مُساءلة الذات ومواجهتُها في رواية “نرجس العزلة” لباسم خندقجي
صدرت “رواية نرجس العزلة” عن المكتبة الشعبية (ناشرون)/ نابلس، عام 2017، وتقع في (170) صفحة من القطع المتوسط، وسبق للمؤلف أن أصدر ديواني شعر؛ الأول “طقوس المرة الأولى”، والثاني “أنفاس قصيدة ليلية”، ورواية “مسك الكفاية- سيرة سيدة الظلال الحرة”، ثم أصدر بعد هذه الرواية رواية “خسوف بدر الدين”، كما أن له كذلك روايات أخرى ما زالت مخطوطة تنتظر النشر. ويعاني المؤلف باسم خندقجي من الأسر في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 2004، وحكم عليه ثلاثة مؤبدات على خلفية اتهامه بالقيام بأعمال مسلحة ضد الاحتلال.
في الرواية الموسومة بـ “نرجس العزلة” للروائي الأسير باسم خندقجي الكثير من الأسئلة، والكثير من الشك، أسئلة مفتوحة على المصير الذاتي والمصير الجمعي، وحتى المصير الوجودي كله، رواية المواجهة الذاتية ومواجهة الذات الجمعية بأخطائها وحماقاتها، ربما لأجل ذلك انحاز السارد لعزلته الاختيارية الطوعية لمواجهة كل تلك الأسئلة.
ربما أحالت هذه الرواية المختلفة في بنيتها القارئ إلى أسئلة إبداعية، قبل أن تثير أسئلة وجودية وفكرية فلسفية، فمن ناحية السرد اختار باسم السرد بالضمائر الثلاث، فقد سرد الفصلين الأول والثالث بضمير المخاطب “أنتَ”، وفي الفصلين الثاني والرابع بضمير “هو”، ليكون الفصل الخامس بضمير “أنا”. ففي هذا التنوع يظهر باسم كل إمكانية لحوار الذات وتعريتها، ففي كل مرة يرى نفسه من زاوية ما، بعين المخاطب وبعين المتحدث وبعينه هو، وبذلك يكون فعلا قد حقق واقعا بنيويا متفقا مع الهدف من العزلة التي لا تعني بحال من الأحوال النرجسية والأنانية، بقدر ما تعني محاكمة الذات ومساءلتها، واستشراف الخطوة القادمة. ويعبر صراحة عن هذه الغاية الجليلة من العزلة في هذا المقطع من الرواية:
“ها أنا على مدار أسبوع أدور في الذاكرة التي دوختني من شدة دورانها بي، لأقع، لأصل إلى أعماق ذاتي، لأبحث عن جدوى حياتي، إذ أكتشف نزواتي وحماقاتي وتفاهاتي ونرجسيتي وخيباتي، أكتشف ضعفي وخطاياي، فمن يتحمل مسؤولية خرابي هذا؟ وهل كان ضروريا كل ما حدث؟ هل كان قدرا؟”/ ص (156)
أسبوع من العزلة كانت كفيلة بمراجعة (25) سنة من الذكريات والحب والشعر والحياة والنضال، ليرى كل شيء أوضح مما كان، يرى علاقاته مع النساء ويقيّمها بشكل موضوعي، وماذا يريد منهن، أيريد الحب أم المتعة أم الدافع لفعل القصيدة، لتصبح كل امرأة مطلع قصيدة يكتبها على حين شبق أو عشق عابر ليلي؟ أم كان يريد الزواج وبناء أسرة ويعيش متناغما مع تقاليد أسرته ويحقق أحلام أمه لترى أحفادها منه؟ وهل المرأة مجرد نون نسوة وكائن جميل ممتع؟ أم أنها وطن الذات وذات الوطن؟ هل كانت حيفا المرأة هي حيفا المدينة لتستحق أن تكون قصيدة يحرسها ليعيش في كلماتها وطنا يبنيه؟ أم أنه كما قال “كان عشقي لوطني يطالبني بامرأة منه على شاكلة امرأة من وطن ووطن في امرأة؟”/ ص (146)
هنا، وفي هذا الموضوع بالذات، تتشابك الخيوط كلها، وتلتقي كل الأفكار، ويحضر الشعر الذي ارتبط بالمرأة كون السارد الذي يروي أو يروى عنه أو يروى له شاعرا، وفي خضم هذا الشاعر تتجمع كل القضايا السياسية والفكرية والاجتماعية والإبداعية، ومن خلال شخصيته المثقفة المتحررة اليسارية الثابتة على مبادئها التي تثقفت بثقافة الحزب الأولى، حيث كانت الأحلام كبرى، يقف على النقيض من بعض رفقائه الذين تنازلوا عن ماركسيتهم واختاروا أن يكونوا ليبراليين، وارتضوا أن يكون ضمن مشروع السلطة الفلسطينية التي يراها باسم وهما لا أكثر، معبرا عن ذلك بقوله: “فالوطن يعاني من خذلان مدمن وتيه مخيف، يزاوله الفلسطينيون منذ زمن دون كلل أو ملل، إذ هو التخبط ما بين الرصاصة وغصن الزتيون”./ ص (149)، وقد انعكست تلك النظرة على شعر الشاعر/ السارد من خلال عنوان أحد دواوينه “عن الأوطان المعطوبة”/ ص (38)، وصولا إلى هذا الاعتراف “أبحث عن وطن، أقع، أتعثر، أتبعثر، لم أكتف بجبلي مدينتي الناهدين، أردت أكثر، وطنا بأكمله”/ ص (164).
