فكر وفلسفة

في تجديد العقل السياسي العربي

في مقالة سابقة بعنوان: “في الحاجة إلى عصر تدوين جديد” كتبتُ ما يلي: “ما يسميه الجابري تدشين “عصر تدوين” جديد لا يمكن أن يتأسس من فراغ، بل من خلال قراءة التراث في ضوء المناهج و المفاهيم الحديثة لتدوينه من جديد.”[1]

سأحاول في هذه المقالة الوقوف عند الطريقة التي مارس بها الجابري هذه العملية التدوينية الجديدة في أحد أهم الميادين الأساسية لانشغالاته الفكرية و هو مجال الممارسة السياسية العربية ماضياً و حاضراً.


من نافل القول إن الممارسات السياسية لها أساس ثقافي كمبدأ موجه للعمل السياسي و كمنطق محايث تنتظم داخله المواقف والعلاقات بين الأفراد و الجماعات، إن شعوريا أو لا شعوريا. فهذا الأساس الثقافي هو الذي يصوغ العقليات و يطبع السلوكات و العادات الذهنية و القيم الموجهة للفرد و الجماعة، فقيمته في مدى تكوينه للرأسمال الرمزي الذي يصنع نمطاً معينا من السلوك السياسي.


وهذا ما يشكل، في نهاية التحليل،  العقل السياسي الذي يميز ثقافة معينة. و فيما يخص حالتنا الثقافية العربية فلها هي أيضا عقلها السياسي الذي ميّزها في الماضي و مازال الأمر ممتدا إلى الآن، كما يظهر ذلك من خلال التجليات المختلفة لهذا العقل في حاضرنا المعاصر، الشيء الذي يتطلب عملية تدوينية جديدة تهدف إلى تجديده من الداخل لإصلاح ما يمكن إصلاحه و تجاوز ما يمكن تجاوزه من عوائق تقف أمام أي تحديث سياسي يُدخلنا، كباقي الشعوب الأخرى، في إشكاليات العالم المعاصر.


ما هي إذاً هذه التجليات الممتدة لهذا العقل السياسي العربي؟ وما السبيل إلى تجديده؟

إن أول ما يتجلى لنا في الحياة السياسية العربية المعاصرة هو هذا النزوع السلطوي الاستبدادي المترسخ في الذهنيات و الرافض بعناد ملحوظ لأي انتقال ديمقراطي حقيقي، إضافة إلى ذلك هناك هيمنة ل “مخيال اجتماعي” مشدود إلى رموز ماضينا السياسي البعيد و المفصول عن واقعنا المعاش، هذا المخيال يشكل مجالا لاكتساب القناعات السياسية و الاعتقادية الرافضة هي الأخرى لأية واقعية سياسية تنقد عقلنا السياسي من “لاتاريخانيته” المرافقة له و التي تسببت لنا في العديد من الكوارث المعروفة. 


هذه التجليات إذاً ،الحاضرة  أمامنا، تجد أساسها الثقافي البعيد في تراثنا السياسي العريق الذي شكل بنيتها اللاشعورية و الممتدة إلى عصرنا الحالي، و يذكر الجابري في هذا الصدد أساسين ثقافيين  لتجليات هذا العقل السياسي  المُشار إليها أعلاه قائلا: “لم يعرف الفكر الإسلامي في الميدان السياسي إلا ميثولوجيا الإمامة و الإيديولوجيا السلطانية، و إذا كان أهل السنة قد تجندوا للرد على الأولى تكريسا للأمر الواقع، فإنه لم يوجد بعد من يرد على الثانية، لا في شكلها القديم و لا في شكلها المعاصر”.[2]


إن العبارة الموروثة عن الفقه السياسي الإسلامي، السني خاصة، والتي تقول: ” من اشتدت وطأته وجبت طاعته” تشكل أحد عناصر البنية السياسية اللاشعورية التي تقف وراء كل تنظير معاصر يحاول إيجاد مبررات و أصول للاستبداد و لتمركز السلط في أنظمتنا السياسية.


