الغيريـّة في الخطاب الروائي: “الطيب صالح” نموذجا
“إلى الذين يرون بعين واحدة و يتكلمون بلسان واحد و يرون
الأشياء إما سوداء أو بيضاء، إما شرقية أو غربية.”
من رواية موسم الهجرة إلى الشمال ص 152
ننطلق في دراستنا للغيرية في الخطاب الروائي عند الطيب صالح من روايته “موسم الهجرة إلى الشمال”، التي تعد من بين أهم الروايات التي تهتم بالصراع بين الشرق و الغرب، و ذلك لكونها أثارت جملة من القضايا الهامة كقضية الهجرة و فقدان الهوية و رفض الآخر ، فالرواية تتأسس في مجملها على التقابل بين الأنا و الآخر، حيث يرمز الآخر إلى ثقافة الغرب و حضارته التي تجد أبرز تجسيداتها في المرأة الغربية و ما تختزله من قيم.
إن المرأة هي المعيار الذي يتم عبره معاينة البعد الحضاري الإنساني، لذلك نجد الخطاب الروائي عند الطيب صالح يستحضر الحضارة الغربية و الحضارة الشرقية و يقيم تقابلا بينهما بتوظيف هذا المعيار، ليثير من خلال هذا التقابل إشكال الهوية بوصفه إشكالا محددا للإنسان السوداني و مشخصا لوعيه بذاته و وعيه أيضا باختلافه. إن هذا الوعي يجد امتداده في موقفه من حضارة الغرب الذي يختزل موقف الرفض، و ذلك من خلال فعل قتل المرأة الذي يمارسه مصطفى سعيد مثلا في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”.
تتلخص الإستراتيجية الموجهة لهذه الورقة في محاولة موضعة الخطاب الروائي عند الطيب صالح في إطاره العام باعتباره يشكل حلقة في سلسلة الروايات التي لمست إشكال الغيرية و حاولت أن تقدمه في قالب روائي مبني على رصد العلاقة بين الشرق و الغرب أو الشمال و الجنوب.
إن هذا التمثل لثنائية الأنا و الآخر نجده في روايات عديدة اهتمت بإثارة صدام الحضارات و نقل رؤية حضارية معينة مرتكزها فضاءين متقابلين و ما يختزلانه من مفارقات عديدة بين مقومات الغرب و الشرق، من نحو رواية “شرق المتوسط” لعبد الرحمن منيف و “عصفور من الشرق” لتوفيق الحكيم و ” قنديل أم هاشم” ليحيى حقي و “الأيام” لطه حسين و غيرها. سنحاول تحقيقا لهذه الإستراتيجية التركيز على محورين أساسيين:
– ضبط البنية المعرفية المؤسسة لثنائية الأنا و الآخر في الخطاب الروائي عند الطيب صالح، و ذلك من خلال ضبط آليات اشتغاله إنتاجا و تأويلا.
– رصد أوجه التعالقات الأفقية منها و السلمية التي تنتظم وفقها المكونات التي من خلالها ناقش الطيب صالح هذه الثنائية، و ذلك لحصر أنماط التفاعل بين الأنا و الآخر في تحديده للغيرية، باعتبار هذه الغيرية تجسد الاختلاف السالب الذي يضعنا في مواجهة اختلافاتنا بأبعادها المتشعبة الإيديولوجية منها و العقائدية و القيمية و الثقافية و غيرها. إننا في هذه الورقة ننطلق من الموازاة بين فعل القراءة و إعادة الكتابة من جديد على اعتبار أن ضبط معمارية الخطاب عموما و فك طلاسمه و ضبط إيحاءاته و حصر رموزه و الوصول إلى منابع إنتاجه لا يمكن أن يتم في نظرنا إلا بإعادة كتابتها بصيغة أخرى. إن القراءة كما يقول بسام قطوس (1998):
” فعل خلاق و ليست فعلا انعكاسيا للكتابة، فعل ينبش و يحفر بحثا عن المعاني الثواني أو الغائبة، لإعادة بناء تصور للنص.”
1 – البنية المعرفية المؤسسة للرواية:
ننطلق في رصدنا للبنية المعرفية للرواية من التوقف عند ثلاث بنيات محورية أساسية تتشابك فيما بينها و هي:
– البنية المحورية التي يؤسسها العنوان.
– البنية المحورية التي تؤسسها مقدمة الرواية.
– البنية المحورية التي تؤسسها خاتمة الرواية.
إن قراءة هذه البنيات المحورية الثلاثة تتيح لنا استخلاص البنية المعرفية العامة التي تشكل الأساس العام الذي ارتكزت عليه الرواية.
1 – 1 قراءة في العنوان:
يعد العنوان العتبة الأولى التي عبرها يتم التواصل مع القارئ. إنه دعوة مباشرة إلى القيام بفعل القراءة، و من تم بفعل التأويل. يمكن عد العنوان مؤشرا على البنية المعرفية العامة للنص . فإذا انطلقنا من قراءة خطية لعنوان الرواية: “موسم الهجرة إلى الشمال”، فسنلاحظ أنه يحيل على حركة ذات بعد واحد تسير في اتجاه فضاء واحد هو الشمال، لكن إذا تجاوزنا هذه القراءة الخطية و اعتمدنا قراءة عمودية تقوم على مبدأ التداعي، فسنلاحظ أن العنوان يدعونا إلى إقامة تقابل بين الهجرة إلى الشمال و العودة إلى الجنوب، من جهة و بين الهجرة التي تتميز بأنها مؤقتة و العودة التي يمكن اعتبارها دائمة. إن الطيب صالح يؤسس انطلاقا من هذا العنوان ثلاث ثنائيات أساسية هي:
– شمال في مقابل جنوب.
– هجرة في مقابل عودة.
– الأنا في مقابل الآخر.
من هنا يمكن اعتبار أن العنوان في عمقه يحيل على فضاء ذو بعدين متقابلين، فالموسم يحيل على وقت محدد، و هو بالتالي يعبر عن لحظة معينة و مؤقتة في سيرورة أو دورة حياة. هذه اللحظة هي هجرة تليها عودة، و بالعودة تكتمل الدائرة، بحيث تصبح نقطة الانطلاق هي نفسها نقطة النهاية و ما يختزله ذلك من عودة الذات إلى أصلها و إلى الأنا.
1 – 2 – قراءة في مقدمة الرواية:
إن هذا التصور الذي نراه مضمرا في عنوان الرواية نجده ظاهرا في مقدمتها، فأول ما نقرأ مباشرة في الصفحة الأولى:
” عدت إلى أهلي، يا سادتي، بعد غيبة طويلة، سبعة أعوام على وجه التحديد، كنت خلالها أتعلم في أوروبا… المهم أني عدت و بي شوق عظيم إلى أهلي.”
فالطيب صالح يفتتح روايته بالإشارة إلى فعل العودة إلى الأهل، الذي يكرره مرتين لتقويته و تأكيده، فهو يعود ليس إلى الجنوب و إنما إلى الأهل و في هذا إشارة إلى أن الشمال يرتبط في ذاكرته بمكان و فضاء معين، في حين أن الجنوب هو أعمق من هذا بكثير إنه يرتبط بالأهل، و إذا حللنا هذين اللفظين فإنه يمكن أن نقيم تقابلا بين لفظ “الشمال”، باعتباره يحمل السمة الدلالية[- حي] و لفظ “أهلي”، باعتباره يحمل السمة الدلالية [+ حي] و بالتالي فالتقابل بين الجنوب و الشمال ليس في العمق تقابلا بين فضاءين أو مكانين أو حتى حضارتين، و إنما هو أكثر من ذلك. إنه تقابل تنصهر فيه جملة من التقابلات التي يصرح بها الطيب صالح منذ البداية و التي يمكن حصرها في التالي:
الشمال الجنوب
أوروبا قرية صغيرة على منحنى النيل
فضاء رحب فضاء محدود
ثلج و برد و قر و صقيع شمس و دفء و فرح
بلاد “تموت من البرد حيتانها “ذاك دفء الحياة في العشيرة”
لا وجود للأهل.” وجود الأهل.
حاضر/غائب غائب/ حاضر
إن تمثل الهوية و الاختلاف في هذه الرواية ينبني على تعارض الحمولات الدلالية التي تخلق بنية من المفارقات المتماسكة. لذلك يمكن اعتبار الرواية منطقة تخول النظر إلى العلاقة بين الأنا و الآخر من زوايا متعددة، لكنها كلها في نهاية المطاف تصب في اتجاه تدعيم رؤية محددة. فالراوي قد ذكر السبب الذي دعاه إلى الهجرة و هو التعلم، في حين أنه لم يذكر السبب الذي دعاه إلى العودة،
و هذا يتضمن أن العودة فعل لا يحتاج إلى تبرير، بينما الهجرة فعل غير عادي و لا يستقيم إلا إذا كان وراءه دافع قوي، لذلك نجد الراوي يبادر في الصفحة الأولى إلى ذكر السبب الذي دعاه إلى الهجرة إلى الشمال. تكتمل الصورة إذا وقفنا عند البنية التركيبية التي تشكل منها العنوان، حيث تم توظيف جملة اسمية: “موسم الهجرة إلى الشمال”.
و من المعروف أن من سمات الجملة الاسمية الدلالة على الثبات و كأن الروائي يحاول أن يقول لنا من خلال هذا التوظيف إن هذه حقيقة ثابتة، ومن هنا يمكن أن نستشف أن الهجرة مرتبطة بموسم أي بمدة زمنية محددة، أضف إلى ذلك أنها فعل اضطراري لا تتدخل فيه إرادة الفاعل على خلاف الجملة الفعلية ” عدت ” فالفاعل هنا يقوم بالوظيفة الدلالية المنفذ، و المتكلم هو المنفذ لفعل العودة و محورها.
إن فعل العودة يتكرر في الرواية بصيغ و أشكال مختلفة، فالراوي يختار العودة و مصطفى سعيد هو أيضا يختار العودة. إن العودة لازمة تتحكم في البنية المعرفية للرواية و تحدد معماريتها من جهة و رؤيتها للآخر من جهة أخرى، لذلك نجد أن الطيب صالح ينهي بها الرواية و لو بصيغة تختلف عن الصيغة التي وظفها في بداية الرواية على نحو ما سنرى.
1 – 3 – قراءة في خاتمة الرواية:
إن فعل العودة الذي سجل حضورا قويا في مقدمة الرواية باعتباره فعلا حتميا و طبيعيا أصبح في خاتمة الرواية موضع شك و حيرة و تساؤل، فنرى أن الراوي قد أصبح موزعا بين فعل العودة و الهجرة و بين الشمال و الجنوب. إن كلا الفضاءين يتجاذبانه، فهو يريد التوجه نحو الشمال، كما ورد في الصفحة169:
” استقر عزمي على بلوغ الشاطئ الشمالي. هذا هو الهدف”.
غير أنه ما يلبث أن يعتريه شك في هذا الهدف كما نقرأ في نفس الصفحة:
“…تلفت يمنة و يسرة، فإذا أنا في منتصف الطريق بين الشمال و الجنوب. لن أستطيع المضي و لن أستطيع العودة…”
يبلغ هذا التردد درجاته القصوى في تمزق الأنا بين هذين الفضاءين في آخر جملة ختم بها الطيب صالح روايته في الصفحة 171:
” .. و بكل ما بقيت لي من طاقة صرخت ” النجدة. النجدة.”
و إذا كان فعل العودة قد تكرر مرتين في بداية الرواية، فإن طلب النجدة يتكرر أيضا مرتين. إن العودة في بداية الرواية فعل اختياري، أما في نهاية الرواية فهي فعل اضطراري يمليه الواجب. في بداية الرواية لم يحتج الراوي لأن يعلل عودته، أما في النهاية فهو مضطر على الأقل، أمام نفسه للبحث عن مبررات لكي يقنع نفسه بضرورة العودة، كما جاء في الصفحة 170:
” لأن ثمة أناس قليلين أحب أن أبقى معهم أطول وقت ممكن و لأن علي واجبات يجب أن أؤديها.”
إذن نلاحظ أن الرواية تنطلق من إيمان بفعل العودة إلى الشك فيه، و بين هذين الفعلين مسار طويل يشغل فيه الطيب صالح مجموعة من البنيات الكبرى التي ستتضافر رغم تعددها و تنوعها لتصب في بعد واحد هو رؤية الذات في علاقتها بالآخر، و في منحى واحد هو الصراع بين الشمال و الجنوب، و بالتالي تحديد الذات من خلال تحديد الموقف من هذا الصراع.
نخلص إلى القول إن بين عنوان الرواية و مقدمتها و نهايتها تعالقا يجعل من الرواية كلا متلاحما يخدم إستراتيجية محددة، فالعنوان، باعتباره النواة الدلالية التي تحتل موقع الصدارة، يثير منذ الوهلة الأولى إشكال العلاقة بين الشمال و الجنوب، بكل ما يجسده هذا الإشكال من تعقيدات و منعرجات. إن الطيب صالح يعرض مباشرة في السطور الأولى من مقدمة الرواية حلا مطمئنا باعتبار العودة هي الحل الطبيعي، إلا أنه في نهاية الرواية ينزع عنا هذا الاطمئنان ليضعنا وجها لوجه أمام ضرورة تحديد موقفنا نحن من هذا الإشكال.
2 – معمارية الأنا والآخر في الرواية:
لا يمكن الحديث عن معمارية الأنا و الآخر في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” إلا باستحضار مجموع البنيات الكبرى المشكلة لها، و التي وظفت في عمومها من خلال الاشتغال على مجموعة من الثنائيات و التقابلات الفرعية المتمحورة حول التقابل الرئيسي الذي أقامه الطيب صالح بين الشمال و الجنوب. إن هذا التقابل هو قاعدة أساسية مهيكلة لمفاصل الرواية. غير أنه ليس قاطعا و إنما هو تقابل محكوم بمجموعة من نقاط الائتلاف التي يمكن أن نلمسها من خلال نقاط تماثل كثيرة، نذكر منها على الخصوص ما ضمنه في الصفحة 7:
” إن الأوروبيين إذا استثنينا، فوارق ضئيلة، مثلنا تماما…يتزوجون و يربون أولادهم حسب التقاليد و الأصول، ولهم أخلاق حسنة و هم عموما قوم طيبون، مثلنا تماما يولدون و يموتون و في الرحلة من المهد إلى اللحد يحلمون أحلاما بعضها يصدق و بعضها يخيب. يخافون من المجهول و ينشدون الحب، و يبحثون عن الطمأنينة في الزوج و الولد. فيهم أقوياء و بعضهم مستضعفون….لكن الفروق تضيق و أغلب الضعفاء لم يعودوا ضعفاء.”
نلمس من خلال ما أورده أنه ينظر إليهم من الخارج حيث يصف نمط حياتهم و علاقاتهم فيما بينهم دون إقحام علاقتهم بالآخر. إذن فهذا المقطع من الرواية يقدم لنا الشمال و الجنوب باعتبارهما عالمين منفصلين، يتمحور كل منهما حول نفسه رغم ما بينهما من تماثلات كثيرة. من الطبيعي أن تولد هذه الرؤية في بنيتها السطحية موقف القبول، من هنا نجد الراوي يسعى في بداية الرواية إلى تصحيح النظرة السائدة عن الأوروبيين و التي نلمسها من خلال الأسئلة التي وجهت إليه. إن هذه الرؤية للآخر قدمها الطيب صالح بفنية كبيرة جعلته يعرضها باعتبارها خطوطا مبهمة في لوحة لن تكتمل إلا باكتمال الرواية، حيث ستتضح أن النظرة إلى الآخر التي انطلق منها ليست بهذه البساطة و لا هذه السذاجة و إنما هي نظرة تحمل في داخلها عمق الصدام بين الحضارات و موقف كل حضارة من الأخرى و مدى تقبل كل حضارة للحضارة الأخرى لينتهي إلى تأكيد الاختلاف، و من ثمة تأكيد الصراع، و هذا ما جعله يؤسس تفاصيل الرواية كلها على مجموعة من التقابلات، التي سنحاول في هذه الورقة الوقوف على بعض منها خاصة:
– التقابل بين ملامح شخصيات الرواية.
– التقابل بين الأبعاد الزمانية و الأبعاد المكانية.
– التقابل بين الجنس و الموت.
– التقابل بين الجنس و الحرب.
2 – 1 – التقابل بين ملامح شخصيات الرواية:
يجسد طيب صالح التقابل بين الأنا و الآخر الذي لا يقف عند حدود العلاقة بين الغرب و الشرق أو الشمال و الجنوب، و إنما يتجاوزه إلى المقارنة بين رؤيتين مختلفتين للموقف من الغرب، و سنحاول مقاربة هذه الرؤية من خلال التقابل التي أقامه بين بعض شخصيات الرواية.
2 -1 -1 – التقابل بين شخصية الراوي و شخصية مصطفى سعيد:
يقدم الطيب صالح الراوي- بطل الرواية – باعتباره شخصا عارفا بمحيطه. يقول في الصفحة 51:
” إنني أعرف هذه القرية شارعا شارعا و بيتا بيتا و أعرف أيضا القباب العشر وسط المقبرة في طرف الصحراء أعلى البلد… والحقول أيضا أعرفها منذ أن كانت سواقي.”
بل إنه يعرف أيضا ساكني القبور. يقول في نفس الصفحة:
” و القبور أيضا أعرفها واحدا واحدا، زرتها مع أبي و زرتها مع أمي و زرتها مع جدي و أعرف ساكنيها الذين ماتوا قبل أن يولد أبي، و الذين ماتوا بعد ولادتي و قد شيعت مع المشيعين منهم أكثر من المائة أساعد في حفر التربة و أقف على حافة
القبر في زحام الناس ريثما يوسد الميت بحجارته و أهيل التراب.”
و هو أيضا عارف بالتحولات التي خضعت لها القرية. يقول في نفس الصفحة أيضا:
” أعرف … أيام القحط حين هجرها الرجال و تحولت الأرض الخصبة أرضا بلقعا تسفوها الريح ثم جاءت مكنات الماء و جاءت الجمعيات التعاونية و عاد من نزح من الرجال و عادت الأرض كما كانت.”
يؤسس لهذه المعرفة انطلاقا من علاقته بجده الذي يحتل حيزا هاما في الرواية، بوصفه يمثل ذاكرة القرية. يقول في الصفحة 9:
” و أذهب إلى جدي يحدثني عن الحياة قبل …الثمانين. جدي عليم بحسب كل احد في البلد و نسبه بل بأحساب و أنساب مبعثرة قبلي و بحري.”
