«إليكم هذا السجال الفلسفي للفلاسفة العرب في العصر الوسيط»؛ هكذا أهدى علي بن مخلوف، الفيلسوف المغربي، كتابه للقراء المصريين، في ندوة الاحتفال بصدور الترجمة العربية لكتابه «لماذا نقرأ الفلاسفة العرب؟» في المعهد الفرنسي بالقاهرة.
هذه الكلمات الموجزة هي أصدق توصيف للكتاب الصادر باللغة الفرنسية عام 2015، والذي ترجمه إلى العربية د. أنور مغيث، وصدر هذا العام 2018 عن دار آفاق. حظي الكتاب بدعم من برنامج طه حسين لدعم النشر (المعهد الفرنسي بباريس)، وبرنامج طه حسين لدعم الترجمة (المعهد الفرنسي بمصر / سفارة فرنسا بمصر).
السؤال المجرد الذي يطرحه الكتاب: «لماذا نقرأ الفلاسفة العرب»؟ ليس له إجابة بقدر مماثل من التجريد، لكن الأكيد أننا نحتاج، قبل أن يكون بإمكاننا إصدار أحكام قاطعة حول ما يحدث في اللحظة الآنية، لتذكر واستعادة أحداث معينة وقعت في تاريخ الفكر الإنساني، أحداث ربما وقعت قبل حوالي خمسة قرون.
الضمير «نحن» هنا لا يشير لنا نحن المتحدثون والكاتبون باللغة العربية فقط، لكنه ربما يعني على نحو دائري، الحضارة الأوروبية أولًا، فرنسا خصوصًا، حيث يدِّرس هناك علي بن مخلوف في الجامعات لطلبته أشياء أخرى، عن العرب غير التي يسمعونها في التلفزيون.
في يناير الماضي مثلًا تكلم الإعلام الدولي عن إميلي كونيغ، الفرنسية التي تركت الحد الأدنى من الآدمية خلفها في مدينة النور، وهاجرت إلى صفوف تنظيم القاعدة، لتعلن إسلامها، تتزوج أحد المقاتلين تُنجب منه وتجاهد معه، في سبيل إله آخر غير الذي ولدت في حمايته الأوروبية.
أوروبا الآن المجبرة على التعامل مع أوضاع مفاجئة، تتفجر جراء وصول الإرهاب الأصولي إلى أراضيها، لم يعد العرب والمسلمين بالنسبة لها مجرد «آخرين»، يمكن استبعادهم وتهميشهم دون إحساس بالذنب، لقد صار ذلك العالم البعيد بالنسبة لأوروبا أكثر من صداع. هو كالعدوى.
الإسلام كيافطة عامة وغير محددة الملامح؛ باتت قطعة من خبز المواطن الأبيض، الذي قد يموت ضحية لممارسة «إرهابية» وهو يحتفل بأحد أعياده. في هذا السياق تكمن أهمية كتاب مثل «لماذا نقرأ الفلاسفة العرب».
مؤلف الكتاب علي بن مخلوف، المغربي الأصل والمولد في مدينة فاس عام 1959، وأستاذ الفلسفة العربية والمنطق في جامعة باريس إيست بفرنسا، والجماعة الحرة ببروكسل، لديه انشغال كبير كما توضح سيرته الذاتية بموضوع كتابه، حيث ألف العديد من الأبحاث عن فلاسفة عرب وغربيين، على رأسهم ابن رشد. هو صوت مسموع في فرنسا. و لا يكتب بالعربية، ولا يحكيها بطلاقة، لكنه يُجيدها وينتمي إليها بالميلاد والقلب.
بالطبع، أي كلام عن الفلسفة العربية، لا يمكنه تفادي سؤال «الدين»، أو بشكل أكثر تحديدًا «الإسلام». حين نجلس إلى نقاش حول «الفلسفة في الإسلام» سنلاحظ يافطة أخرى رفعها أبو حامد الغزالي عنوانها «تهافت الفلاسفة»، كتاب وضعه أصلًا كي ينزع أي احترام للفكر صاحب الارتباط مع «الفلسفة الوثنية» أي الفسلفة كما عرفها أرسطو وأفلاطون، تلك التي لم تنطلق من القرآن، بل من الأسلاف اليونان.
أراد الغزالي أن يقول إنه لا فائدة من الاستماع إلى «الغرباء» في حضور القرآن والسنة. هذه هي الأجواء التي ظهرت فيها الفلسفة عند العرب، لا كمنهج ولا كتاريخ بل كفكرة. شبّت الفسلفة في بيت ابن رشد، للرد على الغزالي، بعمله الشهير «تهافت التهافت».
اجتهد ابن رشد كي يربط معنى كلمة الحكمة في الآية القرآنية «وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا» (النساء، الآية113) بالدلالة العميقة للفسلفة كنوع من الموهبة، حياة فكرية يمكن لها أن تؤدي إلى المزيد من الإيمان، كما أنها ستقدم لنا يدًا للمساعدة نحتاجها أثناء تفسير النص الديني، الذي لا بد معه من «إعمال العقل».
كان ابن رشد مغرمًا بسقراط وأفلاطون وأرسطو، أفنى ليالٍ من عمره عاكفًا على تفسير «فن الشعر»، وكانت أحد المتاعب التي كابدها الرجل هي إيجاد معادل عربي للمصطلحين اليونانيين «كوميديا وتراجيديا». لم يكن «المسرح» معروفًا للعرب بعد، ومادامت التراجيديا تساعد البشر في أن يكونوا أفضل، بعد حدوث عملية التطهير الداخلية، كما شرحها أرسطو مستشهدًا بنموذجه المثالي «أوديب» إذ يفقأ عينه ويتزوج أمه.
يعتبر ابن رشد التراجيديا كفن المدح العربي، ويعزز مقاربته بموازاة أوديب بالنبي إبراهيم، حين طلب منه الله أن يذبح ابنه. المقارنة التي تبدو لنا الآن بريئة وبعض الشيء مضحكة، تقول شيئًا عن إخلاص ابن رشد، وهو يحاول أن يبرهن على قدرة لغته على الاستيعاب والهضم، كان ابن رشد يؤمن باتساع ذلك الأفق.
« لا يوجد ما نتعلمه من ابن رشد، ولا من العرب، ولا من العصر الوسيط».
هذا هو تعليق إرنست رينان الفيلسوف الغربي في القرن التاسع عشر، على مشهد ابن رشد الساهر على شروحات أرسطو. يميز بن مخلوف بين ثلاثة أنواع من الشرح: كل نوع موجه لنوع معين من الجمهور «…التلخيص أولًا.
وهي طريقة توضح دون التعرض للأدلة التفصيلية، ثم الشرح الوسيط وهو إعادة صياغة paraphrase بالمعنى الإغريقي للكلمة، ونقول عنه اليوم شرح سطر بسطر، ثم أخيرًا الشرح الكبير، والذي يقوم بتأليف كبير عن العمل المطروح مذكرًا بالتفسيرات السابقة». ص 25
بالنسبة لرينان ولاتجاه عند بعض الفلاسفة الغربيين لعبت الفلسفة العربية دورًا «خادمًا» تجاوزته الحضارة البشرية، ويظل أصلًا مرتبطًا بالعصر الوسيط، ويؤكد رينان على هذه الرؤية المُفرِّقة بين نوعين من الفكر،
أحدهما مازال صالحًا، والآخر انتهى تاريخ صلاحيته، من حيث بالضبط يثبت أهمية ابن رشد «عندما مات ابن رشد في عام 1198 فقدت الفلسفة العربية معه ممثلها الأخير، وتم تأمين انتصار القرآن على الفكر الحر لستة قرون على الأقل». ص 22.
إن المشكلة الأساسية كما يعتقد رينان، وكما يمكننا أن نتفق معه على نحو ما، كانت ارتباط هذا التراث بالدين، أو بالشريعة حسب ما أسماها «الشافعي». في أواخر حياته، عاد رينان للاعتراف بأهمية ابن رشد، وبعظمة العمل الإنساني الذي نذر نفسه للقيام به.
حاول ابن رشد باختصار أن يتحايل على ذلك العقل الديني، على النصوص الدينية ومنها أن يجد ثغرات تسمح لعملية التفكير أن تكون آمنة، وبلا أضرار جانبية. فلنتأمل خصوصية اللغة العربية التي يتقارب فيها جذر كلمتيّ «فكر» و«كفر».
- أحادية الدين وأحادية السياسة
التفكير، كعمل انتحاري قد يفقد المرء دينه على إثره؛ مرتبط بالتفكير كاحتجاج محتَمل على نظام الحُكم. قداسة النصوص وتحريم التحاور معها انسحب بالتدريج إلى ولاة الأمر، وتحريم التحاور معهم. الأمر لم يبدأ بهذه القوة لكنه انتهى إليها.