و من هنا فإن أي تجديد للعقل السياسي يجب أن يبدأ من كشف الأسس الثقافية لهذه الإيديولوجية السلطانية التي تلغي السياسة من الأساس، و لذلك لابد من إيجاد بدائل لهذا النوع من التفكير “السلطاني”، بدائل تستطيع أن تشكل مرجعية لنا نعود إليها في الاتفاق والاختلاف الذي لا يخلو منه أي نقاش سياسي ممكن مما يسمح ببلورة أرضية فكرية معاصرة تفتح أمامنا الأسئلة الحقيقية و الفعلية التي تواجهنا في علاقتنا بذاتنا و بالعالم من حولنا.


في هذا الإطار قدم الجابري مساهماته في عملية التجديد هاته مبرزاً “التجليات الثقافية” لهذا العقل السياسي العربي، و مطالبا بتجديده من خلال تجاوز تلك التجليات و إحلال بدائل أخرى معاصرة لوعينا، وفي نفس الوقت، منتظمة داخل تراثنا انسجاما مع رؤيته الفكرية الثابتة حول ما يسميه ضرورة “الانتظام في تراث” أو “استراتيجية التجديد من الداخل”.


إن هذه الرغبة في الانتظام في تراث و منهجية التجديد من الداخل هو ما دفع الجابري إلى بلورة أسلوبه الخاص في “التدوين الجديد” للتجربة السياسية الإسلامية الأولى و معها تجربة الخلفاء الأربعة. و قد استخلص من الأولى، أي التجربة المحمدية،  أربعة معالم تمنع كل محاولة لترسيخ الاستبداد السياسي و تسد الباب أمام إضفاء أية شرعية دينية على الإيديولوجية السلطانية، التي تبلورت و تجلت تاريخيا فيما بعد. و قد لخص محاولته التدوينية الجديدة هاته في  هذه المعالم أو المبادئ الأربعة التالية:

– مبدأ “و أمرهم شورى بينهم”.

– مبدأ  “و شاورهم في الأمر”.

– مبدأ “أنتم أدرى بشؤون دنياكم”.

– مبد “كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته”.


أما الثانية، أي تجربة الخلفاء و ما كشفت عنه من ثغرات، أدت إلى كوارث سياسية سرت بذكرها الركبان بسبب ما سماه الجابري، بلغة معاصرة، أزمة “الفراغ الدستوري”، أي غياب تقنين لطريقة تعيين الحاكم و اختصاصاته و مدة حكمه،

و هكذا يمكننا القول أن هذا التدوين الجديد حول المسألة السياسية في الإسلام اقتضى من الجابري الانطلاق من هذا الفراغ الدستوري الذي أبانت عنه التجربة السياسية للخلفاء الأربعة، و ذلك من أجل استكمال النموذج المفتوح الذي عبرت عنه التجربة المحمدية قبلهم، و استنتج من كل ذلك بعض الأسس الدستورية التي تملأ ذلك الفراغ و تساهم في عملية تجديد عقلنا السياسي العربي و قد لخص هذه الأسس في ما يلي: 


– أولاً ضرورة الاتفاق على تحديد طريقة مضبوطة لاختيار الحاكم.

– ثانياً ضرورة تحديد مدة ولايته.

– ثالثاً ضرورة التحديد الدقيق لاختصاصاته.

مثل هذه العناصر هي التي ستمكننا، حسب الجابري، من تجاوز نمط الإيديولوجية السلطانية أو إشكالية الماوردي ومن يدور في فلكه من فقهاء و متكلمين معاصرين، الذين يُنظّرون في عصرنا لإيديولوجية “الأمر الواقع” حسب العبارة المعلومة: “من اشتدت وطأته وجبت طاعته”.

بطبيعة الحال لا يمكننا الادعاء بأن العقل السياسي العربي يمكن أن يتجدد فقط من خلال قيامه على المبادئ الدستورية المذكورة أعلاه، بل إن الأمر أعمق من ذلك فهو يتطلب إصلاحاً ثقافيا جذريا يعمل على تجديد تلك المحددات الإجتماعية و الاقتصادية و الثقافية التي حكمت هذا العقل في الماضي و هي “القبيلة” و “الغنيمة” و “العقيدة”، بالمعنى الواسع الذي يعطيه الجابري لهذه الألفاظ.