إذن هذا هو الإطار الذي يقدم فيه الطيب صالح شخصية الراوي باعتباره عارفا لمحيطه متجذرا فيه و مستمدا شرعيته من هذا المحيط . يقول في الصفحة 6:
” أحس أنني لست ريشة في مهب الريح، و لكني مثل تلك النخلة، مخلوق له أصل له جذور له هدف.”
وقوله أيضا في الصفحة 9:
“و أحس بالاستقرار. أحس أنني مهم،و أنني مستمر و متكامل ” لا… لست أنا الحجر يلقى في الماء، لكنني البذرة تبذر في الحقول.”
و إذا كان الراوي عارف بمحيطه و مستوعب له، فإن مصطفى سعيد شخص ملم بالثقافة الغربية دون الثقافة العربية، إذ تمثل حضارة الغرب و أتقن اللغة الانجليزية و استطاع أن يجد لنفسه موقعا في إحدى الجامعات الغربية، و قد ساق الطيب عدة مقاطع في روايته للتعبير عن هذا التفوق العلمي، نذكر منها على الخصوص ما يلي:
-اكتشفت في عقلي مقدرة عجيبة على الحفظ و الاستيعاب و الفهم- أقرأ الكتاب فيرسخ جملة في ذهني- ما ألبث أن أركز عقلي في مشكلة الحساب حتى تتفتح لي مغالقها- تذوب بين يدي – تعلمت الكتابة في أسبوعين- عقلي كأنه مدية حادة تقطع في برود و فعالية – كنت مشغولا بهذه الآلة العجيبة التي أتيحت لي- كل سلاحي هذه المدية الحادة في جمجمتي – كان عقلي كأنه مدية حادة – كان المعلمون ينظرون إلي كأنني معجزة- مضى عقلي يعض ويقطع كأسنان محراث- الكلمات و الجمل تتراءى لي كأنها معادلات رياضية و الجبر و الهندسة كأنها أبيات شعر- العالم الواسع أراه في دروس الجغرافيا – إنك تتحدث اللغة الانجليزية بطلاقة مدهشة – أقرأ الشعر و أتحدث في الدين و الفلسفة و أنقد الرسم و أقول كلاما عن روحانيات الشرق – و مضى البروفسور ماكسول يرسم صورة لعقل عبقري- عينت محاضرا للاقتصاد في جامعة لندن – استوعب عقله حضارة الغرب – كنت أعيش مع نظريات كينز و توني بالنهار- تعلمت الكثير- كان نابغة في كل شيء- لم يوجد شيء يستعصي على ذهنه العجيب- خبرته في التجارة أفادتنا كثيرا- هو الذي أشار علينا باستغلال أرباح المشروع- هو الذي أشار علينا بفتح دكان تعاوني كان عقلية واسعة- الحيطان الأربعة من الأرض حتى السقف. رفوف،رفوف. … كتب كتب كتب….كتب الاقتصاد و التاريخ و الأدب.
اقتصاد الاستعمار مصطفى سعيد. الاستعمار و الاحتكار مصطفى سعيد. الصليب و البارود مصطفى سعيد. اغتصاب أفريقيا، مصطفى سعيد…لا يوجد كتاب عربي واحد- كان لموزي عقل عبقري- قال لي ناظر المدرسة و كان انجليزيا هذه البلد لا تتسع لذهنك فسافر- مسز روبنسن تقول لي ” ألا تستطيع أن تنسى عقلك أبدا”.
إلا أنه رغم الاختلاف في التكوين المعرفي لكلتا الشخصيتين نجد بينهما بعض التقاطعات فالراوي هاجر هو أيضا إلى الشمال و درس الشعر الانجليزي و هو يتقن اللغة الانجليزية علاوة على ذلك نال شهادة الدكتوراه، لذلك لا عجب أن يكون صلة وصل بين الماضي (الذي يمثله الجد) و الحاضر (الذي يمثله مصطفى سعيد) الذي سيعرف عنه الراوي (الذي يمثل المستقبل) تفاصيل لم يعرفها أحد قبله، و هذا ما جاء على لسان مصطفى سعيد في الصفحة 21:
” سأقول لك شيئا لم أقله لأحد من قبل.”
فمصطفى سعيد يريد من الراوي أن يكون امتدادا له كما هو امتداد لجده.يقول في الصفحة 71:
” أحملك الأمانة لأني لمحت فيك صورة عن جدك.”
إذن، فهذه الشخصيات الثلاثة المحورية في الرواية:
– الجد مصطفى سعيد الراوي.
تمثل فضاء زمنيا ثلاثي الأبعاد:
– الماضي الحاضر المستقبل.
إن الراوي باعتباره رمزا للمستقبل يشير إلى هذه الخطية في الصيرورة الزمنية، و هي خطية يطبعها عدم اليقين و الحتمية. هذا ما نلمسه في الصفحة 135:
“إنني أبتدئ من حيث انتهى مصطفى سعيد إلا أنه على الأقل قد اختار و أنا لم أختر شيئا… أنا الآن وحدي لا مهرب لا ملاذ،لا ضمان. عالمي كان عريضا في الخارج الآن قد تقلص و ارتد على أعقابه حتى صرت العالم أنا و لا عالم غيري. أين إذن الجذور الضاربة في القدم؟”
2 – 1 – 2 – التقابل بين شخصية الجد و شخصية مصطفى سعيد:
إن الجد يمثل عالما يتحكم فيه بعدان اثنان :
1 – الثبات.
2- الإحساس بالانتماء،
و ذلك على اعتبار أن الماضي ثابت غير متغير في عاداته و في طبيعته. يجسد هذا الثبات من خلال وصف الراوي لجده في الصفحة 77:
“…إنه عاش أصلا رغم الطاعون المجاعات و الحروب و فساد الحكام و ها هو ذا الآن يقترب عامه المائة أسنانه جميعا في فمه، عيناه صغيرتان باهتتان تحسب أنهما لا تريان و لكنه ينظر بهما في حلكة الليل.”
و هي الفكرة التي نجدها تتكرر في الصفحة111:
“لكنه بقي على أي حال رغم الأوبئة و فساد الحكم و قسوة الطبيعة.”
و قوله في الصفحة 77:
” إنه ليس شجرة سنديان شامخة وارفة الفروع في أرض منت عليها الطبيعة بالماء و الخصب و لكنه كشجيرات السيال في صحارى السودان سميكة اللحى حادة الأشواك تقهر الموت لأنها لا تسرف في الحياة.”
بالإضافة إلى ذلك يوظف مقاطع كثيرة لوصف جده، نذكر منها ما يلي:
– و هو على هذه الحال لا أدري كم من السنين – كأنه شيء ثابت وسط عالم متحرك -عمره تسعون عاما و قامته منتصبة و نظره حاد و كل سن في فمه – جدي أعجوبة – جدك يعرف السر – و الدنيا على حالها لم تتغير – الحياة لا تزال بخير. – جدي …هل هو حقيقة كما أزعم أنا و كما يبدو – البلد بلدي – حاج أحمد جزء من التاريخ- إنني من هنا أليست هذه حقيقة كافية. – ذاك الكيان العتيق ما يزال موجودا أصلا على ظاهر الأرض
و كذلك من خلال توظيف عدة رموز منها:
– النخلة الضاربة بعروقها في الأرض- النخلة القائمة في فناء دارنا – البلد الآن ليس معلقا بين السماء و الأرض و لكنه تابت.البيوت ثابتة ؟ و الشجر شجر.
يوازي هذان البعدان النقيض المباشر لهما في عالم مصطفى سعيد الذي تحكمه ميزتان :
غياب اليقين و الإحساس باللاانتماء.
1 – غياب اليقين: يقدم الطيب صالح شخصية مصطفى سعيد بكل ما يحمله من تناقضات و بكل ما يختزله من مواقف اتجاه الشمال و مواقف الشمال اتجاهه. باعتماد جملة من المحاور الدلالية المتشابكة التي تترجمها مقاطع يتعالق فيها ما ورد على لسان الراوي مع ما ورد على لسان مصطفى سعيد. يمكن توزيع هذه المقاطع إلى بنيات صغرى كلها تصب في الحقل المعجمي المرتبط بغياب اليقين، و هي كالتالي:
– محور الكذب: يمكن أن نمثل له بالمقاطع التالية:
– ثم عدت إلى الكذب – هذا المصطفى سعيد أكذوبة و أنا أطلب منكم أن تحكموا بقتل الأكذوبة- أنا أكذوبة- كانت تستمع إلي بين مصدقة و مكذبة – أحس بالأكاذيب تتدفق على لساني كأنها معاني سامية -و كنت أحس بالنشوة تسري مني إلى الجمهور فأمضي في الكذب- أنا لست عطيلا . عطيل كان أكذوبة… و رغم إدراكي أنني أكذب فقد كنت أحس أنني بطريقة ما أعني ما أقول و أنها هي أيضا رغم كذبها فإن ما قالته هو الحقيقة –
كانت تلك لحظة من لحظات النشوة النادرة التي أبيع بها عمري كله. لحظة تتحول فيها الأكاذيب أمام عينيك إلى حقائق- أحيانا تخطر لي تلك الفكرة المزعجة أن مصطفى سعيد لم يحدث إطلاقا و أنه فعلا أكذوبة – قال إنه أكذوبة، فهل أنا أيضا أكذوبة- إذا كنا أكاذيب فنحن أكاذيب من صنع أنفسنا- إن مصطفى سعيد كان أكذوبة- أنا أدرك أن الأمر خلاف ما يزعمون عند طلوع الفجر ستأكل ألسنة النار كل هذه الأكاذيب. أنا لست وكر الأكاذيب الفادحة التي بنيتها عن عمد، أكذوبة أكذوبة…كانت تكذب حتى في أبسط الأشياء. تعود إلى البيت بقصص غريبة عن أشياء حدثت لها و أناس قابلتهم لا يمكن أن يصدقها العقل- رأتني فرأت شفقا داكنا كفجر كاذب- وسط عالم مليء بالأكاذيب.
