- القسم الأول: الدرس الفلسفي في الجامعة المغربية
س: يطرح البحث في تدريس الفلسفة بالجامعة المغربية التساؤل عن بداية هذا التدريس وتحولاته, وذلك في أفق بناء تصور ممكن لوضع ذلك التدريس وصيرورته, فكيف كانت البداية? وهل يمكن الحديث عن مراحل كبرى محددة وذات ملامح تميزها عن بعضها البعض?
ج: لاشك أن تدريس الفلسفة في الجامعة المغربية وفي كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط يرتبط بميلاد التعليم العالي في المغرب في السنوات الأولى للاستقلال, أي في نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات, ولاشك أن المرحوم الأستاذ محمد عزيز الحبابي لعب دورا هاما في إرساء التقاليد الأولى لهذا التدريس, خاصة وأنه جمع بين تكوينه الفلسفي الجامعي الذي كان يؤهله للبحث والتدريس, وبين مهمة العمادة حيث كان أول عميد لأول كلية للآداب في المغرب.
لم تكن البدايات سهلة ولا متيسرة, فقد ساهمت عوائق متعددة في بناء الملامح الأولى للدرس الجامعي في الفلسفة بوسائل بشرية ومادية محدودة, وذلك رغم قلة عدد الطلبة وتوزعهم بين قسمين لتدريس الفلسفة باللغتين العربية والفرنسية مثل أغلب الشعب والكليات, في زمن كانت فيه مظاهر وتجليات المرحلة الاستعمارية بمختلف أبعادها ما تزال حاضرة في مختلف فضاءات الواقع المغربي.
استطاع محمد عزيز الحبابي بمعية زمرة من زملائه العرب والأجانب (نذكر من بين الذين قضوا سنوات عديدة في تدريس الفلسفة بالمغرب خلال بداية الستينيات حكمت هاشم من سوريا, وألبير نصري نادر من لبنان, ونجيب بلدي من مصر) بناء الأسس الأولى لهذا الدرس في علاقة وثيقة مع نظام البرامج والدروس كما كانت تقدم في الجامعات التي درس فيها هؤلاء الأساتذة,
وقد شكل هؤلاء في مطلع الستينيات الطلائع الأولى المدشنة للدرس الفلسفي في الجامعة المغربية, لنقل إذن إنه مرت الآن أربعة عقود على ميلاد درس الفلسفة في الجامعة المغربية, وقد لا تكون لأربعة عقود أهمية كبرى في مجال قياس درجة التمرس بالفكر الفلسفي وذلك بحكم التوقف الطويل في ميدان النظر الفلسفي في تاريخنا الفكري.
ويمكننا النظر إلى المراحل الكبرى المؤطرة لهذا التعليم من أكثر من زاوية, زاوية البرامج والمقررات, زاوية التأطير العلمي والتربوي, أو زاوية شروط ومقومات الدرس الفلسفي الجامعي, كما يمكن النظر إلى هذا المراحل من زاوية التفكير في الإنتاجية والمردودية والنجاعة وكذا الدور الثقافي التاريخي الموصول بتطور الذهنيات.
ولعله يمكننا الحديث أيضا عن هذه المراحل من خلال التفكير في عوائق وصعوبات الدرس الفلسفي في الجامعة وفي الفكر المغربي المعاصر.
ومن أجل إحاطة أولية بهذا الموضوع, يمكننا أن ننجز ترتيبا مؤقتا لمراحل كبرى في تعليم الفلسفة في الجامعة المغربية فتتحدث عن مرحلة التأسيس, أي من سنة 59 إلى 70, وهي مرحلة تميزت بنظام الشهادات الذي يختلف عن نظام السنوات, حيث كانت الإجازة مكونة من مجموعة من الشهادات التي يتلقاها الطلبة خلال سنوات الدراسة, وخلال هذه المرحلة وإلى سنة 1973 ظلت الفلسفة تدرس كما قلنا آنفا بلغتين, حيث ينقسم الطلبة إلى قسمين داخل الشعبة الواحدة.
ابتداء من الموسم الدراسي 1973- 1974 سيحذف القسم الفرنسي بحكم التعريب الذي لحق مقررات وبرامج الفلسفة في الثانوي فأصبحت الدروس الجامعية في مختلف أقسام كلية الآداب باللغة العربية.
لكن أهم ما عرفه عقد السبعينيات هو ارتفاع كم الطلبة, حيث بلغ هذا الكم ذروته في نهاية ذلك العقد, وأصبحت شعبة الفلسفة في الرباط وفاس تستقبلان سنويا ما يقرب من ألفي طالب, (1400 طالب في كلية الآداب بالرباط و 600 طالب في كلية الآداب بفاس).
وإذا كان عقد التأسيس (60 – 70) قد منح الإجازة في الفلسفة لمجموع من الطلبة لم يتجاوز عددهم 150 طالبا من القسمين العربي والفرنسي فإن العقد الثاني (70- 80) وخاصة في نصفه الثاني قد نقل تعليم الفلسفة من الناحية الكمية إلى مستوى لا يرتبط بصيرورة طبيعية لنظام في التعليم متوازن ومتحكم فيه وفي مسألة تدبيره ..
وقد ترتب عن الفيض الكمي الإستعانة بالأساتذة من الشرق العربي وخاصة من مصر. وتندرج هذه المرحلة ضمن سياقات تاريخية سياسية معقدة, سياقات عملت فيها مجموعات ضغط على تحويل مسار درس الفلسفة في المغرب بصورة تدعو إلى التساؤل عن طبيعة الأهداف والمرامي الموجهة لها.
وفي العقد الثالث (80- 90) ترتب عن الملابسات المشار إليها سابقا مشاكل جديدة في الجامعة المغربية, مشاكل موصولة بواقع المجتمع المغربي ورهاناته السياسية والثقافية, حيث أعلنت الحرب على الفلسفة وبرامجها بغير حق, وقد تأسست كليات للآداب في الجامعات المغربية الجديدة بدون شعب للفلسفة, ومقابل ذلك وطيلة عقد الثمانينيات وما تلاه أنشئت شعب للدراسات الإسلامية في الجامعات المغربية,
ودرست فيها مواد يفترض أنها تدرس بمناهج عصرية جديدة داخل تخصص الفكر الإسلامي والفلسفة الإسلامية في شعبة الفلسفة, وقد ترتب عن ذلك جملة من النتائج التي تحتاج إلى القيام بدراسات عينية من أجل بنائها وتركيب تأثيراتها المباشرة على الفكر الفلسفي في المغرب وعلى خريطة وبنية الثقافة والمجتمع المغربي.
ومن سوء حظ الفكر الفلسفي في المغرب أنه لم يتم الالتفات إلا مؤخرا لظاهرة إلغاء شعبة الفلسفة من كليات الآداب الجديدة, وقد بدأ تدارك ما حصل, حيث فتحت شعب الفلسفة بكلية الآداب التابعة لجامعة القاضي عياض بمراكش, وقد تفتح استقبالا في أغلب الجامعات المغربية شعب للفلسفة لرد الأمور إلى نصابها المعقول, والعمل على تعزيز مكاسب العقل النقدي والتاريخي في جامعاتنا وفي ثقافتنا العامة. وفي هذا السياق يمكننا أن نفكر في إمكانية تعميم درس الفلسفة في مختلف الجامعات والتخصصات بحكم الدور المنهجي الذي تقوم به في مجال بناء الذهنيات وتطويرها.
س: في هذا الإطار التأسيسي، الأستاذ كمال، تطرح مسألة تعريب الفلسفة بالجامعة المغربية كمرحلة أساسية تثير سؤالا : هل استهدف التعريب تحقيق خصوصية أو استثناء ثقافي حداثي عقلاني للمجتمع المغربي؟ أم أن المسألة كانت تروم – فقط تحويلا لغويا؟
ج: أثار موضوع تعريب الفلسفة في الجامعة وفي الثانوية المغربية كثيرا من الأسئلة المغالطة وقليلا من النقاش الموضوعي والتربوي, كما أثار حساسيات سياسية وسيكولوجية متعددة. ونحن نعتقد أن الموضوع أعقد من المواقف السريعة والجاهزة.
وهو ينفتح على أسئلة تتجاوز المستوى اللغوي والبيداغوجي لتطال أسئلة سياسية وتاريخية وثقافية مركبة, أسئلة موصولة بفضاءات الصراع المحلي والقومي في أبعاده المادية وفي تجلياته ذات الطبيعة الرمزية, سواء في زمن حصولها أو في الأزمنة اللاحقة.
وكما نعرف فإن عملية التعريب لم تتم بسهولة ويسر, فقد كانت معركة ثقافية بكل معاني الكلمة, وقد أثارت زمن حصولها نقاشات هامة وسط المجموعة التي كانت تمارس التدريس, وطرحت إشكالات فعلية بالنسبة للزملاء الذين حصلوا على شهاداتهم الجامعية من القسم الفرنسي والذين كانوا يمارسون التدريس في مطلع السبعينيات.
ولعل الذين عاصروا تلك المرحلة يدركون المجهودات التي بذلت من طرف الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة من أجل ترجمة النصوص والأدوات المساعدة على العمل, ان أساتذة السبعينيات في المدارس الثانوية المغربية يدركون القضايا المعرفية والتربوية التي طرحها التعريب الذي أنجز بصورة ارتجالية, كما يدركون أشكال المقاومة والجهد الذي بذله جيل كامل من الأساتذة وهم يغالبون واقعا جديدا ,
واقعا لم يحصل فيه فقط تعريب الفلسفة بل إعداد مقرر جديد بمواصفات معينة وبصورة مرتجلة أيضا , مما ضاعف الصعوبات وعمق القضايا التي أصبح يواجهها درس الفلسفة وتعليم الفلسفة في نظامنا التعليمي.
هنا يمكن أن نشير باختصار إلى أن المسألة في العمق لم تتخذ مسارا تربويا لغويا موصولا بأسئلة تاريخ ومجتمع وثقافة تتجه لتعميق وترسيخ العقلانية والفكر النقدي في المجتمع والثقافة المغربية, بل إنه اتخذ مسارا آخر حيث ارتبط التعريب بتدخلات أخرى كانت تتجه لمحاصرة درس الفلسفة ومناهجها وآفاقها الفكرية في ثقافتنا ومجتمعنا.
فقد اختلطت القضايا وبرز فيها ملمح محاصرة الدرس الفلسفي في المدرسة المغربية والجامعة المغربية. والأمر الذي يدعو إلى التفكير هنا هو الإرادة السياسية العنيفة التي وضعت بعد ذلك ودون حرج مناهج في الدراسات الإسلامية باعتبارها البديل المناسب لحضور درس الفلسفة في المدرسة والجامعة المغربية, مغفلة ومتجاوزة لمختلف جهود الفكر الإسلامي في تبيئة وتوطين اللغة الفلسفية في فكرنا, ولاشك أن نتائج ما حصل حاضرة في واقع الحال بصور مختلفة.
هناك أمر آخر لا ينبغي إغفاله في سياق التفكير في موضوع تعريب الفلسفة, وهو يتعلق بعدم عزل تعليم الفلسفة بالعربية عن سؤال التعريب في برامج التعليم المغربي وسؤال التعريب في الاختيارات السياسية والإيديولوجية للحركة السياسية المغربية.
ذلك أن هذه الأسئلة تسمح بفهم أفضل لحدث يبدو في ظاهره تقنيا, في حين أنه في العمق تاريخي يتجاوز المدرسة والتعليم ليرتبط بأسئلة واختيارات أخرى تؤسسه وتضع له السياق العام الذي يتجه نحوه ويتبلور في إطاره.
إن اللغة والمدرسة والجامعة فضاءات لا يمكن فصلها عن أسئلة التاريخ الكبرى التي يحصل التوافق أو التواطؤ في موضوعها, خدمة لآفاق تتجاوزها, آفاق ترتبط في العمق بأسئلة الصراع الثقافي والصراع السياسي في بلادنا, ولعله ترتبط في مستوى آخر من مستويات البحث بعوائق وصعوبات ترسيخ آليات العقل النقدي في فكرنا.
س: وهل يمكن اعتبار ما واكب وتلا تعريب الفلسفة من حركية وتطورات تمثلت في اتساع قاعدة طلبة قسم الفلسفة والاجتماع وعلم النفس بالرباط وفاس حيث نشطت القراءات والكتابات الفلسفية ونشط الاشتغال بالتراث الفلسفي العقلاني وقراءته قراءة جديدة ونقدية ونظمت ندوات كبرى مثل ندوات “ابن رشد” و “ابن خلدون“، هل يمكن اعتبار هذه الحركية الفلسفية التي ميزت نهاية عقد السبعينيات تجسيدا لما يمكن أن نطلق عليه الاستثناء الثقافي العقلاني الحداثي وترسيخا له؟.
ج: لا علاقة في نظري للحركية التي عرفها الفكر الفلسفي في نهاية عقد السبعينيات لا بموضوع اللغة والتعريب ولا بما تطلقون عليه في سؤالكم الاستثناء الثقافي العقلاني .. فقد كان الأمر يرتبط بصيرورة محددة داخل جامعتنا الفتية, صيرورة موصولة بإكراهاتها المختلفة,
وقد أثمرت المعطيات التي أشرتم إليها, وهي معطيات موصولة في مجملها بالجهود التي راكمها الجيل المؤسس لدرس الفلسفة في الجامعة المغربية, إضافة إلى ذلك فإن الأنشطة الفكرية التي تحدثتم عنها تعكس التناقضات والمخاضات الأولى التي ستستثمر لاحقا في مشاريع فكرية ما تزال متواصلة, وذلك دون أن ننسى التراجعات والخسائر الحاصلة, حيث لا يوجد تاريخ خطي متصاعد لا للأفكار ولا للمجتمعات.
إن تاريخ الفكر كما نتصوره ليس تاريخا خطيا ويصعب فهمه في سياق تصاعدي خالص. إن الفهم الأقرب إلى روح الواقع في نظرنا هو الفهم الذي يحاول رصد التحولات ومعاينة الصعوبات والعوائق في الوقت نفسه, حيث تعكس عمليات المد والجزر, التوتر والتجاوز تعقد الظاهرة التي نحن بصدد الإمساك بها, ظاهرة تطور الفكر الفلسفي في المغرب.
وإذا كان بإمكاننا أن نتحدث عن قوة نسبية للفكر التاريخي, وقوة مماثلة في الموضوعات والأسئلة المرتبطة ببعض إشكالات السياسية والتاريخ والتراث في فكرنا, فإنه لا يجب أن نغفل مع ذلك محدودية دروس تاريخ الفلسفة في فكرنا , فالمحاولات القليلة المنجزة في هذا الباب تعكس بدورها النواقص والثغرات القائمة وتدعونا إلى مزيد من الانخراط الأكثر تواصلا مع أسئلة وإشكالات تاريخ الفلسفة.
س: إذا تأملنا الآن في تاريخ تدريس الفلسفة بالجامعة المغربية، وأردنا التساؤل عن حصيلة ومكتسباته، فما الذي يمكن استخلاصه؟ هل أفرز ذلك التاريخ تكوين جملة من الباحثين؟ أم تكوين مدرسين للفلسفة؟ أم ساهم في بلورة ثقافة تنويرية لدى الطالب والقارئ المغربي؟ أم أن الدرس الفلسفي الجامعي قصد تحقيق كل ذلك؟
ج: لم ينفصل تعليم الفلسفة في الجامعة المغربية منذ تأسيسه وربما إلى يومنا هذا عن وظيفته المرتبطة بتكوين أساتذة للفلسفة في الثانويات المغربية, وذلك رغم أن الجامعة كانت مستقلة عن المدرسة العليا للأساتذة ومراكز تكوين الأساتذة التي تأسست لاحقا, وقد اشتغل أغلب مجازي الفلسفة خلال عقدي الستينيات والسبعينيات بتدريس الفلسفة في المدارس الثانوية.
لكن هذا التعليم أيضا كان يساهم في تكوين بعض الباحثين الذين كانوا ينخرطون في التدريس الجامعي والبحث العلمي. وقد ساهم هذا الدور المزدوج في إلحاق كثير من الخلل بالمهمتين معا. ولم يكن بالإمكان تجاوز مظاهر الخلل في جامعة لا تتوفر على الشروط المحفزة على العمل البحثي بوسائله الجديدة.
كما أن عمليات تكييف البرامج مع متطلبات المهمة التدريسية في الثانوية المغربية مارست بدورها عمليات اختزالية أفقرت الروح البحثية المفتوحة والتي يفترض أن تكون سمة ملازمة للتدريس الجامعي في مختلف تخصصاته.
لكن وسط العملية المزدوجة المذكورة آنفا تمكن الدرس الفلسفي الجامعي من ابتكار الوسائل التي سمحت له بتركيب جملة من المنجزات النظرية التي أصبحت تشكل قاعدة انطلاق قوية في الثقافة وفي الفكر المغربي المعاصر.
س: الأستاذ كمال, إذا كنا قد رأينا في نهاية الستينيات والسبعينيات مرحلة انتعاش وإشعاع بالنسبة للفلسفة في الجامعة المغربية, فإن المرحلة اللاحقة ستعرف انحسارا, وقد نقول حصارا, فمن محاولة لإغلاق الشعبة إلى عدم إحداثها في الكليات المحدثة منذ بداية الثمانينيات, والتي عرفت إحداث شعبة جديدة (الدراسات الإسلامية), إلى انسداد الآفاق بالنسبة للمتخرجين, … كيف تفسرون هذا الانحسار من حيث شروطه الذاتية والموضوعية? وكيف استقبلتم قرار افتتاح شعبة الفلسفة في بعض الكليات مؤخرا؟.
ج: نحن نعتقد أن تعليم الفلسفة في الجامعة وفي المدرسة المغربية يعتبر من المكاسب التاريخية والتربوية التي لا ينبغي التفريط فيها بل ينبغي العمل على تطويرها وابتكار الأساليب التي تسمح بحضور أقوى لدرس الفلسفة, درس الفكر العقلاني المنفتح على التاريخ والإنسان والمستقبل في مختلف التخصصات والمعاهد والمؤسسات داخل الجامعات المغربية.
وعندما نتابع تجارب تعليم الآخرين في هذا الباب نكتشف إدراكهم العميق لدور الفلسفة في تكوين الشخصية البشرية وفي تطوير قدراتها النظرية في مجال مجابهة أسئلتها بأساليب المقاربة المنهجية العقلانية, فأغلب المعاهد التقنية العليا في الجامعات الأوروبية لا تستغني عن استحضار الموضوعات والنصوص الفلسفية ذات الصلة بقضاياها,
إضافة فائض القيمة الفكري المتمثل في البعد المنهجي للدرس الفلسفي, والمتمثل أيضا في الروح النقدية التي تعتبر سمة ملازمة للنظر الفلسفي في التاريخ وخاصة في الفلسفة الحديثة والمعاصرة.
إن الانقطاع الذي حصل لأسباب معروفة في مجال تدريس الفلسفة في الجامعة, وتقليص حصص الفلسفة في الثانويات المغربية, يعكس جوانب من أشكال التوتر التاريخي العام الحاصلة في تاريخ فكرنا المعاصر, وهذا التوتر يرتبط بقضايا الصراع السياسي والعقائدي في مجتمعنا, والعودة اليوم إلى فتح أقسام وشعب للفلسفة بالجامعات المغربية يشكل أكبر دليل على إدراكنا المتأخر للوظائف الموكولة للفكر الفلسفي في التاريخ …
إن تعزيز المشروع الديمقراطي في حياتنا السياسية على سبيل المثال يتطلب الاستفادة من مكاسب ومنجزات تاريخ الفلسفة وتاريخ الفلسفة السياسية, كما أن إنعاش الحوار العقلاني والتاريخي في فضاءات الفكر والعمل في مجتمعنا يستدعي بدوره ترسيخ آليات وقواعد النظر الفلسفي وآليات وقواعد الفكر المنهجي كما بلورته وما فتئت تبلوره وتطوره مكاسب الدرس الفلسفي المعاصر.
وكل نسيان أو إغفال لوظيفة الفكر الفلسفي في التاريخ سيساهم في تكريس الدوغمائيات والأفكار المطلقة والقطعية .. ونظرا لأننا نعاني في فكرنا المعاصر من أعباء التاريخ وأعباء العقائد كما استقرت وتحجرت في ثقافتنا وتقاليدنا وحياتنا العامة على وجه العموم, فإن الاستعانة بالفكر الفلسفي بمناهجه وبآلياته في النظر والتعقل والتحليل تتيح لنا بناء الوسائل والآليات النظرية المساعدة على تحطيم وتكسير قيود الموروث الكابحة لحرية الفكر والإبداع.
- القسم الثاني: البحث والإنتاج الفلسفي في المغرب
س: إذا سمحتم , ننتقل الآن, إلى مجال البحث والتأليف الفلسفيين بالمغرب ونطلب منكم تقديم تصوركم للتأريخ في هذا المجال أيضا: هل يمكن تحديد بداية أو بدايات معينة للبحث والتأليف الفلسفي بالمغرب? وهل يمكن الحديث عن مراحل وصيرورة هنا أيضا ?