إن إغفال أي “تجديد ثقافي” لهذه المحددات قد ينسف أية عملية تجديدية للعقل السياسي العربي برمته، لأنها مازالت، بشكل أو بآخر، حاضرة معنا في عصرنا الحالي، إذ تشكل لاشعورنا السياسي الذي يعود، بين الفينة والأخرى، في صورة عودة المكبوت كما نلاحظ ذلك في العودة المُدوّية للطائفية السياسية و التمذهب الديني والعصبية القبيلة، يقول الجابري في هذا الصدد: ” القبيلة و الغنيمة و العقيدة محددات ثلاثة حكمت العقل السياسي العربي في الماضي و مازالت تحكمه بصورة أو بأخرى في الحاضر..


لقد كان الطموح النهضوي العربي يرمي أساسا إلى تجاوز تلك المحددات و إقرار محددات جديدة عصرية. غير أن المجتمع العربي لم يتمكن من تحقيق عملية التجاوز هذه لأسباب و عوامل كثيرة… فكانت النتيجة عودة المكبوت.. و هكذا عادت العشائرية و الطائفية و التطرف الديني و العقدي”[3]،

وبالتالي فعملية التجديد الفكري هاته مازالت في جدول أعمالنا، وهو حاول الجابري القيام به في نقده للعقل السياسي العربي مزواجا بين نقد الماضي و نقد الحاضر، يقول: “إن نقد الحاضر بما يحمله من بقايا الماضي هو الخطوة الضرورية الأولى في أي مشروع مستقبلي”[4]،

ذلك أننا أصبحنا سجناء ماضي مشوه و حاضر مهلهل ف “نحن اليوم في وضع لا يسمح لنا بتحرير الحاضر من كابوس الماضي و لا على تصور مستقبل يغاير الماضي و الحاضر معا، فالحاضر الافتراضي، وليد التقنيات المبتكرة، يشوه ماضينا بتبسيطه و تسطيحه و يهلهل حاضرنا المعيش”[5]،

لأجل ذلك دعا الجابري إلى القيام بعملية تجديدية ثقافية شاملة تمكننا من تحويل العصبية القبلية المغلقة، الشعورية أو اللاشعورية، إلى مجتمع مدني سياسي مفتوح يسمح لنا ببلورة “مجال سياسي” بالمعنى المعروف في السوسيولوجيا المعاصرة، أي مجال خاص بالممارسة السياسية يتوسط ممارسة سلطة الحاكم على المحكومين،

إنه المجال الذي تتحدد فيه المصلحة العامة للدولة من خلال النقاش والتداول الحر بين الآراء المختلفة بعيداً عن منطق “أنا الدولة والدولة أنا” الذي ينسف هذه الوساطة السياسية من الأساس. هذا من جهة أولى، و من جهة ثانية العمل على تحويل الاعتقادات الدغمائية إلى مجال لجدل الرأي و الرأي الآخر في إطارٍ من حرية التفكير و التعبير بعيداً عن ذهنية التكفير. هذا النوع من التجديد إذاً هو الذي سيفتح أمامنا أفقا رحبا و خصبا لمواجهة تحديات العصر.. و ما أكثرها..!   


[1]   حسن زهير، “منصة بالعربية”،  أبريل 2023

[2] محمد عابد الجابري، “العقل السياسي العربي: محدداته و تجلياته”، مركز دراسات الوحدة العربية، 2004، ط.5. ص. 362.

[3] محمد عابد الجابري، “العقل السياسي العربي: محدداته و تجلياته”، م. س. ص. 373.

[4]  محمد عابد الجابري، ن.م. ن.ص.

[5] عبد الله العروي، “نقد المفاهيم”، المركز للثقافي للكتاب، 2018، ط1.ص. 153-154.

حسن زهير

كاتب وباحث من المغرب؛ أستاذ مادة الفلسفة، حاصل على دبلوم الدراسات العليا المعمقة في شعبة الفلسفة، تخصص: "فضاءات الفكر في الحضارة العربية الإسلامية" من جامعة محمد الخامس بالرباط. كاتب مقالات حول علاقة الفكر بالسياسة، والثقافة بالمجتمع في المجلات والمواقع الإلكترونية و الصحف المكتوبة والمنصات الرقمية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى