قراءة الجابري لبنية العقل العربي
منذ مطلع الثمانينات بدأ الباحث المغربي محمد عابد الجابري يشق مشروعه التحليلي لبنية العقل العربي، بإصداراته المتتالية التي بدأت بـ «تكوين العقل العربي» ثم «بنية العقل العربي» وأخيرا «بنية العقل السياسي العربي».
ورغم اختلاف العناوين وموضوعات البحث إلا أن الجامع المشترك بينها هو القراءة البنيوية الثلاثية لتكوينية العقل العربي الذي يقسمه إلى ما اسماه بعقل عرفاني وعقل بياني وآخر برهاني.
الأول يتطابق في الحالة الغنوصية الإشراقية كما تبلورت مع أهل الحلول الصوفي وفلاسفة الإشراق امثال الفارابي وابن سيناء وبقية فلاسفة «المشرق».
أما العقل البياني فهو يعادل عنده التراث الفقهي والاصولي وبقية علوم البيان المعبرة عن «ماهية العقل العربي» وأخيرا العقل البرهاني الذي انبلج في «الفضاء المغربي» مع ابن باجة وابن رشد خاصة الذي اعتبره الجابري نموذج العقلانية البرهانية في الفكر الاسلامي.
هذا التصنيف الثلاثي الذي يقيمه الجابري ليس مجرد عملية تحليل لآليات اشتغال العقل العربي بقدر ما هو ترتيب معياري وتفاضلي لهذه البنى المتزاحمة في اطار الثقافة العربية الاسلامية بحيث يحتل العقل العرفاني أدنى درجات السلم ثم يليه العقل البياني وأخيرا يتصدر رأس السلم العقل البرهاني في صيغته الارسطية الرشدية.
وبذلك يتركز رهان الجابري على إعادة الاعتبار لتراث المشائية الارسطية في ثوبها الرشدي وبالتوازي مع ذلك تأسيس مشروعية لاستجلاب العقلانية الأنوارية في شكلها الديكارتي والكانطي.
ورغم الجهود العميقة التي بذلها الجابري في البحث عن الاصول التكوينية العميقة لبنية العقل العربي إلا ان هذا المشروع لم يخل من مطبات معرفية ورهانات ايديولوجية قد حملت النصوص التراثية ما لا طاقة لها بتحمله ولعل اهم النقاط التي يمكن ان نقف عندها هي الآتية:
1- إن التقسيم الثلاثي لبنية العقل العربي لا يستجيب لواقع الاشتراك والتداخل التداولي في حقل الثقافة العربية الاسلامية بين مجالات الاشتغال البياني والبرهاني والعرفاني.
وهي حالة لا تقتصر على حقل الثقافة العامة بل تطال الشخصية المعرفية الواحدة التي يصعب في الكثير من الاحيان تصنيفها ضمن وحدة معينة من بين هذه القوالب الثلاثية الجامدة على النحو الذي رسمه الجابري.
فشخصية مثل الغزالي تتضمن كل هذه اللحظات المعرفية فهو فيلسوف مع الفلاسفة وفقيه مع الفقهاء ومتصوف مع المتصوفة. بل إن ابن رشد ذاته الذي حاول الجابري ان يتجاهل وجهه البياني هو في حقيقة الامر مزيج مركب من البيان والبرهان ومن الفقه والفلسفة المشائية.
فقد نظر الجابري إلى ابن رشد من زاوية كتاب «النفس» و «الكشف عن مناهج الأدلة» و «فصل المقال» ولكنه اعرض عن وجهه الآخر في كتاب «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» خشية اهتزاز نموذجه البنيوي الصلب.
لقد سبق للمفكر طه عبدالرحمن أن بين الوهم الملازم لرؤية الجابري بالاسناد إلى فلسفة اللغة التي تبين درجة التداخل والتشارك في مستوى الخطاب الواحد الذي يتداخل فيه البرهان والبيان والعرفان. فما من برهان إلا ويتوسل اسلوب الابلاغ البياني الطبيعي وما من بيان أو عرفان يخلو من استدلال برهاني.
أولم يكن الخطاب القرآني مبدعا في جماليته البيانية ومفحما في مقارعاته البرهانية الاستدلالية؟ أو لم تكن مرحلة النضج الفلسفي في حقل الثقافة العربية الاسلامية مقترنة بتطويع المصطلح والمفهوم لجمالية البيان العربي»؟ فالبرهان الخالص الذي يتحدث عنه الجابري لا يمكن ان يتحقق إلا في لغة رمزية رياضية لا علاقة لها بوسائل الخطاب التداولي الطبيعي.
2- إن أولوية البرهان على البيان والعرفان في فكر الجابري تحمل في طياتها موقفا متضمنا ومسكوتا عنه هو الانجذاب إلى التراث الإغريقي الارسطي وامتداداته اللاحقة مع الفلاسفة المشائين في حقل الثقافة العربية الاسلامية وأخيرا في حلقته المكتملة في إطار العقلانية الغربية الحديثة في صورتها الديكارتية الكانطية.
فالمضمر في هذا التحليل هو كون الغرب الحديث قد ادرج بوابة العقلانية استنادا إلى الموروث الارسطي ومن ثم فإن شرط امتلاك ناصية العقلنة في الثقافة العربية الاسلامية هو الرجوع إلى الرشدية رديف الارسطية عندهم.
ولعل اهم المطاعن التي يمكن ان تثار ضد هذه الاطروحة هو مزعم التواصل بين حلقات العقلنة في سياق الثقافة الغربية، وكأن الغرب الحديث هو مجرد امتداد طبيعي ورتيب مع التراث الاغريقي الارسطي في حين أن المسألة تبدو عندنا معاكسة لذلك تماما.
فلم يشق الغرب طريقه في النهوض والتجديد المعرفي إلا على انقاض العقلانية المدرسية والصورية الارسطية التي ينافح عنها الجابري ولعله لهذا السبب بالذات عُدّت الديكارتية لحظة انعطاف في مسار الوعي الغربي لأنها مثلت بداية الانفكاك من أسر الصورية الأرسطية بحكم ابتداعها لقواعد منهج مغايرة تماما للقياس الارسطي الذي اعتبره ديكارت منهجا عقيما لأنه على حد تعبيره مجرد مصادرة على المطلوب ولا يضيف شيئا جديدا للفكر.
وحاصل القول هنا ان الغرب الحديث لم «يتقدم» إلا لأنه قد ثار على الارسطية ومختلف تعبيراتها في التراث المسيحي الوسيط، فكيف يمكن لنا نحن معشر العرب والمسلمين ان نستأنف دورنا في النهوض الحضاري بالاستناد الى التراث الارسطي الرشدي؟
كيف يطلب منا ان نعيد الاعتبار لتأويلية جامدة ومغلقة تقسم النص الديني – ومعه الاجتماع الانساني – إلى مراتب متفاضلة حيث هناك ظاهر مخصص للجمهور وباطن حكر على أهل البرهان والتأويل؟ اليس أولى بنا ان نثور على هذا التراث ونبحث لنا عن آباء مؤسسين يساعدوننا على دخول العصر بدل مزيد من الاغتراب عنه؟
أوليست ثورة الغزالي على التراث الميتافيزيقي، والوعي التاريخي الخلدوني، ونقدية ابن تيمية أحرى وأولى بإعادة البعث والتجديد من المدرسية الرشدية التي كانت تقدم نفسها مجرد شارح لأقوال المعلم الأول الذي اكتملت معه الحكمة الفسلفية على حد زعمها؟.
3- إن المقابلة الحادة بين ما يسميه الجابري عقلانية المغرب وعرفانية المشرق هي مجرد وهم متأت من تمركز جغرافي يشطر الفضاء العربي ومعه بنية الوعي إلى عالم مشرق تمت مطابقته في اللا عقل ومغرب تم الارتقاء به إلى مصاف العقل،
نظير التقسيم الحاد الذي اقامه مفكرو الغرب الحديث في غرب اوروبي عقلاني ومن تحرك وعالم شرق سكوني وغير عقلاني. ومن المعلوم هنا أن الجابري يؤسس هذا التمايز المعرفي بين المشرق والمغرب عن ظاهرة الانفصال السياسي المبكر للأندلس وبلاد المغرب عن الخلافة العباسية ثم عجز الدولة الفاطمية عن السيطرة عليهما ولو صح هذا المزعم الذي يطابق بين حالات الوعي الفكري وظواهر الاجتماع السياسي لأصبح الفكر الاسلامي جزرا متناثرة لا يربطها رابط.
وبشيء من الاختصار يمكن القول ان الثقافة العربية الاسلامية هي وحدة متكاملة نهل من معينها اهل المشرق والمغرب على السواء مثلما نهل منها اهل الفقهاء والفلاسفة والمتصوفة، بل لعل حظ اهل المغرب من العرفان وفلسفة الحلول كان اشد من حظ اهل المشرق.
أولم يكن محي الدين ابن عربي اب الاشراق الحلولي مغربي المولد والمنشأ؟ أولم يكن أهل المغرب اكثر اشتغالا بطلاسم السحر والشعوذة من اهل المشرق الموصوفين بالعرفان والغنوص؟
أما المسألة الاخرى التي لا يمكن التسليم بها فهي الدلالة القومية التي يمنحها الجابري لمشروعه التحليلي لما يسميه بالعقل العربي.
وهو ما يفسح المجال للحديث عن عقل تركي وآخر إيراني وآسيوي هندي وغيره وهو حسب رأينا تقسيم اعتباطي، مبعثه نزوع قومي عروبي لا يعبر عن حقيقة التكامل والترابط المعرفي في حقل الثقافة العربية الاسلامية التي لا يمكن اختزالها في مرتكز قومي او عرقي وإن كانت عربية اللسان والبيان
صحيفة الوسط : العدد 6 – الأربعاء 11 سبتمبر 2002م الموافق 04 رجب 1423هـ