ج: بناء على المعطيات النظرية التي راكم الدرس الفلسفي في الجامعة المغربية يمكننا القيام بتمارين متعددة من أجل ترتيب هذا الإنتاج في محاور أو إشكالات أو أسئلة وقضايا محددة, وذلك لتسهيل عمليات الفهم, ومن أجل حصر المكاسب وتعيين حدودها وآفاقها.
وهنا يمكن أن نشير إلى كل حديث عن بداية محددة لانطلاق البحث والتأليف يفترض ضمنيا تصورا معينا لنظام الكتابة الفلسفية في فكرنا المعاصر.
فإذا ما شئنا التاريخ لكيفيات حضور المفاهيم الفلسفية في الفكر المغربي المعاصر فإنه يمكننا أن تحدد زمنا لهذا الحضور ولطبيعة صيرورته.
وإذا ما انطلقنا من صوغ إشكالات محددة فإنه يمكننا أن نتحدث عن بداية أخرى وهكذا … ولأننا في سياق الحديث الراهن نفضل أن تكون نقطة انطلاقنا مرتبطة بنصوص محددة وتقصد بذلك بالذات النصوص التي أنجز المرحوم محمد عزيز الحبابي وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري, بحكم أن هذه الأخيرة تتيح لنا أكثر من غيرها فرصة معاينة الإرهاصات الأساس لنظام في النظر أقرب إلى روح الفكر الفلسفي.
نظام يستخدم المفاهيم والمناهج وأساليب الاستدلال ذات الصبغة الفلسفية, نظام يصوغ له مرجعية ذات سند موصول بمعطيات دروس تاريخ الفلسفة, وكل هذا يعني أن الإنتاج الفلسفي المغربي يرتبط بالجامعة المغربية, ويرتبط بأسئلة أقرب ما تكون إلى أسئلة التاريخ والسياسية والتراث في نصوص العروي والجابري , كما يرتبط في نصوص الجبابي الأولى بمحاولة في الانخراط في بعض تيارات الفكر المعاصر, مع مساعي نظرية موصولة بمسألة التفكير في بعض عناصر المكونات الذاتية للنظر في التاريخ المحلي (الشخصانية والشخصانية الإسلامية).
ويمكننا أن نفكر أيضا في كتابة تعنى برصد عوائق الدرس الفلسفي في فكرنا حيث يمكننا التاريخ بالسلب لمعاينة أشكال الكوابح والضغوط التي مورست وما تزال تمارس على آلية انطلاق وتطور الكتابة الفلسفية في فكرنا المعاصر.
تعد اللحظة المذكورة عنوانا لانطلاق مشروع في الكتابة والبحث تواصل في الأجيال اللاحقة بصورة متواترة, وبشكل يعكس درجات انخراط الجيل الثاني من الباحثين المغاربة في مواصلة تأسيس وإعادة تأسيس فكر فلسفي قادر على الاستفادة من دروس وأسئلة الفلسفة المعاصرة. ( نحن نشير هنا إلى جهود الزملاء الذين ما فتئوا يسهرون على تدريس الفلسفة في الجامعة المغربية ويدعمون هذا التدريس بالمؤلفات والأبحاث التي ينشرون).
س : يلاحظ أن هناك ارتباطا قويا في كثير من الحالات بين درس الفلسفة كما يمارسه الأساتذة بالجامعة المغربية وبين ما يؤلفونه ويشتغلون بالبحث فيه; إذ يشكل الدرس مشروع بحث وتأليف, كما يصبح المؤلف والبحث مرجعا للدرس …
تدعونا هذه الملاحظة إلى التساؤل حول طبيعة “الإنتاج” الفلسفي المغربي: هل هو تفكير فلسفي في قضايا فلسفية, مثل قضايا الوجود والحياة والذات والحقيقة والإنسان والحرية …? أم هو تفكير حول الفلسفة يحلل خطابها ويشرحه ويعلق عليه ويترجمه ..?
ج: قبل الجواب على سؤالكم الذي نعتقد أنه استمرار للسؤال السابق, نريد تقديم التوضيح التالي: إننا نفترض أن مراقبة تطور الفكر الفلسفي في بلادنا يكون أفضل وأدق عندما يفكر في هذا الموضوع في إطار المدى الزمني المتوسط والطويل, ذلك أن الفكر الفلسفي في ثقافتنا ما يزال في أطواره الأولى.
