مراحل تطور الوعي الشُّخوصي عند أنيس الرافعي
لا يحتاج قارئُ نُصوصِ أنيس الرافعي إلى كبيرِ عناءٍ؛ ليفطِن إلى وجود وتيرة ثاوية ومُتنامية لتَطَوًّرِ الشخصيات في سروده، تطورٌ لا في علاقة هذه الشخصيات بالحُبَك والوقائع والأحداث، وإنما؛ تطوُّرٌ ذاتي يرتد إلى الشخصيات نفسِها، في عمليةٍ جِد مُعقدة ولكنها تحافظ على وتيرةٍ مُطردة من الانضباط والتمدد والنمو.
يحدث هذا التطور من خلال تنامي الوعي بالعوامل لدى الكاتب (إن صح هذا التعبير)، ويرتدّ بأثرٍ عكسي ومباشر على ما يُمكن أن نسمِّيه شخصيات أو فواعِل.
قد تجد في كتابات ونصوص أنيس السردية دلالات جمة، وقد تجد فيها انفراجةً تَعرُج منها مُخيلتُك إلى عوالِم تأويلية لا حصر لها، وقد تجد في الشخصيات والأزمنة والأمكنة ما يشدُّك ويحثُّ فيك طرح الأسئلة ومقاربة الإشكالية؛ وطَرْقَ أبواب الدراسة والتحليل.
وقد لا تجد في نصوص أنيس أيَّ شيء ذا بال. فهذا يعتمد بالدرجة الأولى على التجربة القرائية للقارئ؛ وحجم ما راكمَه من زاد على مستوى تذوق النص التجريبي وتأويلِه وتحليله بأدواته المفهومية والإجرائية.
الوعي بالشخصيات عند أنيس الرافعي؛ جُزئية من الجزئيات الكثيرة الثاوية في نصوصِه المربِكة بشكل عام، والتي تحتاج؛ بل وتستحق دراسة مستقلة؛ مُعمقة ووافية، فهذه الشخصيات (إن صح أن نسمِّيَها كذلك)، تنمو وتتطور وتتحول بشكل مُطرد نحو نموذجٍ غير معروف؛ يسعى أنيس للوصول إليه.
بالعودة للمجاميع القصصية؛ “الشركة المغربية لنقل الأموات” و “علبة الباندورا“، نرصد النموذج النمطي للشخصيات غير الفاعلة. إنها نماذج جامدة إلى حد ما، ولا ترقى لدرجة الفواعل أو العوامل، دورُها الأساسي ليس توليد الأحداث وتحريكها ومراكمتِها وتطوير الحبكة، بقدر ما يقتصر دورُها على شغل الفضاءات الفارغة والمكشوفة؛ وتمرير صوت الراوي، دون أن يضطر للظهور مباشرة عبر صوتِه الأوحد.
لا يتكرر هذا النوع من الشخصيات في أعمال أنيس الرافعي إلا لِماما، مما يُدلِّل على أن هذا النوع من الشخصيات لا يفي بالغرض المطلوب منه، والذي يتطلع إليه أنيس الرافعي، فنجده يُجرب أيضا في هذا الباب، محاولا الوصول إلى نموذج ((شخصياتي)) نموذجي ومتطور؛ يستطيع مواكبة مدّه التجريبي الهادر والجارف، فنجده في “ثقل الفراشة فوق سطح الجرس” يستدعي شخصيات من مشاهد بصرية (أفلام)، من خلال مزج الصورة المتحركة بالسرد، فتشكلت بذلك شخصيات مضطربة، لا هي صورٌ ولا هي شخصياتٌ بمفهومِها السردي، حاضرة في الفضاء وغائبة من حيث الأداء.
إن التطور الذي نقصدُه هنا، هو التطور نفسه الذي تمر منه اليرقة لتصير فراشة، إذ تظل هذه الشخصيات فاترة طول الوقت، باردة وباهتة ولا تبدو عليها أية صفة من صفات المثالية، وتغلب عليها العاهات والنواقص، وتطوّقها الأفكار والكوابيس والهواجس، وتعيش حالة لا مبالاة في وضعيات مشكلة وصعبة وشبه دائمة، وتعيش في دائرة مفرغة يؤول منتهاها إلى مبتدئِها.
ولا تتمتع بأي استقلال وليس لها موضع رئيسي في الحكي، وتبرز حاجة أنيس إليها في وظيفة التقبُّل فقط،؛ يتناوب عليها الرواة وتغشاها الضمائر، ويطوّقها الصوت الواحد. فهي بذلك كله؛ طوعَ أوامر الراوي؛ الذات الثانية للكاتب كما يُحب أن يُسميَّه “بوث”، يأتي كل هذا؛ في التجريب الدائم لأنيس الرافعي من أجل إيجاد نماذج شخصياتية قادرة على استيعاب مراد الكاتب، أو بتعبير أوضح؛ الوصول للشخصية “الفراشة” أو المثالية التي مازال يبحث عنها أنيس، تماما كسعي الكاتب الحثيث والدائم إلى النص الذي لم يكتبْه بعد.
في “أريج البستان في تصاريف العميان” يعود أنيس القهقرى إلى التراث وإلى المتخيل العجائبي، لينسج شخصياتِه الخارقة من خلال تكرار عملية المزج، وهذه المرة بين الصورة والشخصيات الحقيقية التي طوَّعَها أنيس لتتماهى مع الزمان والمكان الافتراضي الذي تتفاعل فيه.
في “مصحة الدمى” تبرز شخصيات الدمى كخيار جديد، أنتج شخصيات جوفاء قابلة للشحن والتنويم والتدجين. وجاءت مجموعة “خياط الهيئات” كخيار متقدِّم وجديد لأنيس؛ يروم منه حياكة شخصياتِه الفاعلة على مقاساته هو، والتي يراها مناسبة وعملية أكثر؛ مستفيدا من النماذج التي وظفها في تجاربه السابقة، بُغية تسريع وتسهيل الاندماج الفعال في العوالم الافتراضية التي يُنشئُها بريشة السرد.
هذه الذوات أو الشخوص أو الشخصيات أو الدمى أو الهيئات كما يحب أنيس أن يسميها في كل مرة، اقتناعا منه؛ أنه لم يقف بعدُ على النموذج المثالي للشخصية التي يبحث عنها، (هذه الذوات)؛ ما هي إلا إسقاط فج ومباشر وصريح لحالة التشوه واللاتناغم واللاانسجام التي يعيشُها المجتمع، إنها (الذوات) انعكاس للواقع وارتداد لصورة المجتمع كما فهمها أو كما يراها أو يتصوَّرها أنيس وهو في مَشغلِه السردي العتيق؛ الذي يعلو رفوفَه غبار تجربتِه القرائية، وتتكدس في زواياه أكوام تجاربِ سابقيه ومُجايليه، تفوح منها رائحة الورق النفاذة التي توقظ فيه غريزة الكتابة، جالسا إلى منضدتِه الوهنة؛ الهزيلة والمهترئة، تئن أرجلُها من وطأة و”ثقل الفراشة فوق سطح الجرس”، و”اعتقال الغابة في زجاجة” و”علبة الباندورا و… ،
رغم ذلك؛ مازالت صامدة تقاوم جنون أنيس وجُموحَه، حاملا قلمَه الذي أجبرَه منذ أن فض خِتامَه ومرَّغ رأسه في ما لا يُحصى من الصفحات، أجبرَه على إدمان كلِّ مُحرمات الكتابة، وتجريب كل ممنوعات السرد. تتكوَّمُ حولَه مِزقٌ من الأوراق قد ضمَّنَها ما وَقرَ في نفسِه واطمأنَّت إليه ذائقتُه السردية.
ليست الشخصيات وحدَها من يتطور عبر مجاميع أنيس القصصية المتواترة، فكل شيء في كتابات أنيس يتطور؛ ساعيا نحو الفرادة والكمال والمثالية. وعيُه كذلك بالسرد يتطور باعتباره حَكيا وباعتباره خطابا أيضا، من خلال جهده الكبير ووقته الطويل الذي يقضيه في معمله السردي لمحاولة ابتكار أشكال سردية ثورية، وتجريب أنماط مفتعلة للكتابة، فالخطاب يتطور بالموازاة مع تطور تقنيات الحكي،
واللغة كذلك تتطور ماضية في تشكيل سِماتِها الأسلوبية الخاصة، التجريب نفسُه ماضٍ في التطور والخروج أكثر فأكثر عن الميثاق السردي النمطي، ومنفتحا على كلٍّ شيء يصلُح أن يكون مادة خام في صناعة السرد التجريبي. كل هذه العوامل ماضية بخطىً حثيثة نحو تأسيس “ماركة مسجلة” في السرد التجريبي خاصة ومحفوظة لأنيس الرافعي.
هذا الابتكار وهذا التجريب، يستقي مادته الخام من الواقع، أي من الحياة اليومية بكل تفاصيلها البسيطة والمعقدة، وبكل قضاياها وشظاياها المعروفة، الغنى والفقر.. الحب والسعادة.. والموت والحياة.. المبدأ والنفعية..، الأنانية والتضحية.. السِّلم والحرب.. الحرية والارتهان.. الأمل واليأس.. الألفة والبُعد.. اللقاء والفراق …، إن هذا المزج العبثي بين الهواجس والحوادث واليقظة والنوم والموت والحياة و…، في ظل نظام فوضوي ممنهج. أنتج سردا جديدا يمتح من الواقعي ومن الافتراضي ومن الكوني على حدٍّ سواء.
إن نصوص أنيس لا تصف العالم ولا تعكس الواقع ولا تُسجله، إنها تخلق عالما آخر موازٍ يتصف بالمعيارية من خلال المواصفات التي يقترحها السارد لهذا العالم، والتي يراها نموذجا قابلا لأن يُعاش. هكذا تلتقي في نصوص أنيس الأشكال الميتافيزيقية المختلفة للوجود الإنساني، ممثلة في الهيئات والشخوص والصور والذوات والدمى…