- محور الحقيقة
– كأننا نحن الرجال لم نكن حقيقة و إنما وهم من الأوهام -لا بد أنه قرر أن يقول الحقيقة- من الخير أن تقول لي الحقيقة- الشعر الانجليزي الذي قرأه كان حقيقة- إذا لم يأتني بالحقيقة- كنت في الحقيقة أتعجل سماع القصة- إنني من هنا أليست هذه حقيقة كافية- أم أنني أتخيل شيئا ليس موجودا حقيقة- هل كان يصف حوادث حقيقية – هكذا في لحظة خارج حدود الزمان و المكان تبدو له الأشياء هو الآخر غير حقيقية- و إذا كانت رسومنا المحمومة تغور أحيانا بأفكار لا أساس لها من الصحة – كأنه نصف حقيقة- لو أنني قلت لها الحقيقة.
محور الاحتمال:
أما أنه فقد ذاكرته فهذا محتمل- كانت اللحظة مشحونة بالاحتمالات يبدو له كل شيء محتمل. هو أيضا قد يكون ابن مصطفى سعيد أو أخاه أو ابن عمه – العالم في تلك اللحظة القصيرة، بمقدار ما يطرف جفن العين، احتمالات لا حصر لها….كل تلك الاحتمالات استقرت على حال واحد – قال لي يا لي من مجنون طبعا أنت لست ابن مصطفى سعيد و لا قريبه و أنت لم تسمع به من قبل في حياتك. إنني نسيت أنكم معشر الشعراء ، لكم سرحات و شحطات- و إذا كان الاحتمال الآخر هو الصحيح.
محور السراب:
– و صفحة البحر حين يهدأ سراب آخر- بدت لعيني تحت ضوء المصباح الباهت كأنها سراب لمع في صحراء- إذا كان السراب أحيانا يخدعنا- تقول لي إنها ترى في عيني لمح السراب في الصحارى.
محور الوهم:
– و إنما وهم من الأوهام – هذا المصطفى سعيد لا وجود له إنه وهم خرافة – كنت توهم كلا منهن بالزواج- أوهام أحلام يقظة مصطفى سعيد لم يحدث إطلاقا و أنه فعلا.. طيف أو حلم أو كابوس- سيتحول مع مرور الزمن إلى خرافة – البلد الذي تتحكم فيه الخرافات- هاأنتم تؤمنون بخرافات من نوع جديد خرافة التأميم الوحدة العربية الوحدة الإفريقية – أشباح الليل تتبخر مع الفجر.
محور التلفيق:
– هذا زور و تلفيق- رويت لها حكايات ملفقة عن صحارى ذهبية الرمال و أدغال تتصايح فيها حيوانات لا وجود لها، قلت لها إن شوارع عاصمة بلادي تعج بالأفيال و الأسود و تزحف عليها التماسيح – كلام ملفق لا أساس له من الصحة.
2- الإحساس باللاانتماء: عبر عنه بتوسل جملة من المقاطع منها:
– وجها لم أعرفه- ليس من أهل البلد، لكنه غريب – غريب- لا يعلمون عنه الكثير- لا يعلم عنه سوى أنه أتى من الخرطوم- هو – لا أنا الغريب- من أين هو و لماذا استقر في هذا البلد- لكن ربما لأنه ليس من أهل البلد لم ينتخبوه- شيئا لا يود أن يبوح به- أية أسرار في هذا البلد- كانت كأنها شخص غريب جمعتني به الظروف- رجل غريب لا أعرفه يدعوني – لعلني كنت مخلوقا غريبا أو لعل أمي كانت غريبة- دائم التبدل و التحول مثل القناع الذي على وجه أمي- كنت أحس بأنني مختلف- لكن اللغة ليست لغتي تعلمت فصاحتها بالممارسة – لا أحد هنا يذكره على الرغم من أنه قد قام بدور خطير في مؤامرات الانجليز – و ما هو إلا يوم أو أسبوع حتى أضرب خيمتي و أغرس وتدي في قمة الجبل.”
يتكامل الحقل المعجمي المرتبط باللاانتماء مع الحقل المعجمي المرتبط بالسفر الذي يعمق هذا الإحساس على نحو ما نرى في الصفحة 28:
” فكرت قليلا في البلد الذي خلفته ورائي فكان مثل جبل ضربت خيمتي عنده و في الصباح قلعت أوتادي و أسرجت بعيري وواصلت رحلتي و فكرت في القاهرة فتخيلها عقلي جبلا آخر أكبر حجما سأبيت عنده ليلة أو ليلتين ثم أواصل الرحلة إلى غاية أخرى.”
وقوله في الصفحة 30
” كان كل همي أن أصل إلى لندن جبل آخر أكبر من القاهرة.”
2 – 1 – 3 – التقابل بين مصطفى سعيد و جين مورس:
إن بعدي غياب اليقين والإحساس باللااتنماء قد جعلا مصطفى سعيد مهووسا بالبحث عن انتماء يعطيه معنى لوجوده و يتيح له إيجاد أرضية ثابتة يمكنه الوقوف عليها. لقد حاول البحث عن الاستقرار في الشمال الذي كان يجذبه و يغريه، كما ورد في الصفحتين 157 – 158، اللتين يلخص فيهما مصطفى سعيد موقفه من المرأة الغربية التي تعد رمزا للحضارة الغربية:
” كانت عديمة الأهل، كأنها شهرزاد متسولة و لكنها كانت مفرطة في الذكاء و مفرطة في الظرف حين تشاء، يحيط بها حيث تكون لفيف من المعجبين …و كنت أحس إحساسا داخليا أنها رغم تظاهرها بكراهيتي، كانت مهتمة بأمري…كانت ماجنة بالقول و الفعل لا تتورع عن فعل أي شيء، تسرق و تكذب و تغش، و لكنني رغم إرادتي أحببتها…”
إن السلبيات الكثيرة التي يلحظها في الغرب لم تثنه عن السعي إلى الاندماج فيه، كما يتضح لنا من خلال ما ورد على لسان مصطفى سعيد في الصفحة 72:
“زواجا يكون جسرا بين الشمال و الجنوب.”
و قوله في الصفحة 34:
” أنا جنوب يحن إلى الشمال.”
و قد تكررت الجملة نفسها في الصفحة143، ولعل هذا التكرار يترجم أنه لم يكن يملك مقومات قوية تشده إلى أصله، فأبوه توفي و علاقته بأمه لم تكن متينة، و هذا ما عزز إحساسه بعدم وجود رابط بينه و بين البلد الذي ينتمي إليه، كما ورد على لسانه في الصفحة23:
” ليس هناك مخلوق أب أو أم يربطني كالوتد إلى بقعة معينة أو محيط معين.”
لذلك كان يستشعر الحرية في الانتماء إلى أي جهة يريد فاختار الانتماء إلى الشمال، غير أنه
قوبل باللامبالاة، و هذا ما عبر عنه مصطفى سعيد، و هو يصف أول لقائه بجين مورس في الصفحة 33:
“و جاءت تسعى نحونا بخطوات واسعة… و كانت تنظر إلي و هي قادمة وقفت قبالتي و نظرت إلي بصلف و برود …و شيء آخر.”
حيث يصور غطرسة المستعمر و إحساسه بتفوق حضارته إحساسا يقوده إلى رفض الآخر و احتقاره، كما ورد على لسان جين مورس في الصفحة 34:
“و في المرة الثانية قالت لي جين مورس أنت بشع لم أر في حياتي وجها بشعا كوجهك.”
و كما ورد أيضا على لسان مصطفى سعيد في الصفحة 157 :
” كنت أجدها في كل حفل أذهب إليه كأنها تتعمد أن تكون حيث أكون لتهينني. أردت أن أراقصها فقالت لا أرقص معك و لو كنت الرجل الوحيد في العالم..”
إن هذا الموقف الذي تعبر عنه جين مورس يتعزز على لسان بروفسور ماكسويل في الصفحتين 96- 97:
“بروفسور ماكسويل كان يقول لي في تبرم واضح” أنت خير مثال على أن مهمتنا الحضارية في أفريقيا عديمة الجدوى فأنت بعد كل المجهودات التي بذلناها في تثقيفك كأنك تخرج من الغابة لأول مرة.”
و هو موقف يتكرر في مقاطع كثيرة من الرواية، من ذلك ما جاء على لسان شيلا غرينود
في الصفحة 140:
” أمي ستجن وأبي سيقتلني إذا علما أنني أحب رجلا أسود.”