يتكلم علي بن مخلوف عن تاريخ مصطلحات مثل «خليفة المسلمين»، و«أمير المؤمنين» الذي تم اشتقاقه أصلًا من طبيعة الحياة اليومية للغزوات، وتنظيم الدولة الدينية، بعد وفاة الرسول. اصطدم الفلاسفة أحيانًا مع أهل السياسة، فبالتأكيد هناك فرق بين ما يقوله الفليسوف وما يقوله الخطيب.
«الفلسفة في نظر ابن رشد تتجلى في القدرة التي تملكها النخبة في البرهنة على الحقيقة. الخطابة تتعلق بالجمهور وليس بالنخبة : إنها تقنع الجمهور مباشرة وتلعب دوراً اجتماعيًا- سياسيًا مهمًا.
وهي تناسب مصالح المدينة؛ لأنها مناسبة تمامًا للتصديق الذي تقتضيه السلطة من أجل الحصول على التماسك الاجتماعي. التصديق الخطابي يتميز بالإذعان المباشر إلى شيء دون منح مصداقية للأشياء التي تتعارض مع هذا التصديق، ولو من باب الإمكان». ص 102
للفلاسفة العرب اجتهادات كبرى فيما يخص ما نسميه حاليًا «الطاقة»، في الطب الروحاني، وفي كيفية الاعتناء بالذات، والآخرين، وعلاقة كل ذلك بفنون الحكم، كما أن هناك إسهام هائل خرج من رحم الصراع بين العقل والدين إسلاميًا، اسمه «التصوف».
التصوف كتحرير للعقل «الروحي» إذا جازت التسمية، الزهد ومعاينة أشكال من الغيبات والصحوات في سبيل الحقيقة المطلقة، هو في النهاية اجتهاد شخصي «ذاتي» وعزف منفرد بالنسبة لآراء الجماعة الكبيرة.
ما يجعلنا بن مخلوف نراه في كتابه هو أن الشافعي الذي لم يحب الفلسفة اضطر إلى ممارستها وهو يؤسس لمذهبه الفكري. يستشهد بن مخلوف بقول محمد أركون، أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة باريس، وهو يوضح المسار التاريخي للمذاهب الفقهية:
«أصبحوا نقطة انطلاق، في حين أنهم كانوا حصيلة لمسار اجتماعي – تاريخي لبناء مواقع للسلطة التي تبلور القواعد كما تتدخل في مسار نقل الأحاديث التي جرى تنصيبها مرجعيات إجبارية».
ويُعلِّق بن مخلوف: «يرفض محمد أركون حتى فكرة مؤسس مدرسة فقهية؛ لأن الأمر كما يشير يتعلق (بفاعلين اجتماعيين متعددين) تم إزالة آثارهم؛ لكي يحال الأمر إلى (معلم مانح للاسم). عملية إنتاج (القانون المقدس) تحيل إذَنْ إلى جهد في التفسير يُسمى اجتهادًا، أغلقت، بحسب البعض منذ القرن العاشر، أبوابه. الإغلاق يصنع الجمود العقائدي…». ص 173.
شيوخ التصوف اختلفوا فيما بينهم. محي الدين بن عربي يرفض في «رسالة ما لا يعول عليه» أن يُرى جمال الله في مخلوقاته، معتبرًا أن ذلك مما لا يُعول عليه، في الوقت الذي رأى جلال الدين الرومي الله في محبوبه المتصوف الشهير شمس الدين التبريزي.
الاختلاف إذا قيمة طبيعية، لكنها قد تكون تعرضت للـ«تبشيع» ضمن فلسفة سياسية كاملة توسطت بالفلسفة الدينية ( أتحدث عن الفلسفة هنا باعتبارها فكر)، من أجل هذا يُخصص بن مخلوف جزءًا من كتابه لعلي عبد الرازق، الفليسوف المصري في القرن العشرين صاحب كتاب «الإسلام وأصول الحكم».
وفيه يُفند حكاية الطاعة العمياء للحكام، التي أورثت بالتساوي طاعة عمياء للخطباء، هذا الفصل من كتاب بن مخلوف يبدو لي محاولة من مؤلفه قبل أن يختم عمله لرفض اعتبار الجمود العقائدي جزءًا من طبيعة الإسلام.
العرب مثل الغربيين في حاجة إلى فهم إمكانية الاستماع إلى صدى صوت مختلف لثقافتهم الخاصة، يحاول «لماذا نقرأ الفلاسفة العرب» تبرير رواية ثانية عن حياتهم الفكرية وقبلها حياتهم اليومية، وهذه هي أهمية قراءة عمل بن مخلوف بالعربية في اللحظة الآنية.