وأما موضوع الشعر، فقد جعله باسم محور هذه الرواية، متأرجحا بين الشعر والرواية، ومسائلا وعيه الجمالي في كتابة الشعر، يقول مخاطبا ذاته “تتذكر والتذكر هو فعل الرواية التي تخشاها، وترفض كتابتها، وترفض كان والمكان والزمان، فأنت تلعن زمنك في رواية، وتبارك زمنك الخاص في قصيدة”./ ص (19) ولعل الملاحظ على المقتبس السابق أن باسما ينحاز لشروط معينة للرواية، رافضا فكرة الرواية الكلاسيكية التقليدية القائمة على السرد المعبر عنه بالفعل المتكاثر في الروايات “كان”، والمعتمدة أيضا على الزمان والمكان كعنصرين مؤطرين لحكاية ما، وربّما لأجل ذلك أطلق على النصّ مصطلح “منثور روائي”، لإدراكه الجمالي مدى مفارقته البناء الكلاسيكي للرواية.
وهنا، ربما استطاع باسم أن يتخلص من براثن الرواية الكلاسيكية من عدة جوانب، فهو أولا ينوع في طريقة السرد موظفا الضمائر الثلاث بتناوب معين، ليكسر هذا التناوب في الفصل الأخير، وقد جاءت الرواية من (5) فصول، إن باسما نفسه يتخلص من ذلك البناء السردي الذي اعتمده في روايته السابقة “مسك الكفاية”، إذ كانت الرواية تتألف من (20) فصلا، قسمها بالتساوي على ضميرين (هو/ أنا)، ومن ناحية نصية كذلك خرجت الرواية عن سرديتها المطلقة لتستوعب الشعر، ومن الملاحظ أنه أنهى كل فصل من الفصول الخمسة بنص شعري، وكأننا أمام مقامات روائية حديثة، مستفيدا الكاتب من طبيعة بناء المقامة التراثية التي تجمع ما بين الشعر والنثر، ولكنه فارق المقامة في أمرين على الأقل؛ الأول تجنبه للسجع، والثانية تجنبه القصائد التراثية، لينحاز إلى النمط الشعري الجديد.