و هو موقف كان واضحا في ذهن مصطفى سعيد على نحو ما نرى في الصفحة97:
” لو أنني طلبت استئجار غرفة في بيت أحدهم فأغلب الظن أنه سيرفض، و إذا جاءت ابنة أحدهم تقول له إنني سأتزوج هذا الرجل الأفريقي، فيحس حتما بأن العالم ينهار تحت رجليه.”
إلا أنه رغم هذا الرفض المعلن و الصريح يسعى مصطفى سعيد إلى الاندماج في المجتمع الأوروبي رغبة منه في أن يقبله و ستتحول هذه الرغبة إلى هوس يسوقه رغما عنه إلى التضحية بالقيم العربية، كما يفسر لنا ذلك في الصفحة158 – 159 :
” تقدمت نحوها مرتعش الأوصال، فأشارت إلى مزهرية ثمينة. قالت تعطيني هذه و تأخذني…أخذت المزهرية و هشمتها على الأرض و أخذت تدوس الشظايا حتى حولتها إلى فتات. أشارت إلى مخطوط عربي نادر…قالت تعطيني هذا أيضا…أخذت المخطوط القديم النادر و مزقته و ملأت فمها بقطع الورق و مضغتها و بصقتها …أشارت إلى مصلاة من حرير أصفهان .أثمن شيء عندي…فأخذت المصلاة و رمتها في نار المدفأة…و فجأة أحسست بركلة بين فخدي …و لما أفقت من غيبوبتي وجدت أنها قد اختفت.”
يصور لنا الطيب صالح من خلال هذا المقطع كيف أن الغرب يسعى إلى هدم مرتكزات حضارتنا المتمثلة في التراث و المعرفة و الدين، وهو موقف ينبني بالأساس على انعدام الثقة، و هذا ما عبر عنه الطيب صالح على لسان الرجل الانجليزي في الصفحة 61:
” هنا تدخل الرجل الانجليزي و قال…الذي يعرفه أن مصطفى لم يكن اقتصاديا يركن إليه…الصفة الغالبة على كتاباته أن إحصائياته لم يكن يوثق بها. كان ينتمي إلى مدرسة الفابيانيين الذين يختفون وراء ستار التعميم هروبا من مواجهة الحقائق المدعمة بالأرقام….لا. مصطفى سعيد هذا لم يكن اقتصاديا يوثق به.”
إن موقف الرفض لا يمكن أن يولد إلا صراع الحضارات في إطار معركة غير متكافئة كما ورد على لسان مصطفى سعيد في الصفحتين 161 – 162:
” صرخت فيها أنا أكرهك. أقسم أنني سأقتلك يوما…قالت… أنا أيضا أكرهك حتى الموت….كانت الحرب تنتهي بهزيمتي دائما أصفعها فتصفعني و تنشب أظافرها في وجهي و يتفجر في كيانها بركان من العنف فتكسر…أوان و تمزق الكتب و الأوراق كان هذا أخطر سلاح عندها. كل معركة تنتهي بتمزيق كتاب مهم أو حرق بحث أضعت فيه أسابيع كاملة…و كنت أعلم أنها تخونني.”
وقوله في الصفحة157:
” صفعتها على خدها فركلتني بساقها و عضتني في ذراعي بأسنان كأنها أسنان لبؤة وفتحت فمي لأتكلم لكنها ذهبت و حلفت في تلك اللحظة و أنا سكران أنني سأتقاضاها الثمن في يوم من الأيام.”
إن الطيب صالح يعري الوجه البشع للغرب رغم سعيه لتقديم صورة ايجابية عن حضارته، كما يتضح مما ورد في الصفحتين 61 – 62:
” كان فيما يبدو واجهة يعرضها أفراد الطبقة الارستقراطية الذين كانوا في العشرينات و أوائل الثلاثينات يتظاهرون بالتحرر… و كان أيضا من الأثيرين عند اليسار الانجليزي…حتى منصبه الأكاديمي …يخيل إلي أنه حصل عليه لأسباب من هذا النوع كأنهم أرادوا أن يقولوا: انظروا كم نحن متسامحون و متحررون هذا الرجل الإفريقي كأنه واحد منا إنه تزوج ابنتنا و يعمل معنا على قدم المساواة. هذا
النوع من الأوروبيين لا يقل شرا عن المجانين الذين يؤمنون بتفوق الرجل الأبيض في جنوبي أفريقيا.”
تفسر لنا كل هذه المقاطع السبب الذي جعل الشمال يختزل في ذهن مصطفى سعيد و في لاوعيه في بعد واحد تمتزج فيه المأساة بالوهم و هي فكرة نراها تتردد غير ما مرة في الرواية في مقاطع من نحو:
– و قادني النداء الغريب إلى ساحل دوفر و إلى لندن و إلى المأساة ص 31.
– أنا الملاح القرصان و جين موس هي ساحل الهلاك.”ص 162
– و حملني القطار إلى محطة فيكتوريا و إلى عالم جين مورس.
هذه الجملة تكررت أكثر من مرة فقد وردت في الصفحة 33 و الصفحة 35 و في الصفحة 37، و كأن الطيب صالح يريد ترسيخها في ذهن القارئ. إن هذا التكرار له وظيفة تتمثل في الإشارة إلى أن هذه الجملة هي التي حددت مسار الرواية كلها وبالتالي يمكن اعتبارها الموجه لكيفيات التعالق بين الأنا و الآخر.
72 -1 -4 -التقابل بين المستعمر و المستعمر
إن هذا التصور المتعالي للمستعمر هو امتداد للممارسات الاستعمارية التي يحاول الطيب صالح أن يقربها للقارئ. يقول على لسان الراوي في الصفحة 57:
“و كانوا يتصرفون كالآلهة يسخروننا نحن الموظفين الصغار أولاد البلد لجلب العوائد و يتذمر الناس منا و يشكون إلى المفتش الانجليزي، و كان المفتش الانجليزي طبعا هو الذي يغفر و يرحم. هكذا غرسوا في قلوب الناس بغضنا نحن أبناء البلد، و حبهم هم الدخلاء…إنهم احتضنوا أرذال الناس. أرذال الناس هم الذين تبوؤوا المراكز الضخمة أيام الانجليز.”
فالمستعمر نهب الخيرات البلد و زرع البغضاء بين الأهل ، و لم يكتف بذلك و إنما سعى إلى نشر ثقافته و فرض قيمه، و ذلك من خلال نشر لغته التي تشكل وعاء لهذه القيم و تلك الثقافة، و هذا ما عبر عنه الراوي في الصفحة 98:
” و قد أنشئوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم.”
بل إن عجرفة الاستعمار بلغت مداها حيث أصبح يعتبر نفسه هو صاحب الحق و صاحب الأرض و هذا ما يتبين لنا من المقطع التالي المأخوذ من الصفحة97:
“حين جيء لكتشنر بمحمود ود أحمد و هو يرصف في أغلال بعد أن هزمه في موقعة أتبرا قال له لماذا جئت بلدي تخرب و تنهب. الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الأرض و صاحب الأرض طأطأ رأسه و لم يقل شيئا.”
إن ما يؤسس لهذه الممارسات هو شعور الازدراء الذي يكنه المستعمر للإنسان الأفريقي عموما و للإنسان السوداني على وجه الخصوص، و قد عبر عنه الراوي صراحة في الصفحة 63:
“الرجل الأبيض..سيظل أبدا يحس نحونا بإحساس الاحتقار الذي يحسه القوي تجاه الضعيف.”
و في الصفحة 77:
” نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوروبي فلاحون فقراء.”
و هو إحساس ولد في نفس مصطفى سعيد الإحساس بالتفوق الذي يعبر عنه في الصفحة 97:
” أنا أحس اتجاههم بنوع من التفوق…و أنا فوق كل شيء مستعمر. إنني الدخيل” و هو إحساس يقوده إلى أن يقوم برد فعل طبيعي يتمثل في الغزو الذي يعبر عنه الطيب صالح غير ما مرة في الرواية على لسان مصطفى بقوله في الصفحة63:
” مصطفى سعيد قال لهم:”إنني جئتكم غازيا”.”
و في الصفحة71:
” النهاية…لعله كان يريدها في الشمال في ليلة جليدية عاصفة نهاية الغزاة الفاتحين.”
و في الصفحة98:
” نعم يا سادتي إنني جئتكم غازيا في عقر داركم قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ.”
و في الصفحة162:
“أنا الغازي الذي أتى من الجنوب، و هذا هو ميدان المعركة الجليدي الذي لن أعود منه ناجيا.”
إن فعل الغزو هذا ما هو إلا نتيجة حتمية للعنف الأوروبي الذي تراكم عبر التاريخ، و الذي يشير إليه الطيب صالح على لسان مصطفى سعيد في أكثر من مقطع، منه ماورد مثلا في الصفحة 98:
” إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل
في السوم و في فردان، جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام.”
و يكرر الفكرة نفسها على لسان البروفسور ماكسويل في الصفحتين 36 – 37:
” هاتان الفتاتان لم يقتلهما مصطفى سعيد و إنما قتلهما جرثوم مرض عضال
أصابهما منذ ألف عام.”
و كذلك على لسان مصطفى سعيد في الصفحة 38:
“غرفة نومي ينبوع حزن، جرثوم مرض فتاك،العدوى أصابتهن منذ ألف عام لكنني هيجت كوامن الداء حتى استفحل و قتل…شيلا غرينود…دخلت غرفتي بتولا بكرا و خرجت منها تحمل جرثوم المرض في دمها.”
