النظرية النقدية
في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، يستخدم مصطلح النظرية النقدية للإشارة إلى تقييم ونقد فكري للمجتمع والثقافة، بواسطة المعرفة المستمدة من العلوم الاجتماعية والإنسانيات. ويوجد للنظرية النقدية أصول في علم الاجتماع والنقد الأدبي أيضًا.
وتصبح النظرية نقدية، كما وصفها عالم الاجتماع ماكس هوركهايمر، بقدر ما تسعى إلى تحرير البشر من الظروف التي تستعبدهم. يصف مصطلح النظرية النقدية كما هو مستخدمًا في علم الاجتماع والفلسفة السياسية، الفلسفة الماركسية الغربية لمدرسة فرانكفورت، والتي تم تطويرها في ألمانيا خلال ثلاثينيات القرن العشرين.
ويتطلب هذا المعنى استخدام حروف كبيرة في المصطلح، بينما نفس المصطلح بالأحرف الصغيرة critical theory أو النظرية الاجتماعية النقدية، قد يشير على نفس المكونات الفكرية لكنه لا يؤكد على انتسابه لمدرسة فرانكفورت على وجه التحديد.
اعتمد مُنظرو مدرسة فرانكفورت النقدية على المناهج النقدية لكارل ماركس وسيجموند فرويد. وتؤكد النظرية النقدية على أن الأيديولوجيا هي العقبة الأساسية بالنسبة لتحرير الإنسان. تأسست النظرية النقدية كمدرسة فكرية بشكل أولي، من خلال منظري مدرسة فرانكفورت: هربرت ماركوزه، وتيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر، ووالتر بنيامين، وإريك فروم.
وتأثرت النظرية النقدية الحديثة بالإضافة إلى ذلك، بأعمال جورج لوكاتش وأنطونيو جرامشي، فضلًا عن الجيل الثاني من مفكري مدرسة فرنكفورت، وعلى وجه التحديد يورجن هابرماس. فالنظرية النقدية في عمل هابرماس تجاوزت أصولها النظرية في المثالية الألمانية وأحرزت واقتربت بشكل متزايد من البراجماتية الأمريكية.
ويُعد الاهتمام بفكرة البنية التحتية والبنية الفوقية الاجتماعية، واحدة من المفاهيم الفلسفية الماركسية المتبقية في الكثير من النظرية النقدية المعاصرة. تعمل النظرية النقدية فيما بعد الحداثة على تسييس المشكلات الاجتماعية من خلال وضعها في سياقات تاريخية وثقافية، لتدفع بنفسها في عمليات جمع وتحليل البيانات، ونسبية نتائجها.
- نظرة عامة
يُعد ماكس هوركهايمر، من مدرسة فرانكفورت الاجتماعية، أول من عرَّف النظرية النقدية في مقاله عام 1937 بعنوان النظرية النقدية والنظرية التقليدية: النظرية النقدية هي نظرية اجتماعية موجهة نحو نقد وتغيير المجتمع ككل، وعلى النقيض فإن النظرية التقليدية موجهة فقط لفهم أو تفسير المجتمع.
أراد هوركهايمر أن يميز النظرية النقدية بوصفها صيغة راديكالية تحررية من النظرية الماركسية، ناقدًا كل من النموذج العلمي الذي طرحته الوضعية المنطقية، وما اعتبره هو وزملاءه بمثابة وضعية خفية وسلطوية للماركسية والشيوعية التقليدية.
فالنظرية لديه تكون نقدية بقدر ما تسعى إلى تحرير البشر من الظروف التي تستعبدهم. وتشتمل النظرية النقدية على بُعد معياري، سواء كان نقدها للمجتمع من خلال بعض نظريات القيمة والمعايير أو الينبغيات، أو من خلال نقدها له بما تتبناه من قيم. والمفاهيم الرئيسية للنظرية النقدية هي كالتالي:
ينبغي على النظرية النقدية الاجتماعية أن تتوجه إلى مجمل المجتمع في خصوصيته التاريخية (أي كيف يتشكل هذا المجتمع عند نقطة معينة في الزمن).
ينبغي على النظرية النقدية أن تطور فهما للمجتمع من خلال تكامل كل العلوم الاجتماعية الكبرى، بما في ذلك الجغرافيا والاقتصاد وعلم الاجتماع والتاريخ والعلوم السياسية وعلم الإنسان وعلم النفس.
استمدت النظرية النقدية مصطلح (النقد) من الاستخدام الكانطي له في القرن الثامن عشر، والاستخدام الماركسي في القرن التاسع عشر، مثلما فعل كانط في كتابه «نقد العقل الخالص»، وكما هو الحال مع تصور ماركس لكتابه «رأس المال» بوصفه يمثل نقدًا للاقتصاد السياسي.
وبالنسبة للمثالية المتعالية عند كانط، فإن مصطلح النقد يعني اختبار وتأسيس حدود لصلاحية ملكة ونوع وموضوع المعرفة، وعلى وجه التحديد من خلال إظهار الحدود المفروضة من قبل المفاهيم الأساسية غير القابلة للنقصان المستخدمة في ذلك النسق المعرفي.
ارتبطت فكرة كانط عن النقد بإسقاط المعتقدات السياسية والاجتماعية والفلسفي، التي تتميز بالطابع الدجماطيقي أو الخطأ وعدم البرهنة، لأن نقد كانط للعقل اشتمل على نقد الأفكار الميتافيزيقية واللاهوتية الدجماطيقية، وكان متشابكًا مع تعزيز الاستقلال الأخلاقي ونقد التنوير للخرافات والسلطة غير العقلية.
وهو ما تم تجاهله داخل أوساط الواقعية النقدية، على الرغم من أن دافع كانط المباشر لكتابة مؤلفه «نقد العقل الخالص» هو مناقشة المشكلات التي أثارتها النزعة التجريبية الشكية لدى دافيد هيوم، والتي وظفت العقل والمنطق خلال مهاجمتها للميتافيزيقا، في المُحاججة ضد إمكانية معرفة العالم والمفاهيم الشائعة حول السببية.
ودفع كانط على النقيض، بتوظيف الدعاوي الميتافيزيقية الأولية بوصفها شروط ضرورية، فإذا قيل عن أي شيء أنه قابل للمعرفة، فيجب أن يتأسس على تجريدات متمايزة عن الظواهر القابلة للإدراك.
طور ماركس بشكل صريح مفهوم النقد إلى نقد الأيديولوجيا وربطها بممارسة الثورة الاجتماعية، فكما صرح في أطروحته الحادية عشر الشهيرة حول فويرباخ: لقد اعتاد الفلاسفة على تفسير العالم فقط وبطرق مختلفة، لكن الهدف هو أن يتغير.
وهناك سمة مميزة من سمات النظرية النقدية كما أوضحها هوركهايمر وأدورنو في (كتاب جدل التنوير 1947)، هي وجود تناقضات معينة متعلقة بالمصدر الأولي أو أساس الهيمنة الاجتماعية، إذ أن هذا التناقض قد أدى لتشاؤم النظرية النقدية الجديدة بشأن امكانية حرية وتحرر الإنسان.
وكان هذا التناقض متجذرًا بالطبع، في الظروف التاريخية التي أُنتج فيها العمل في الأصل، وتحديدًا صعود الاشتراكية القومية، ورأسمالية الدولة، وصناعة الثقافة، بوصفهم صور جديدة تمامًا للهيمنة الاجتماعية، والتي لا يمكن تفسيرها على نحو كاف من داخل مصطلحات علم الاجتماع الماركسي التقليدي.
لقد أدى تدخل الدولة في الاقتصاد، وفقًا لأدورنو وهوركهايمر، إلى الإلغاء الفعلي للتوتر بين علاقات الإنتاج وبين القوى المادية المنتجة للمجتمع، وهو توتر وفقًا للنظرية النقدية التقليدية، يؤسس تناقضًا أوليًا داخل الرأسمالية. فالسوق (بوصفه آلية لا شعورية لتوزيع البضائع) تم استبداله بالتخطيط المركزي.
ومع ذلك وعلى عكس تنبؤ ماركس الشهير في مقدمة مساهمة لنقد الاقتصاد السياسي، فإن هذا التحول لم يؤدي إلى عصر الثورة الاجتماعية، بل بالأحرى إلى الفاشية والشمولية. وعلى هذا النحو فإن النظرية النقدية تُركت، على حد تعبير هابرماس، بدون أي شيء تحتفظ به حتى يمكن استئنافه؛ فعندما تدخل قوى الإنتاج في تعايش مؤذي مع علاقات الإنتاج التي كان يُفترض أن تفتح الأبواب على مصراعيها، فإنه لم يعد هناك أي ديناميكية لذلك النقد يمكن أن تبني أملها.
ووفقًا لأدورنو وهوركهايمر فإن ذلك يفترض مشكلة كيفية تفسير الثبات الظاهر للهيمنة، في ظل غياب التناقض الشديد الذي كان مصدرًا للهيمنة نفسها وفقًا للنظرية النقدية التقليدية.
انتقل يورجين هابرماس في ستينات القرن العشرين، مؤيد النظرية النقدية الاجتماعية، بالمناقشة الإبستمولوجية إلى مستوى جديد في كتابه (المعرفة والمصالح البشرية)، من خلال تعريفه للمعرفة النقدية بوصفها قائمة على مبادئ تميزها إما عن العلوم الطبيعية أو الإنسانيات، عن طريق توجهها للتأمل الذاتي والتحرر.
وعلى الرغم من عدم توافق هابرماس مع فكر أدورنو وهوركهايمر المقدم في كتاب ديالكتيك التنوير، فإنه يتبنى الرؤية التي ترى أن عصر الحداثة يتميز بابتعاده عن تحرير التنوير واقترابه من شكل جديد للاستعباد، وذلك وفقًا لصيغة العقلانية الأداتية.
تتجاوز النظرية النقدية في عمل هابرماس جذورها النظرية في المثالية الألمانية، وتقترب في حركتها نحو البراجماتية الأمريكية. ويؤثر هابرماس الآن على فلسفة القانون في العديد من البلدان، على سبيل المثال تشكل الفلسفة الاجتماعية للقانون في البرازيل، وتمتلك نظريته أيضًا الإمكانية لجعل الخطاب القانوني بمثابة نظام قانوني واحد وهام في العالم الحديث، بوصفه إرثًا لعصر التنوير.
تعتبر أفكاره الخاصة بالعلاقة بين الحداثة والعقلانية بهذا المعنى، متأثرة بقوة بماكس فيبر. لقد حلّ هابرماس الكثير من عناصر النظرية النقدية المستمدة من مثالية هيجل الألمانية، على الرغم من أن فكره ما زال ماركسيًا على نطاق، في مقاربته الإبستمولوجية.
وربما تكون أكثر فكرتين مؤثرتين هما مفاهيمه عن المجال العام، والفعل التواصلي؛ ويظهر هذا الأخير بوصفه رد فعل جزئي على التحديات الجديدة لما بعد البنائية أو ما يسمى (ما بعد الحداثة) في مواجهة خطاب الحداثة.
ويراسل هابرماس بانتظام ريتشارد رورتي، إذ يمكن استشعار وجود معنى قوي للبراجماتية الفلسفية في نظريته؛ وهو ذلك الفكر الذي يجتاز بشكل متكرر، الحدود بين علم الاجتماع والفلسفة.