وهو يعمل على إنجاز مهام مركبة ومعقدة, إنه يواجه الضغوط الذاتية المتمثلة في كوابح الذاكرة التراثية المناهضة للعقل والتاريخ, ويواجه في الوقت نفسه مهمة استيعاب دروس تاريخ الفلسفة, وأسئلة ومفاهيم الفلسفة المعاصرة, كما يواجه مهمة إبداع المصطلح والمفهوم المطابق لنظام الفكر الفلسفي, ويحاول كذلك بناء أسئلة زمانه الخاص في ارتباط مع أسئلة الحاضر المحلي والكوني..
وسط هذا المناخ المعقد والمركب ينجز الفكر الفلسفي المغربي إسهامات نظرية تعكس درجات حيويته ودرجات استيعابه لأسئلته وأسئلة الفكر والتاريخ المعاصر. وبناء على هذا التصور يمكننا أن نقرأ المنتوج الذي يتصدر حقل الفكر الفلسفي في ثقافتنا المعاصرة باعتباره جهدا في التمرس بنمط الفكر الفلسفي, ولعله منتوج يتمتع بخصوصيات تقربه من محيطه التاريخي, دون أن تبعده عن أسئلة القول الفلسفي في تنوعه وتطوره.
ما يوضح هذه المسألة هو أننا قبل ثلاثين سنة لم نكن نساهم في إنشاء نصوص قريبة من فضاء الكتابة الفلسفية, وأن الجيل الذي أشرف ويشرف على تدريس الفلسفة خلال الربع الأخير من القرن الماضي في الجامعة المغربية هو الذي عمل على المساهمة في تعميم الوعي بأهمية الدرس الفلسفي في فكرنا المعاصر, ولعل الأهمية الكبرى لما أنجز هذا الجيل تتمثل في كونه أتاح لنا معرفة المسافة العظيمة التي ما تزال تفصلنا عن مرحلة الانخراط المنتج والمبدع في تاريخ الفلسفة.
س: في نفس الإطار دائما، هل يمكن القول بأن ممارسة التأليف والبحث الفلسفي في المغرب قد وجهها هاجس الخصوصية والهوية، كما يتمثل ذلك في الاشتغال على التراث عامة وإحياء الرشدية خاصة، والاهتمام بالمشروع النهضوي … في أفق تحقيق استثناء ثقافي تنويري حداثي… ؟
ج: أنجزت خلال السنوات الماضية أكثر من محاولة في الإحاطة بالإنتاج الفكري ذي الطبيعة الفلسفية, وقد بدا لي في أغلب هذه المحاولات أن الفكر الفلسفي في المغرب يدور حول إشكاليتين مركزيتين, إشكالية التفكير في الحداثة ثم إشكالية التفكير في التراث, وداخل فضاء هاتين الإشكاليتين تبلورت مجموعة من الكتابات والنصوص والمفاهيم,
بل إن الانشغال بالبحث الإبستمولوجي وببعض القضايا الفلسفية المعاصرة يرتبط بشكل من الأشكال بالاشكاليتين المذكورتين, حيث تتغذى المباحث الابستمولوجية في بعض جوانبها بالهواجس المنهجية المرتبطة بالظاهرة التراثية وتعمق مفاهيم الفلسفة المعاصرة مجال التفكير في ترسيخ الفكر الحداثي في فكرنا المعاصر …
وهكذا يبدو أن الدرس الفلسفي المغربي يمارس دورا مزدوجا , فهو يكشف من جهة عن درجات استيعاب الفكر المغربي لأسئلة ومفاهيم ومناهج تاريخ الفلسفة, ويقدم من جهة ثانية جوانب من قدرة الفكر المغربي على بناء أسئلته المرتبط بإشكالات حاضره وماضيه ولغته وأسئلته.
ومن الملاحظات التي ينبغي الإشارة إليها في هذا السياق هو أن قطاعات معرفية أخرى تعمل بدورها على توطين كثير من مفاهيم النظر الفلسفي بالصورة التي توسع من دائرة النظر الفلسفي, وتمنح إشكالات الفلسفة ومفاهيمها فضاءات جديدة للتجريب والنظر الذي نفترض أنه سيساهم في إخصاب كثير من حقول الفكر والثقافة المغربية.