إذن، إذا حاولنا أن نقارب البنيات الكبرى التي وظفها الطيب صالح لإقامة هذا التقابل بين المستعمر و المستعمر، نجدها قد أتت موزعة على ثلاثة حقول معجمية أساسية احتلت حيزا كبيرا في الرواية و امتدت على طولها، لذلك وجب استحضارها لتمثل هذا التقابل. هذه الحقول المعجمية هي:
1- الحقل المعجمي المرتبط بالحرب:
يجسد هذا الحقل المعجمي بالأساس عنف الصراع الحضاري بين الشمال و الجنوب. هذا الصراع الذي يجسده الطيب صالح بصيغ مباشرة و أخرى غير مباشرة على نحو ما سنرى في المقاطع التالية:
– أخوض المعركة بالقوس و السيف و الرمح و النشاب و في الصباح أرى الابتسامة ما فتئت على حالها فأعلم إني خسرت الحرب مرة أخرى و بالليل أواصل الحرب بالقوس و السيف و الرمح و النشاب – كانت صيدا سهلا – أخذتك على غرة – خسرت الحرب لأنني لم أعلم و لم أختر- كنت صيادا فأصبحت فريسة- لبثت أطاردها ثلاثة أعوام كل يوم يزداد وتر القوس توترا.. و قد تحدد مرمى السهم- ذات يوم قالت لي أنت ثور همجي لا يكل من الطراد إني تعبت من مطاردتك لي و من جريي أمامك – وتر القوس مشدود و لا بد أن ينطلق السهم. القربة زادت انتفاخا و وتر القوس سينطلق السهم نحو آفاق أخرى مجهولة- رأيت الجنود يعودون يملؤهم الذعر من حرب الخنادق و القمل و الوباء رأيتهم يزرعون بذور الحرب القادمة في معاهدة فرساي-
كانت لندن خارجة من الحرب و من وطأة العهد الفيكتوري كانوا يظنونها شرا جاءهم مع جيوش الاحتلال بروفسور ماكسويل من المؤسسين لحركة التسلح – و تخيلت برهة لقاء الجنود العرب لإسبانيا- صحاري تتعارك رمالها- التاجر الذي اغتنى أيام الحرب كان من أبلد خلق الله في فصلهم – كقوانين الحرب و الحياد في الحرب- الشمس هي العدو- و انتهت الحرب فجأة بالنصر- انتهت الحرب بالنصر لنا جميعا – تركت لندن و قد بدأت أوروبا تحشد جيوشها مرة أخرى لعنف أكثر ضراوة- كبقية الوقت نقضيه في حرب ضروس لا هوادة فيها و لا رحمة – إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة و قعقعة سنابل الخيل اللنبي و هي تطأ أرض القدس- النزاع بين المسلمين و الهندوك في البنجاب- لبثت أطاردها ثلاثة أعوام كل يوم يزداد وتر القوس توترا.. و قد تحدد مرمى السهم-
2- الحقل المعجمي المرتبط بالموت:
لهذا الحقل ارتباط عضوي بحقل الحرب على اعتبار أنه تجسيد للتفوق الذي عبر عنه مصطفى سعيد من جهة و نتيجة لفعل الغزو و إثبات للحضور و تغييب لفعل النفي و الرفض الذي مارسه المستعمر من جهة أخرى، لذلك نراه يتكرر بأشكال مختلفة و ينفذ بصيغ متعددة و يمتد في الزمان و المكان كما يمكن أن نلاحظ من خلال المقاطع التالية التي ترسم حقولا معجمية فرعية نوضحها على النحو التالي:
أ – موت لا ذكر فيه لسببه:
يمكن أن نمثل له بالمقاطع التالية:
يولدون و يموتون- تذكرني بمن مات لأذهب و أعزي- فقد مات أبي- أبي ميت– همند و شيلا غرنود كانتا تبحثان عن الموت سواء قابلتا مصطفى سعيد أو لم تقابلاه- و جدك عاش و سيموت ببساطة- مات مصطفى سعيد منذ عامين قضى آخر أيام حياته في قرية مغمورة الذكر- حياة مصطفى سعيد و موته في مكان مثل هذا يبدو شيئا صعبا تصديقه – معلقا من رقبته بحبل يتدلى من السقف- و يرشي به الموت- آلاف الناس يموتون كل يوم و لو وقفنا نتمعن لماذا مات كل منهم و كيف مات ماذا يحدث لنا نحن الأحياء – كأنه كان يحس بدنو أجله…قبل موته بأسبوع ـ قبل موته بيوم دعاني – موته كان خسارة لا تعوض- سيبتسم في وجه الموت- همد تماما كأنه ميت – كانا قد ماتا لساعتهما – لا يحزنون لموت – لك حتى الممات- ضاجعت إلهة الموت- ينتهي هذه النهاية ـ هذه المرأة هي قدري و فيها هلاكي- سفني تبحر نحو شواطئ الهلاك- و تكون النهاية بعد ذلك في قرية مغمورة- و تنتهي أشياء.
ب – موت بسبب المرض:
يمكن أن نمثل له بما يلي:
زوجها مات بالتايفويد و دفن في القاهرة – في أنقاض مدينة قتلها الطاعون- بقي على أي حال رغم الأوبئة.
ج – موت بسبب القتل:
يعبرعنه الطيب صالح في مقاطع كثيرة من نحو:
لعله الرجل قتل أحدا في مكان ما- أبعدت الفكرة…أن يكون قاتلا- كل شيء فعلته بعد قتلها كان اعتذارا لا لقتلها بل لأكذوبة حياتي- هل قتلت جين مورس؟ نعم. قتلتها عمدا؟ نعم – و قتل زوجته – دفعته الظروف إلى القتل – قتلتهما أنا لماذا لا تحكمون بشنقي فتقتلون الأكذوبة – فملأت رئتيها بعبير لم تكن تعلم أنه عبير قاتل- يذبحه على حافة القبر- سأقتله و سأقتل نفسي- بعد موته قامت شائعات بأنهم دبروا قتله – امرأة ..قتلت زوجها. يحصل ذبح بجوارك و أنت نائم- و ود الريس مطعون أكثر من عشرة طعنات طعنته في بطنه و في صدره و في محسنه – طعنته أكثر من عشر طعنات – وجدناها على ظهرها و السكين مغروز في قلبها- لماذا قتلت حسنة بنت محمود ود الريس الشيخ و قتلت نفسها في هذه القرية التي لا يقتل أحد فيها أحدا- إن المتهم معترف بأنه قتل زوجته- ضغطت الخنجر بصدري حتى غاب كله في صدرها- وضعت حد الخنجر بين نهديها-إنها لم تقتله بل مات من ضربة الشمس- بعد موته قامت شائعات بأنهم دبروا قتله – اغتلني أيها الغول الأفريقي حصلت قتلة في بيتكم- قتلة من؟ بنت محمود قتلت ود الريس. إنها قتلته.أقسم أنني سأقتلك- أخرجت السكين من غمده.
3 – موت بسبب الانتحار: من نحو ما نرى في المقاطع التالية:
هل تسببت في انتحار آن همند؟ – تسبب في انتحار فتاتين ـ من كان يظن أن شيلا غرينود تقدم على الانتحار- و هو لا يستطيع أن يجزم إذا كان انتحارها بسبب أزمة روحية – إنه مات …ربما انتحارا- أو انتحارا.. هل نجده معلقا من رقبته في السقف- سأقتل نفسي – وجدوها ميتة انتحارا بالغاز- و لكن هذا لا يجعله مسئولا عن حوادث انتحار النساء اللاتي انتحرن في الجزر البريطانية في خلال العشر الأخيرة. قتلت نفسها- وقتلت نفسها.
4 – موت بسبب الغرق: يمكن أن نمثل على ذلك بالمقاطع التالية:
أنه مات غرقا و أن جثمانه قد استقر في بطون التماسيح- مات مصطفى سعيد منذ عامين. إنه مات على أي حال غرقا- لقد مات غرقا. عشرات الرجال ماتوا غرقا-
5 – موت بسبب الجرثوم : كما يتضح من خلال المقاطع التالية
هاتان الفتاتان قتلهما جرثوم أصابهما منذ ألف عام – و كاد يقتلني في طلابها الشوق جرثوم مرض فتاك العدوى أصابتهن منذ ألف عام لكني هيجت كوامن الداء حتى استفحل و قتل- تحمل جرثوم المرض في دمها- قد أصابك داء فتاك- حين دخل قبر توت آن آمون قد أصابك داء فتاك لا تدرين من أين أتى سيؤدي بك آجلا أو عاجلا – هل معنى ذلك أننا نسمم حاضرنا و مستقبلنا.
6 – متعلقات الموت: وظف الطيب صالح عدة مقاطع للإحالة إلى متعلقات الموت منها:
قبر توت آن آمون- أحضر الأكفان- وسط المقبرة- لكنه هذه المرة كان يصارع جثة – لم تكن بينها جثة مصطفى كان المحامون يتصارعون على جثتي- دفناها أول الصباح دون ضوضاء- لم نقم مأتما- دفنوه مع بنت محمود حفر قبره بيده- ما كانت تستاهل الدفن- نرميها في البحر أو نترك جثتها للصقور – زرت قبر زوجي – شاء القدر أن يدفن في المدينة التي أحبها- الوفيات- تقام مراسيم الجنازة في كنيسة ستتني- و أطللت من كوة عينيها على الجحيم- كفناهما في ليلتهما- ود الريس حفر قبره بيده- ثمة أوراق كثيرة أخرى دفينة في هذه الغرفة.
