف في الكشف عن عناصر هذا العالم” (ص201).
وذلك بمثل حضور نجيب محفوظ في قراءات الدكتور جابر عصفور، وفي دراساته ومقالاته وتذكراته الموازية، وعلى مجموعة من المستويات، من غير أن نقول، هنا، بحدوث أية مفاضلة بين هذين الرمزين الكبيرين (طه حسين ونجيب محفوظ)، فلكل منهما أثره الإنساني الخاص، وحضوره الثقافي الاستثنائي، ووقعه الرمزي، في تكوين الدكتور عصفور، وفي توجيه تفكيره وتطوير معارفه، وأيضًا في اختيار كتاباته وأبحاثه النقدية، وذلك منذ بداية قراءاته الأولى لنصوصهما، في أبعادها الإبداعية والفكرية والنقدية.
وشخصيًا، وجدتني أميل، أنا أيضًا، إلى الاهتمام الخاص والمتعدد الذي أولاه عصفور لنجيب محفوظ، ولربما هو انحياز ذاتي، يجد بعض مبرراته في سياق آخر، بطلاه هما عصفور ومحفوظ، فقد حصل أن تلقيت دعوة كريمة من أمين عام “جائزة القذافي العالمية للآداب”، الدكتور محمد المدني الحضيري، لحضور حفل تسلم الدكتور عصفور لـلجائزة، في مدينة طرابلس الليبية، عام 2010، وهناك تسلمت، كغيري من المدعوين، نسخة من الطبعة الأولى من كتاب صاحب الجائزة الذي صدر بتلك المناسبة الاحتفالية الجميلة، فكان لهذا الكتاب تأثيره علي أنا أيضًا، وعلى بعض مشاريعي النقدية البعدية…
ويرجع اهتمام عصفور بمحفوظ إلى ذلك الزخم في العلاقات الإنسانية والأدبية والوجدانية الفريدة، التي نسجها باحثنا مع محفوظ، ومع عالمه السردي، وأيضًا مع نقاده، عبر رحلة بحث وقراءة وتفاعل امتدت لعقود. ولا غرابة في ذلك، فعصفور كان يتابع أعمال محفوظ منذ الصبا، كما جاء في خواطره في عيد ميلاد الأخير (نجيب محفوظ: الرمز والقيمة، ص80).
ورغم أن كتاب الدكتور جابر عن محفوظ هو في الأصل عبارة عن تجميع مقالات عديدة بين دفتي كتاب، كان قد نشرها متفرقة على امتداد أعوام سابقة، فتبقى، في مجملها، مقالات ودراسات وآراء مترابطة وممتدة في ما بينها، بشكل يضعنا نحن في صلب محطات أخرى مضيئة لعالم حفوظ، في أبعادها الإبداعية والحياتية والتذكرية، وفي مشكلاتها وصراعاتها وعواصفها الجدالية، وأيضًا في تعدد منظوراتها، وتعقد مستوياتها، وتعدد محتواها الفكري.
من هنا، أجد أن كتاب عصفور عن نجيب محفوظ، يشكل إضافة نوعية أخرى إلى كل ما ألفه نقاد آخرون غيره، من كتب نقدية عن هذه التجربة الإبداعية والحياتية الاستثنائية، وقد تعرض الدكتور جابر لمجموعة من هؤلاء النقاد في فصلين من كتابه: “نقاد نجيب محفوظ” و”ملاحظات ختامية”، بدءًا بكتابات سيد قطب، وأنور المعداوي، وطه حسين، وسلامة موسى، فيما تكثفت، بعد ذلك، كتب نقدية، وعلى نحو متصاعد، منذ مطالع ستينيات القرن الماضي مع من جاء بعدهم من النقاد، وهم كثر.