س: أخيرا، يبدو أن هناك مجموعة من المتغيرات التي تؤشر على وجود تحولات مجتمعية راهنا. فما هي الآثار التي يمكن أن تكون لهذه التحولات على وضع الفلسفة بالمغرب تدريسا وتأليفا؟ وما هو الدور الذي يمكن أن تساهم به الممارسة الفلسفية في تفعيل تلك التحولات، من خلال الدرس البيداغوجي والبحث الأكاديمي والعمل الجمعوي..؟
ج : يقف الدرس الفلسفي المغربي في بداية القرن أمام سؤالين أساسيين, يتعلق أولهما بموضوع مواصلة التفكير في كيفيات ترسيخ الدرس الفلسفي في محيطنا الثقافي, في المدرسة والجامعة وفي فضاء التواصل العام داخل ثقافتنا, وداخل مؤسسات مجتمعنا.
وهذا السؤال يرتبط بمعركة قديمة معركة تحقيق المشروعية التاريخية والفكرية للنظر والممارسة الفلسفية باعتبارها من أهم منجزات الإنسان النظرية في التاريخ, حيث تشكل ويتشكل الوعي بالذات والوعي بالتاريخ والوعي بأهمية النظر العقلاني النقدي والتاريخي في حياة الإنسان وفي حياة الإنسان المغربي بالذات …
وهذه المعركة رغم قدمها فإننا نشعر بأنها ما تزال معركة قائمة, ولعلنا في ظروفنا الراهنة نحتاج إلى مزيد من العمل من أجل تحقيق المكاسب النظرية التي تسعفنا بتطوير الفكر الفلسفي النقدي في حاضرنا, فإذا كنا نقبل أن ثقافتنا ما تزال مفيدة بأعباء التاريخ الثقيلة فإنه ينبغي أن نسلم بضخامة وجسامة المسؤولية الموكولة لمسألة تعميم الفكر الفلسفي والروح النقدية في حاضرنا وعلى جميع الأصعدة والمستويات.
أما المعركة الثانية فإنها تتمثل في سؤال الحداثة الفكرية والسياسية, فنحن نعتقد أن البؤرة القوية التي يمكن أن ينتظم في إطارها فكر فلسفي فاعل وفعال في فكرنا المغربي تتمثل في إنجاز الفكر القادر على بناء وإعادة بناء المشروع الحداثي في فكرنا وواقعنا …
ذلك أن كل أسئلة حاضرنا ترتبط بسؤال الحداثة والتحديث, سؤال الفعل التاريخي والاجتماعي والثقافي المتمركز حول قضايا الإنسان الكبرى في الوجود والمجتمع وهذه المسألة ترتبط أيضا بالفلسفة والفكر الفلسفي.
وهنا لابد من التوضيح بأن دلالة الحداثة في هذا السياق موصولة في نظرنا بالفعل التاريخي المبدع, أفعال التأصيل التي تسلم بأن الرؤية الفلسفية الحداثية للعالم وللمجتمع وللتاريخ رؤية تركب في صلب عمليات المواجهة التاريخية الفعلية, وأنها لا توجد معلبة أو جاهزة في مكان بعينه, وعلينا أن نبدعها ونركبها في ضوء أسئلة حاضرنا وتاريخنا وبكثير من الجهد الذي لا يفرط في مكاسب التاريخ الحديث والمعاصر.
انطلاقا مما سبق يلعب الفكر الفلسفي العقلاني الحداثي كما وضحناه وكما نتصوره دورا مركزيا في تعزيز آليات التحول الرامية إلى تطوير مجتمعنا وتطوير مواثيق تعاقداته وتوافقاته السياسية والتاريخية.
وهو لا يقوم بتعزيزها بصورة آلية أو مباشرة. فالأدوار التي يقوم بها الفكر الفلسفي في التاريخ لا تقاس بآنيتها أو بوظائفها المباشرة, بل إن أهمية الفكر الفلسفي المتمثلة في نشر وتوسيع دوائر ثقافة الحوار والنقد, تتيح للناشئة الجديدة إمكانية استيعاب القيم الفلسفية المعاصرة, القيم التي تمكنها من دعم المجتمع الجديد الذين نتطلع إليه جميعا في مجالات السياسية والاقتصاد والفكر, ولنقل في مجالات الحياة.
أجرى الحوار: عبد المجيد الانتصار وجمال هشام