3 – الحقل المعجمي المرتبط الجنس
إن الجنس عند مصطفى سعيد كان رمزا للانجذاب إلى الشمال و للرغبة في الاندماج فيه غير أنه ما لبث أن تحول إلى رمز لغزو المستعمر و الانتصار عليه. إنه ميدان معركة بامتياز. معركة استمرت ثلاثين عاما حاول فيها مصطفى سعيد إقناع الشمال بقبوله فلم يحصد إلا الوهم و الإحساس بالرفض و الاحتقار، ليقترن فعل الجنس بفعل القتل و لينتهي بفعل العودة.تقربنا مقاطع كثيرة من هذا الحقل أهمها ما يلي:
– أحسست و أنا الصبي ابن اثنتي عشرة عاما بشهوة جنسية عارمة- فخدان بيضاوان مفتوحان – دخلت غرفتي بتولا بكرا- أفعل كل شيء لأدخل المرأة في فراشي، ثم أسير إلى صيد آخر…جلبت النساء إلى فراشي من بين فتيات جيش الخلاص و جمعيات الكويكرز ومجتمعات الفابيانيين- كنت تعيش مع خمس نساء في آن واحد متاهة الرغائب الجنونية.- أدرت مفتاح الباب بعد شهرين من حمى الرغبة – حولي فتاتان أتفحش بهما و تضحكان – هي إلى جانبي أندلس خصب حولتها في فراشي إلى عاهرة.. و على الجدران مرايا كبيرة حتى إذا ضاجعت امرأة بدا كأني أضاجع حريما كاملا في آن واحد- لا يعنيني منه إلا ما يملأ فراشي كل ليلة.
2 -1 – 5 -التقابل بين جين مورس و الزوج روبنسن:
إذا كانت شخصية جين مورس تشكل الوجه البشع للحضارة الغربية، فإن شخصية روبنسن و زوجته تشكل الوجه المشرق، و هذا ما يمكن استنتاجه من الصفحتين 29 – 30:
” كان مستر روبنسن يحسن اللغة العربية و يعنى بالفكر الإسلامي و العمارة الإسلامية فزرت معهما جوامع القاهرة و متاحفها و آثارها و كانت أحب المناطق إليهما في القاهرة منطقة الأزهر…و يقرأ مستر روبنسن شعر المعري.”
حيث يصور الطيب صالح اهتمام المستعمر بالتراث الإسلامي و تقديره له، بل إنه قد ساهم في إحيائه و المحافظة عليه على نحو ما ورد على لسان مسز روبنسن في الصفحة150 :
” سأكتب عن الخدمات الجليلة التي أداها ركي للثقافة العربية مثل اكتشافه لكثير من المخطوطات النادرة و شرحها و الإشراف على طبعها.”
بل إنها قد تجاوزت ذلك إلى الاعتراف بالسلبيات التي خلفها المستعمر، كما يتضح لنا مما ورد في نفس الصفحة:
” سأكتب عن الدور العظيم الذي لعبه موزي في لفت الأنظار هنا إلى البؤس الذي يعيش فيه أبناء قومه تحت وصايتنا كمستعمرين.”
تشير شخصية روبنسن و زوجته إلى فعل قبول الإنسان الإفريقي على خلاف ما نرى عند جين مورس. هذا القبول الذي تحول إلى احتضان للإنسان الإفريقي و اعتراف به، على نحو ما نرى في الصفحة 148:
“مسز روبنسن تقف إلى يساره و تضع ذراعها حول كتفه و زوجها يطوقهما الاثنين بذراعه…رغم كل شيء فإن حب مسز روبنسن له لم يتزعزع .”
يمكن اعتبار آن همند التي تدرس اللغات الشرقية امتدادا لهذا الموقف الذي تجسده مسز روبنسن و هذا ما يعبر عنه الطيب صالح على لسان مصطفى سعيد بقوله في الصفحة 34:
” رأتني فرأت شفقا داكنا كفجر كاذب. كانت عكسي تحن إلى مناخات استوائية،
و شموس قاسية و آفاق أرجوانية. كنت في عينيها رمزا لكل هذا الحنين.”
و العبارة ستكرر بنفس الصيغة في الصفحة143.
إذن هذان الموقفان يتقاطعان ليشكلا خطين متوازيين تجعلنا ننتهي إلى الخلاصة نفسها التي انتهى إليها الراوي بقوله في الصفحة63:
” لكن مجيئهم لم يكن مأساة كما نتصور نحن ،و لا نعمة كما يتصورون هم.”
3 – التقابل بين الفضاء الزماني و الفضاء المكاني
إذا كانت البنية المعرفية العامة التي تحكمت في مسار الرواية هي الثنائية القائمة بين الأنا و الآخر، فإن هذه البنية المعرفية قد وجدت تجسيدا لها في كل البنيات الكبرى المشكلة للرواية و التي تم التعبير عنها بتوظيف تقابلات داخل حقول معجمية متعددة.
شكل كل حقل منها امتدادا لهذه العلاقة. و كما لاحظنا لم يقدم الطيب صالح ثنائية الأنا و الآخر بشكل تبسيطي و إنما رصد التقابل بين الأنا بكل تشعباته و تعقيداته و بين الآخر بكل تشعباته و تعقيداته أيضا، فالطيب صالح يدعونا في هذه الرواية إلى النظر إلى الأنا في تناقضاتها بوصفها كتلة غير وحيدة القطب و مجابهتها بالآخر بوصفه هو أيضا وحدة ذات أقطاب متعددة قد تصل إلى حد التناقض. إن هذا التداخل الذي لمسناه و نحن ننظر إلى مجموعة من التقابلات التي أقامها بين ملامح الشخصيات نلمسه أيضا في التقابل الذي أقامه بين الفضاء الزماني و الفضاء المكاني بوصفهما فضاءين ينقلان إلينا أحداث و وقائع متشعبة في المكان و في الزمان.
3 – 1 – الحقل المعجمي المرتبط بالفضاء الزماني:
إن الطيب صالح قد تعامل مع الزمن باعتباره فضاء محصورا في امتداده، و ذلك بمختلف المقاييس:
أ – مقياس التاريخ: من نحو:
– 16 أغسطس عام 1898-
– تاريخ صدور الجواز 1916-
– جدد في لندن عام 1926-
– كان ثمة جواز سفر انجليزي صدر في لندن عام – 1929
– عدد من صحيفة التايمز بتاريخ 26 – 9- 1927
– في الفترة ما بين أكتوبر1922 و فبراير 1923
– المؤتمر الذي انعقد في لندن سنة 1936-
ب – مقياس السنة: من نحو:
سبعة أعوام على وجه التحديد – جاء منذ خمسة أعوام- قدرت بأنني أصغرها بخمسة عشر على الأقل- شهرين كل السنة- قضيت ثلاثة أعوام – قضيت ثلاثين عاما نائب مأمور..و قبل أن أحال على المعاش بعامين اثنين. – في أشهر الصيف -غيبة لم تدم أكثر من سبعة أشهر- ثلاثون عاما.
ج – مقياس اليوم : من نحو:
– عشية ذلك اليوم- مساء غد- عند المغيب- عند القيلولة- ليلة أمس – الليلة الماضية- الليلة- أحس بالفجر قبل الأوان – مثل هذه الساعة من الليل- مثل هذه الساعة قبيل الفجر. كان الليل قد بقي أقله- سأبيت عنده ليلة أو ليلتين-لا أدري كم ليلة أمكث عنده- و ما هو إلا يوم أو أسبوع – جلست في الظلام زمنا.
بل إنه قد خرج من الحدود الذي يرسمها الزمان بقوله في الصفحة معبرا عن لحظة تشي بالنهاية155:
” ذلك هو الإحساس بأنني في لحظة خارج حدود الزمن قد ضاجعت إلهة الموت.”
2 – الفضاء المكاني:
كما امتداد الزمان يمتد المكان بكل تشعباته و تفاصيله ليدل على بلدان و مدن ذ و جنسيات، بل ليشير أيضا إلى أحياز ضيقة من هذا الفضاء المكاني من نحو:
– بلدان: انجلترا – مصر- لبنان – جزر الهند الغربية مستعمرة كينيا-
– مدن: نيروبي- برمنغام -لفربول- لقاهرة- وإلى لندن- في لندن- الخرطوم- الاسكندرية-
– جنسيات: فرنسية و ألمانية و دنماركية – صينية.
– أحياز ضيقة محددة: وادي حلفا- هيد بارك – ساحل دوفر – محطة فيكتوريا – حانات
تشلسي – أندية هامستد – أندية بلومزبيري – حانات نايتسبردج
– أحياز ضيقة غير محددة: هذا هو المكان- هنا أيضا صحراء مخضرة مزرقة ممتدة تناديني- لم يخب ظني في البلد و لا أهله- تركت زوجتي و ابنتي في البلد – مضيت أتسكع في شوارع البلد الضيقة المتعرجة- لقد سلكت ذلك الطريق بعد ذلك راجعا- أنا لا بد من هذه الطيور التي لا تعيش إلا في بقعة واحدة من هذا العالم – و إذا بمصطفى سعيد رغم إرادتي جزء من عالمي – في هذا القطر.
