سرديات

عبد الفتاح كيليطو – تَمرُّد

تحمل إحدى مسرحيات فرنسوا مورياك، صاحب كتاب «الروائي وشخوصه»، عنوان «أصمودي». وأصمودي هذا -حسب ما جاء في الأساطير- جنّي له عدّة صفات ومميّزات، لعلّ أبرزها فضوله، أو-لنُقلْ- حبّه للمعرفة.


نعلم أن الجن مولعون بالتقاط الأخبار والاطّلاع على الأسرار: ألم يرِدْ خبر ارتقائهم إلى عنان السماء واستراقهم السمع سعياً إلى كشف ما يخبِّئه الغيب، وما سيحدث في مستقبل الأزمنة؟ ألم يكونوا يزوِّدون العرّافين والكهّان بنُتَف ومقتطفات مما يصل إلى علمهم ؟ والحقّ يقال، لم يكونوا ضنينين بما يلتقطونه من خبايا، وكأن لا جدوى من المعرفة المكتسبة إن لم يبلِّغوها لأتباعهم من بني آدم.


لم يكن أصمودي من الجن الذين يأوون إلى الصحاري والقفار ويرتادون الكهوف والمغارات، كما لم يكن من الذين يختطفون البنات في ليلة زفافهن ويسجنوهن في قفص من زجاج أو في قبو تحت الأرض. الظاهر أنه كان من الجنّ «السماويّين» إلى أن نزل الوحي وأقفلت السماء في وجهه، وصارت الشُّهُب المحرِقة بالمرصاد لكلّ من يقترب من الملأ الأعلى.


وبما أنه لم يعد بمقدوره معرفة شذرات من الغيب ومما تخبئه الأيام،فقد تحول فضوله إلى موضوع آخر، أخذ يهتمّ بما يجري على وجه الأرض، ركَّز اهتمامه على أحوال البشر وشمائلهم وكيفية عيشهم، نساءً ورجالاً، شيوخاً وشباباً، كهولاً وأطفالاً.


صار «مدينياً»، ديدنه معرفة حياتهم وإدراك أسراهم وتتبُّع أخبارهم يوماً بعد يوم. لا يهتم كثيراً بالأزقّة والمتاجر والأماكن العمومية المفتوحة، ما يشغل باله -على الخصوص- هو ما يجري في الدور الموصدة والمساكن المقفلة: ما يفعل القاطنون بها حين يكونون مجتمعين ومنفردين، حركاتهم وسكناتهم، ما يخفون وما يعلنون.


كيف يشبع فضوله؟ الأكيد أنه لا ينظر من ثقب في الباب كما يفعل -عادةً- البصّاصون المتلصِّصون. طريقته فريدة من نوعها، في أعلى السطوح، ميدانه ومرتعه، يرفع سقوف المنازل وينظر إلى ما يجري تحتها… لم يُرْوَ أن أحداً التقى به أو رآه، وبصفة عامّة الجنّ يختفون عن الأنظار، ما عدا في «ألف ليلة وليلة»، حيث يعيش الناس معهم جنباً إلى جنب، ويعاملونهم ويحاورونهم في العديد من المناسبات.


وعلى الرغم من أن أصمودي لم يُشاهَد ، فإن الرسّامين أنجزوا لوحات تعرض قسمات وجهه، إحداها تُصوِّره وقد رفع بيده اليسرى سقفاً، تُظهِره نهماً فاغر الفاه، والاستغراب ملء عينيه الجاحظتين، وفي أسفل الدار رجل وامرأة يتجاذبان أطراف الحديث، وبجانبهما طفلان يلعبان.


خلال فترة طويلة كان أصمودي راضياً عن هذا الوضع، يشعر بسعادة غامرة في أثناء ممارسته لهوايته المفضَّلة: مراقبة الناس مع اختفائه هو عن الأنظار. لم يخطر في بال أحد أن جنّيّاً عارماً يتتبَّع حركاته وسكناته، لم يرفع أحد ذات يوم بصره ليعاينه.


لكن، ومع توالي الأحقاب، أخذ شكّ ينتابه، تبين له أنه عرضة للامبالاة، لا أحد يلتفت إليه أو يعلم بوجوده، لا أحد يهتمّ به، فكأنه ليس بكائن. تساءل -حينئذ- عن جدوى فضوله، عن الفائدة من علمه بأحوال الناس بينما ليس بمقدوره أن يتدخّل في شؤونهم، صار يتألّم لكونه لا يستطيع مساعدتهم والأخذ بيدهم. يراهم يسيرون حسب ما تسخِّره لهم أمزجتهم وأقدارهم، دون أن يكون له أي دور في توجيه سعيهم.


حين وجد نفسه وحيداً وتبين له انعدام جدواه، تملَّكه الحنين إلى ما سلف من الزمن، حين كان له أتباع ينقلون عنه ما يطَّلع عليه في العالم العُلْوي. كان يحسّ -آنذاك- أنه نافع، ينبِّه الناس إلى ما ينتظرهم، فيتلافونه، أو -على الأقل- يكونون على علم بما ينتظرهم. عهد ولّى بلا رجعة.


ذات يوم باغَتَه يأس جارف. كان ممسكاً بسقف بيت، فِناؤه، هذه المرّة، فارغ ولا أثر فيه للزوجين ولطفليهما. ومع يقينه بأنهم لن يصغوا إليه، صرخ بأعلى صوته: «أعينوني، إني بحاجة إليكم وأنتم بحاجة إليّ. ساعدوني على مساعدتكم»، ثم أقفل السقف وأسند رأسه على ذراعه وأجهش بالبكاء.


المصدر

عبد الفتاح كيليطو

كاتب أكاديمي مغربي، حاصل على دكتوراه دولة من جامعة السوربون الجديدة عام 1982، يعملُ أستاذاً بكلية الآداب جامعة محمد الخامس، الرباط، منذ سنة 1968. تم ابتعاثه أستاذا زائرا لعدة جامعات أوروبية وأمريكية؛ من بينها: جامعة بوردو، والسوربون الجديدة، الكوليج دو فرانس، جامعة برينستون، جامعة هارفارد. كتب العديد من الكتب باللغتين العربية والفرنسية، وكتب ويكتُب في مجلات علمية محكَّمة. شكلت أعماله موضوع مقالات وتعليقات صحفية، وكتب، وأبحاث جامعية، بالعربية والفرنسية. نقلت بعض أعماله إلى لغات من بينها "الإنجليزية، والفرنسية، واللمانية، والإسبانية، والإيطالية".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى