سحرية الخطاب الصوفي وجمالية السرد في رواية «الصوفي.. حبي»
تطلّ علينا الكاتبة إليف شافاق من عالم سحري ينهل من خطاب ثقافي شرقي بلغة راقية تجعل القارئ منبهرا تهزه دهشة رهيبة، وهو يكتشف عوالم الكتابة عند هذه الروائية المتميزة. ولعل من أعمالها التي كانت فرصة اكتشافها رواية «الصوفي، حبي» والتي ترجمت إلى اللغة الفرنسية سنة 2010.
اعتمدت الرواية على السرد المتداخل بين حكاية إيلا روبنشاتين، امرأة أربعينية تعيش حياة مستقرة على الرغم من خيانة زوجها لها، وبعض التباعد بينها وبين أطفالها، وحكاية شمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي. تريد الراوية تجاوز روتينها اليومي الممل فتعمل قارئة خبيرة لمخطوط حول حياة الصوفي الكبير جلال الدين الرومي، الذي تتقاطع حكايته مع حكاية الدرويش الكبير شمس التبريزي.
وعبر التداخل بين هذه الحكايات، وعبر التقاطع بين حياة الكاتبة إيلا وحياة عزيز كاتب المخطوط وحياة شمس التبريزي يجد القارئ نفسه أمام سرد عجيب يذكره بحكايات ألف ليلة، ويجعله يسبح في عالم التصوف الإسلامي بكثير من المتعة والدهشة، ويتعلق قلبه بقيم التسامح الإنساني.
ومن ثم فهذه الرواية هي رحلة للبحث عن الله في كل الأمكنة بكثير من السؤال والحيرة والقلق وبكثير من الاطمئنان والاعتقاد والإصرار، ولعل رحلة الإنسان في هذا الكون هي رحلة السؤال عن الله من خلال اختيار الكاتبة للدرويش شمس الدين التبريزي لتمرر عبره مجموعة من الرسائل والخطابات المبنية على أساس السؤال تلو السؤال. يقول هذا الدرويش: «أنا لا أبحث عن شيء مختلف. أنا أبحث عن الله. بحثي هو من الله».
من هنا يبدأ السؤال ومن هنا تتعدد الإجابات لتكشف عن عمق التجربة الصوفية عند هذا الدرويش المتشبع باليقين والمحبة والإخلاص.
إن مبدأ المحاورة هو السبيل إلى استجلاء الحقيقة، ومن ثم فقد اعتمد هذا الدرويش في محاورته مع صاحب الحانة على دحض الحجة بالحجة والدليل بالدليل «هي القاعدة الأولى، أخي: الطريقة التي ترى بالله هي انعكاس مباشر لتلك الرؤية التي ترى نفسك من خلالها. إذا كان الله يجلب الخوف واللوم إلى الذهن في الغالب، فهذا يعني أن هناك الكثير من الخوف والذنب فينا.
إذا رأينا الله ممتلئا بالحب والرحمة، فهذا هو حالنا». ويبدو لي أن الكاتبة قد اشتغلت على نصها كثيرا توثيقا وبناء وهي ترصد تجربة في الإبداع وفي اللغة وفي الفن والجمال، من خلال التعويل على تداخل الصوفي والروائي في هذا النص المميز.
ومع ذلك يبقى السؤال معلقا حول هذا التداخل بين عوالم التصوف وعوالم الرواية بلغة إنكليزية؛ تجعل الكاتبة تركب الصعب وهي تغامر صوب وضع يجمع بين الواقع والخيال، ويستند إلى مرجعيات مختلفة ومتباينة قد تجعل القارئ يطرح أكثر من سؤال؛ من ذلك أن كلمة «GOD» أو كلمة»DIEU» هل تغطيان كلمة «الله» بكل حمولتها الدلالية عند المسلمين عموما وعند المتصوفة بشكل خاص؟
قامت الرواية على عنصر التشويق وهي تخترق أفق انتظار القارئ بأحداث تثير الإعجاب وتحرك الإحساس بالمتعة. لقد جعلتنا الراوية نترقب تلك الرسائل التي كانت تتبادلها مع الكاتب عزيز لما تحمله من محركات للأحداث وشحنها بالدلالات متعلقة بحيرة إيلا وقلقها
اعتمدت الكاتبة على تقنية التقطيع بين الأحداث المركزية في حكاياتها، وبكثير من التشويق والقدرة على تكثيف الأحداث، استطاعت أن تجعل من هذا العمل السردي عملا يشدّ القارئ إليه عبر سرد الكثير من تفاصيل حياة شمس الدين التبريزي ولقائه مع تلميذه جلال الدين الرومي، وتأليف كتاب «قواعد العشق الأربعون» من خلال اعتكاف دام أربعين يوما.
بدأ اللقاء بين الرجلين لما اعترض شمس الدين التبريزي موكب جلال الدين الرومي بسؤال جوهري يخاطب قناعات الرومي ليخلخل لديه بعض المفاهيم وما استقر لديه من قناعات ويقينيات. «قل لي، من فضلك، من الأكبر، في رأيك، الرسول محمد أم الصوفي البسطامي؟
ما هذا السؤال؟ كيف لك أن تقارن بين نبينا المبجل ـ عليه السلام- أخر الأنبياء وصوفي سيء السمعة؟». إن تفكيك السؤال يؤدي إلى تفتيق الإجابة، ما يجعل الخطاب ينفتح على التأويل فيشعر القارئ بالمتعة والجمال من جهة، ويشعر أيضا بأنه مشارك في إنتاج النص وفي تلقيه، وهو يكتشف قدرة الكاتبة وهي تحسن الاختيار لمحطات مهمة في بناء تصور لمسألة العشق الإلهي ومستوياته، ومن هنا تتبادل الأسئلة والأجوبة مبدأ الحصار ومحاولة الانعتاق.
«إذا وجد رجل نفسه صغيرا جدا مقارنة بالله، في حين يدعي رجل آخر أن ما في الجبة إلا الله، فأيهما الأكبر؟ كما ترى، محبة الله هي محيط لا نهاية له، والبشر يطمحون في الحصول على الكثير مما يستطيعون من الماء، لكن في نهاية اليوم فإن الكمية التي حصل عليها كل واحد تعتمد على حجم إناء كل واحد. بعضهم لديهم براميل، وبعضهم الآخر له أحواض، في حين لغيرهم سلطانيات بسيطة».
أثناء حديثي رأيت تعبيرات الدرويش تنتقل من الاستنكار الخفي إلى الاعتراف الصريح ولادته، ومنذ ذلك الحين ارتدى الابتسامة الحلوة لمن يدرك أفكاره الخاصة في كلمات الآخر». هكذا توظف الروائية قدرتها على استنطاق المسكوت عنه بكثير من المهارة تنقل القارئ إلى عصر التبريزي والرومي، وفي الوقت ذاته تستفيد من مثل هذه المحاورة للإجابة عن كثير من الأسئلة حول العشق الإلهي، وتكشف عن أن من هنا بدأت تلمذة جلال الدين الرومي لدى شمس الدين التبريزي من خلال الاعتكاف لأربعين يوما.
استنطقت الرواية الكثير من الخطابات وهي تربط بين زمنين مختلفين، ماض وحاضر، يشتركان في الأسئلة نفسها في البحث عن راحة النفس واستقرار الروح واسترخاء الجسد. لتجاوز كل تلك الحيرة والقلق والاضطراب في مجتمع يمتلك كل وسائل الراحة والرفاه، ومع ذلك يعيش قلقا وجوديا.
ومن ثم فإن وجود شخصية عزيز أغنت هذه الحوارية الوجودية بين زمنين متباعدين في الزمن متقاربين في الرؤية، زمن الدرويش شمس الدين التبريزي وزمن الكاتب عزيز؛ هذا الكائن الروحي الذي كان يأخذ أسئلة الدين والإيمان على محمل الجد، والذي كان يضع مسافة مع كل سياسة معاصرة، لا يكره شيئا ولا إنسانا. كان ملحدا حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي، ثم اعتنق الإسلام بعد كريم عبد الجبار وكات ستيفن بقليل.
قامت الرواية على عنصر التشويق وهي تخترق أفق انتظار القارئ بأحداث تثير الإعجاب وتحرك الإحساس بالمتعة. لقد جعلتنا الراوية نترقب تلك الرسائل التي كانت تتبادلها مع الكاتب عزيز لما تحمله من محركات للأحداث وشحنها بالدلالات متعلقة بحيرة إيلا وقلقها، وهو قلق جمعي تضعنا فيه هذه الرواية ضمن استراتيجية كتابة مخطط لها بكثير من العناية، تجعل القارئ يواصل القراءة على الرغم من طول الرواية التي تجاوزت أربعمئة وسبعين صفحة.
ركزت الرواية على التوطين المكاني والتوطين الزمني للحكايتين الرئيسيتين؛ فحكاية إيلا تبدأ موطنة في نورثامتون، 17 مايو/أيار 2008 ثم يستمر الزمن صعودا حتى يتوقف في قونيا 7 سبتمبر/أيلول2009، في حين أن حكاية شمس التبريزي وجلال الدين الرومي تبدأ بالإسكندرية، نوفمبر/تشرين الثاني 1252 ويعود إلى الوراء إلى 1242، ويتأرجح ذهابا ورجوعا في الزمن بين بغداد وقونيا.
تتداخل الفصول بين حكاية إيلا وحكاية التبريزي وجلال الدين الرومي بكثير من العناية والاهتمام يشعر معها القارئ بالدهشة والإعجاب من تمكن الكاتبة من توظيف تداخل الصوفي والروائي والتاريخي والسياسي والثقافي والحضاري بكثير من الافتنان والجودة. رواية استطاعت أن تعمل الخيال لتجعل من أحداث تاريخية فنا وجمالا يولّد المتعة.