وتكمن بعض جوانب تميز كتاب الدكتور جابر عصفور عن نجيب محفوظ عن تلك الكتب الأخرى في كونه ليس فقط كتابًا نقديًا لبعض رواياته، أو كتابًا يرصد فكر الرجل، ويتناول محطات من سيرته الخاصة والعامة، منذ ولادته، مرورًا بوسطه الأسري، وصولًا إلى وفاته، أو كتابًا يتناول جانبًا من الصراع الذي ولده التطرف الديني في مصر وقتئذ، بل هو، إلى جانب هذا كله، كتاب يستعيد في بعض فصوله ومقالاته، وبرؤية نقدية وتحليلية ثاقبة، حالات وأوضاعًا وحكايات وتفاصيل مثيرة عن شخصية محفوظ ورواياته ومواقفه.
فهي تفاصيل، وإن كانت مجموعة منها معروفة ومتداولة في الأوساط الثقافية المصرية والعربية عمومًا، وتناولها بعضهم في كتبهم الحوارية، واستجواباتهم مع نجيب محفوظ، إلا أن كتاب الدكتور عصفور يعيد النبش فيها وتفكيكها وقراءتها من منظوره الخاص، انطلاقًا من معرفة مباشرة بصاحبها وبسيرته الذاتية، ومن إدراك لتفاعلاتها وتعدد أوجهها، ولدهاليز صراعاتها وتمفصلاتها.
وقد تعرض الدكتور جابر نفسه إلى هذا الجانب، في سياق تناوله لحكاية “محاولة اغتيال نجيب محفوظ” التي تناولها الناقد والصحافي المصري، رجاء النقاش، في كتابه عن نجيب محفوظ (صفحات من مذكرات نجيب محفوظ)، في قوله: “ظل الملف عالقًا بذاكرتي على نحو خاص إلى أن قررت الاجتهاد في معاودة النظر إلى هذه المحاولة، في سياق توديع نجيب محفوظ، عندما رحل عن دنيانا، فعدت إلى الملف وأفدت منه مرة أخرى، وأضفت إلى ما فيه ما انتهت إليه قراءاتي المتعددة لكتابات نجيب محفوظ، وما استنتجته من وصل هذه الكتابات بسياقاتها التاريخية التي تلقي مزيدًا من الضوء على المحاولة الآثمة، من دون أن يقلل ذلك من تقديري لكتاب العزيز رجاء، رحمه الله، والإفادة منه” (نجيب محفوظ: الرمز والقيمة، ص283).
على هذا النحو، يعيد عصفور كتابة سيرة نجيب محفوظ برؤية خاصة، في اختياره لجوانب ومحطات وحكايات مضيئة من سيرة الأديب الراحل، البيوغرافية والأتوغرافية، في تلويناتها المختلفة، بمثل ما يسرد بعض حكايات إبداعاته ومواقفه وصراعاته، من قبيل “حكاية الحكايات عن رواية أولاد حارتنا”، و”حكاية جائزة نوبل ودلالاتها”، وغيرها من الحكايات والوقائع التي تخص مسير محفوظ الحياتي والإبداعي، كما يعيد كتابتها عصفور في كتابه.
إن اهتمام عصفور النقدي والتذكري بالشاعرين العربيين، صلاح عبد الصبور، وأمل دنقل، قد لا يوازيه سوى اهتمامه النقدي بكل من طه حسين، ونجيب محفوظ. فإذا كان الشاعران معًا قد حظيا بعديد المقالات والمتابعات، وبكتب نقدية حول تجربتهما الشعرية، من قبل الدكتور عصفور، فقد خص أيضًا طه حسين ونجيب محفوظ بكتابين نقديين اثنين مضيئين، من بين مؤلفاته العديدة، وهو ما جعلهم جميعًا حاضرين في تفكيره النقدي، وفي وجدانه وذكرياته ومقروءاته، وفي كتبه حواراته وندواته، إلى أن انتقل إلى جوارهم. رحمهم الله جميعًا.
هامش:
* اعتمدنا في هذه المقالة على بعض أعداد مجلة “العربي”، كما هي واردة في الموقع الإلكتروني للمجلة: http://alarabi.nccal.gov.kw