و كما خرج الراوي عن حدود الزمان خرج أيضا عن حدود المكان بقوله:
” إني في لا مكان وحدي.
لينقل لنا هذه الحيرة في لحظة غاب فيها الإحساس بالانتماء إلى الأهل في وضع نفسي متأزم يشي بضياع الأفق. وضع نفسي جعل الإحساس بالزمان و المكان متبلدا، على نحو ما نقرأ في الصفحة 167:
” و الكون بماضيه و حاضره و مستقبله اجتمع في نقطة واحدة ليس قبلها أو بعدها شيء.”
إن هذه اللحظة التي يعتبرها خارج حدود الزمان و المكان هي بالذات النقطة المحددة للتقابل بين الشمال و الجنوب و مسار هذا التقابل الذي يشير إليه صراحة الطيب صالح غير ما مرة. يقول في الصفحة 73:
” النهر بعد أن كان يجري من الجنوب إلى الشمال ينحني فجأة إلى زاوية تكاد تكون مستقيمة و يجري من الغرب إلى الشرق نحو الشمال قد يعترضه جبل فيتجه شرقا ، و قد تصادفه وهدة من الأرض فيتجه غربا، و لكنه إن عاجلا أو آجلا يستقر في مسيره الحتمي ناحية البحر في الشمال.” أو ضمنا:
“هناك مثل هنا ليس أحسن و لا أسوا و لكنني من هنا. هذا هو المكان.”
لكن هذا الموقف الذي يعبر عنه الراوي بقوة و تأكيد سنراه يضعف فيما بعد ليصل إلى أبلغ تجسيد له في الرواية بقوله:
” إني في لا مكان وحدي. و هكذا في لحظة خارج حدود الزمان و المكان أمامي و خلفي الأبد أو لا شيء.”
نستخلص من خلال وقوفنا على التوزيع الذي اتخذه الفضاء الزماني و المكاني في الرواية أنه يسير وفق خطين متوازيين شمال/جنوب أو شرق غرب. يؤسس هذان الخطان المتوازيان لموقفين متباينين الموقف من الشمال من جهة و الموقف من الجنوب من جهة أخرى.
و إذا كانت ” تفصل بيننا هوة تاريخية ليس لها قرار.” كما عبر عن ذلك الراوي. فالحل الذي اختاره مصطفى سعيد هو الانكفاء على الذات و البحث عن الانتماء في قرية مغمورة. فقد تحول إلى الجنوب لكي يجد له تربة يستمد منها وجوده و استمراره، إذ إنه كما ورد في الصفحة 6:
” اشترى مزرعة و بيتا و تزوج بنت محمود.”
و هما خاصيتان تتيحان الثبات و أنجب منها ولدين و هي خاصية تتيح له الامتداد. غير أن هذا الامتداد سيتجسد أكثر من خلال الراوي نفسه الذي يشكل جزءا من الحاضر الذي عايش مصطفى سعيد. فالراوي الذي يقدمه الطيب صالح في بداية الرواية بوصفه متفرجا على التغير الذي طرأ على البلد، كما نلمس من الصفحة 8:
” ذهبت إلى مكاني الأثير، عند جذع شجرة طلح على ضفة النهر. ..من مكاني تحت الشجرة رأيت البلد يتغير في بطء.”
سيصبح شاهدا على الماضي و وصيا على الحاضر و فاعلا في المستقبل. و هي خصائص تضعه مباشرة أمام ضرورة تشكيل وعيه بذاته في علاقته بموروثه و بحضارته و أيضا في علاقته بالحضارة الغربية. إن الوعي بهذه الضرورة نجده حاضرا بقوة على امتداد الرواية التي وضعته رغما عنه في قلب إشكالات لم يكن قد خطط لها سلفا. إشكالات هو معني بها بشكل من الأشكال، و بالتالي هو مسوق إلى أن يقدم موقفا محددا منها. في هذا الإطار نجد الطيب صالح قد سار في تعامله مع هذه القضية في مسارين متناقضين تماما يمكن أن نجسدهما انطلاقا من المعادلة التالية:
عالم مصطفى: عالم متغير عالم ثابت.
عالم الراوي : عالم ثابت عالم متغير
عالم القارئ : عالم متغير أم ثابت؟ عالم متغير أم ثابت ؟
توضح هذه المعادلة أن مصطفى كان ينتمي إلى عالم متغير لا وجود فيه إلى رابط يشده كالوتد كما يعبر عن ذلك الطيب صالح، غير أنه لما جاء إلى تلك القرية المغمورة حاول أن يجد فيها عالما ثابتا يسكن إليه. في هذه القرية المغمورة التي ترمز إلى القيم الثابتة سيلتقي مصطفى سعيد بالراوي، الذي نلاحظ أنه في بداية الرواية كان ينتمي إلى عالم الجد بكل ما يجسده من بساطة و يقين نابع من الإيمان بالموروث الثقافي غير أنه سينتهي في نهاية الرواية إلى الانتماء إلى عالم مصطفى بكل ما يجسده من شك و حيرة و مغامرة و بحث عن الذات ليس في موقعها الثابت و إنما في موقعها المتغير المحكوم بمواجهة الآخر في إطار جدلية تفرض الصراع من أجل فرض الذات و خلق القبول بها. جاء في الصفحة 54:
” مصطفى جزء من عالمي فكرة في ذهني طيف لا يريد أن يمضي في حال سبيله
جعلني أنا دون سائر الناس وصيا على ولديه.”
إن مصطفى رغم الحيز الكبير الذي احتله في الرواية و التي جعلت مجمل النقاد الذين تناولوا هذه الرواية سواء العرب أو الغرب يعتبرونه بطلا للرواية ما هو إلا جزء منها، إنه جزء من عالم الراوي،الذي هو بطل الرواية بامتياز. و هو بطل يحيل على بطل آخر ضمني غير معلن عنه. هذا البطل هو القارئ الذي يستغيث به الراوي في نهاية الرواية، و هو يتخبط وسط نهر النيل ما بين الشمال و الجنوب.
إن هذا البطل الضمني أي القارئ هو أيضا سيجد نفسه في قلب الحدث و مسوق إلى أن يحدد موقفه منه. إنه باختصار هو الذي سيضع خاتمة للرواية و ذلك وفقا النموذج الذهني الذي سيبنيه انطلاقا من ثنائية الأنا و الآخر.
-
- لائحة المراجعالحكيم. توفيق 1988: عصفور من الشرق. دار مصر للطباعة- القاهرة.
لوكاش. جورج 1988: نظرية الرواية. ترجمة الحسين سحبان. منشورات التل- الرباط.
توفيق. سمير 2001: الأدب المقارن و صورة الغرب في الرواية العربية .مؤسسة الطوبجي للتجارة و الطباعة و النشر.
طه حسين 1976 : الأيام – دار المعارف القاهرة الطبعة الثالثة.
الطيب صالح 1976: موسم الهجرة إلى الشمال .دار الآداب بيروت
الطيب صالح 1997 : دومة ود حامد دار الجيل بيروت
الطيب صالح 1988: عرس الزين. دار العودة بيروت
منيف .عبد الرحمن1981: شرق المتوسط المؤسسة العربية للدراسات و النشر بيروت.
حمداوي.جميل 2011: صور جدلية الأنا و الآخر في الخطاب الروائي العربي صحيفة الموقف العدد 1665www.almothaqaf.com
حقي. يحيى 1995: قنديل أم هاشم – دار المعارف مصر.
رجاء النقاش 1966: الطيب صالح عبقرية روائية جديدة- مجلة المصور المصرية.
بسام قطوس1998 : استراتيجيات القراءة التأصيل و الإجراء النقدي –المكتبة الوطنية.
جاك دريدا 1988: الكتابة و الاختلاف. ترجمة كاظم جهاد. تقديم محمد هلال سيناصر- دار توبقال للنشر.
عبد الله إبراهيم و آخرون1990 : معرفة الآخر مدخل إلى المناهج النقدية -المركز الثقافي العربي.
أبو هيف.عبد الله 1994: القصة العربية الحديثة و الغرب:سيرورة التقاليد في القصة العربية الحديثة
- لائحة المراجعالحكيم. توفيق 1988: عصفور من الشرق. دار مصر للطباعة- القاهرة.
—————-
- . Bakhtine. M 1978 : Esthétique et théorie du roman Paris : Gallimard – bibliothèque des idées
. Belleau .A 1987 : Du Dialogisme bakhtinien à la narratologie études françaises vol 23 n° 3 p9 – 17
Kudsieh .S. 2003 : Season of Migration to the North. (be)longing , (Re) Location , and Gendered Geographies in
Modern Arabic Travel Narratives . In Inge Boer ed . After Orientalism, Critical Entanglements; Productive Looks.
Thamyris N 10 pp 201-17.
201-17.
Kashima /Y & al2005: Culture, essentialism, and agency: Are individuals universally believed to be more real entities
than groups. in European Journal of Social Psychology .Eur.J.Soc.Psychol/35,pp147 -169
Masmoudi .I. 2010 : Modern migration in two Arabic Novels .In Comparative Literature and Culture V 12.
http://docs.lib.purdue.edu/clcweb