عدا هذا المفهوم للرواية وتطبيقه عمليا في هذه الرواية، فإنه ينحاز إلى نوع معين من الشعر، عبر عنه في غير موضع من الرواية، محاولا تعريفه ردا على سؤال:
“- لماذا لا تكتب شعرا مباشرا إذن؟
– الشعر هو الكلمات التي تقع بين الأرض والسماء، في سرمد الأحلام، وسديمها، وعلى قدر الحلم تكون الكلمات”./ ص (96-97)
وعلى الرغم من أن هذا التعريف ليس تعريفا إجرائيا للشعر، إلا أنه توصيف لحالة الشعر ولغته التي تبتعد عن المباشرة، هذا الرأي يوضحه أكثر في موضع آخر: “لست من الذين يحبون شعر الحدث والمعاني المباشرة، قد أكتب بعد عام وأكثر عن يدك هذه التي تدفئ قلبي الآن، ولكنني بصراحة أفضل كتابة ما سيكون”./ ص (126)
ومع أن الكاتب روائي إلا أنه ينحاز إلى الشعر انحيازا واضحا، مؤكدا طقوس كتابة القصيدة والعيش الروحي في أجوائها أكثر من الرواية، “إذ أتحد أنا مع قصيدتي لتمسي وطني المؤقت”/ ص (132)، فالقصيدة هي الوطن وليس الرواية. بل إنه يرى كتابة القصيدة أفضل رد على تردي المشروع الوطني وفشله الذي عبر عنه “بشبه جملة وطنية”، يخاطب السارد نفسه قائلا قبل النص الأخير من الرواية: “أتماسك أكثر، فبعد قليل سأقيم وطنا من كلمات أسكنها وتسكنني إلى حين”/ ص (165)
وبعد كل ما تقدم، هل كان باسم خندقجي يكتب نوعا من الرواية أو السرد أطلق عليه النقاد “التخييل الذاتي”، واختار له تصنيف “منثور روائي” ليلفت نظر المتلقي إلى عملية التجريب الكائنة في النص؟
يحيل المصطلح “التخييل الذاتي” أولا على المزج ما بين فنين من فنون السرد وهما الرواية والسيرة الذاتية، ومع اشتراط النقاد الذين أصّلوا لهذا المصطلح عدة شروط؛ أولها السرد بضمير أنا والإفصاح عن الاسم الحقيقي للكاتب في النص مع الإعلان على الغلاف أن العمل هو رواية. ومع هذه المحددات الثلاث إلا أن رواية “نرجس العزلة” ليست بعيدة عن “التخييل الذاتي”، فقد جاء السارد أو المسرود له أو عنه دون اسم، فلم يطلق عليه الروائي اسما، وبقي مجهولا طوال البنية السردية في الفصول الخمسة، مكتفيا بكتابة اسمه الأول على الغلاف، وهذا المسرود عنه يتقاطع مع حياة باسم في أنه ابن مدينة نابلس ويكتب الشعر والرواية وهو أيضا يساري عسكري، ينحاز إلى البندقية رافضا ما آلت إليه القضية الفلسطينية من سلطة وطنية، يطلق عليها “شبه جملة وطنية”. وها هو يدفع ثمن هذا الانحياز، أسيرا في السجون الإسرائيلية بمؤبدات متطاولة، حتى تبدو أنها ستسهلك أعمارا أخرى مع عمره المفترض.
بالإضافة إلى أن باسما يعني سلفا حقيقة الربط والإحالة الواقعية على سيرته الذاتية، فأثبت ملاحظتين مهمتين، الأولى في بداية الرواية حيث كتب تنويها يقول فيه “إن هذا المنثور لا يمت للواقع بأية صلة، وإن حدث فهذا محض صدفة أو محض عشق”/ ص (9)، وأما الملحوظة الثانية فكانت في آخر الرواية، إذ أثبت هذا التعقيب: “هذا المنثور الروائي كتب في صيف 2010 وجرى التعديل عليه في شتاء 2016″/ ص (170)
ماذا يريد أن يقول باسم هنا؟ وما هي الفائدة من هاتين الملحوظتين؟
لعل التنويه الأول يحيل القارئ إلى الواقع، ويدفعه للتفكير أين تلك الصدفة أو ذلك العشق، وأما الثانية فإنها لازمة لتفسير البنية النصية حيث أن والد السارد متوفى، ولم يكن أبو باسم (العم صالح) متوفيا في عام 2010، فقد توفي العم صالح والد باسم في شهر أكتوبر عام 2016، ولذلك ربما اقتضى التعديل وهذا التعقيب.
وبهذه الرواية يكون باسم قد خطا خطوة أخرى نحو تجاوز المنجز السردي العربي عامة والفلسطيني بشكل خاص، مع أن الأدب الفلسطيني لا يعدم روايات التخييل الذاتي، وربما وجدها الناقد بشكل واضح ومبكر جدا في روايات جبرا إبراهيم جبرا، وفي روايات الجيل الجديد من الروائيين، كما في رواية ربعي المدهون “مصائر: كونشيرتو الهولوكوست والنكبة”، وإبراهيم جوهر “أهل الجبل”، ورواية “أرواح كلمنجارو” لإبراهيم نصر الله، حيث صرح نصر الله غير مرة أنه اشترك في أحداث الرواية وصعد الجبل برفقة المتضامنين مع الأطفال الفلسطينيين المعاقين، وبيّنت ذلك بشيء من التفصيل في كتابي “ملامح من السرد العاصر- قراءات في متنوع السرد”، إذ خصصت فصلا للحديث عن التخييل الذاتي في الرواية العربية، ومنها بطبيعة الحال الرواية الفلسطينية.