سرديات

غسان كنفاني .. ”لماذا لم يَدُقُّوا جُدران الخزَّان .. ؟”

 

في يوم 8 تموز 1072 تحديدا، اغتالت أيدي القهر والبطش والخيانة مجتمعة غسان كنفاني. اغتيال كان المرجو منه اغتيال الكلمة التي تخط بعبقرية بين أنامل غسان كنفاني . لم يكن نضاله يختلف عن نضال اخوانه واقرانه على خطوط المواجهة. كان جزءا من حراك التحرر الفلسطيني في لبنان. ولكنه زاد في قوته ،قوة انتهى منها تأثير الرصاصة ولا يزال يبقى اثر كلماته لهذا اليوم ، ولأجيال ستستمربتخليد ذكراه.

قررت قراءة أحد أعمال غسان كنفاني في ذكرى اغتياله ، وكان رجال في الشمس هو الاختيار . لم يكن اختيار صدفة . فلا يزال صدى الصندوق الخشبي الذي كان اخر مرقد لوضاح اليمن في رواية الياس خوري (اسمي آدم) يدوي بتساؤلات الكاتب بين مزج لآخر كلمات لرجال في الشمس احتبست اخر انفاسها في خزان الماء من تساؤل : ” “لماذا لم تدقوا جدران الخزان”.

أفضل وسيلة للحديث عن الرجال الذين قضوا في جدران الخزان برواية رجال في الشمس هو الذهاب الى اقرب مكتبة وتصفح الرواية بصفحاتها غير الكثيرة. من سحر غسان كنفاني ف روايته المدوية الايقاع والاثر ،قصرها . فلا تكاد تبدأ الرواية حتى تلتهمها كوجبة سريعة ، تصدمك ولا تشبعك بالضرورة. سلاسة السرد في أعمال كنفاني تكاد تكون كالسير على سهل شاسع ينتهي الى واد تغمره ينابيع . تمشي وتتدحرج وتلسعك الاعشاب والحشرات ربما . لا يوقفك شيء عن المضي قدما في المشهد الاسر لجمال اخاذ لا توقفه شائبة .

أتساءل كثيرا ، ان كان كل من يقرأ غسان كنفاني يقرأه مثلي انا ، الفلسطينية. فلا يمكن الا ان تقرأ تاريخك في كلماته . تختم الصفحات بهويتك الفلسطينية ، وتقلب فيما بينها بمأساة شعب يقص فيها الراوي التفاصيل . تلك التفاصيل التي غابت عنا نحن اصحاب هذه القضية بالكثير من الاماكن ، واصر كنفاني على صياغتها وتوصيفها بحرفية الاديب وقلب اللاجيء الذي اختلس منه وطنه للتو.

ليس من الصعب علي ان افهم صمت الرجال الثلاثة في الخزان في رواية كنفاني . ولربما لم يكن من الصعب كذلك فهم نهاية وضاح (شاعر الصندوق الملثم) في صندوق قصر الخليفة الاموي. ولا اعرف ان كان هكذا فهم تلقائي ينحصر على الفلسطينيين… على كل اولئك الذين تكون الحياة لهم في البقاء فيها فرصة ليست بالضرورة سانحة. البقاء بالنسبة لهم ليس صراعا . البقاء هبة ، قد يكون مقدرا لهم ام لا يكون . وفي كل الاحوال هناك دائما تلك المساومة بين بقائهم وإحراج الاخر.

ذلك الآخر الذي قد يكون قدم لهم معروفا استفاد هو منه مرات كثيرة اكثر منهم. مقابل الخوف من اخر اخر في المكان المقابل ، وجودهم لن يروقه .. بل وجودهم لن يسمح به.

صراع البقاء العادي ، في ان يستصرخ المرء للنجاة ،لفرصة قد يكون بها طوق نجاة ، يبدو انعدامه في انعدام السبل نحو امل في حياة بعد تعدد الانهيارات والظلم .

لم تفارقني ولو للحظة بينما كنت اقرأ تلك المأساة الفلسطينية التي كتبت قبل أكثر من اربعين سنه ، بعد عقد ونيف على النكبة الفلسطينية ، قصة اخرى لرحلات الموت التي قدم اليها الفلسطينيون هروبا من بطش الاحتلال الاسرائيلي ، ليروا أنفسهم في غيابات الصحراء الممتدة آملين بالوصول الى “واحة” الكويت تهريبا بأي طريقة حتى ولو كانت عبر خزان ماء حديدي فارغ، الا من سطوة حر شمس الصحراء الملتهبة. تلك المأساة التي لا تختلف الا بوصف مكان اللجوء .

ذلك الهروب الذي يرمي السوريون انفسهم به الى غيابات البحار على زوارق الموت ، هو نفسه الذي وصفه كنفاني في رجال في الشمس قبل اربعين سنة تاه فيها الفلسطينيون في صحاري ما كان عندها يسمى وطنا عربيا ولا يزال ، لا يحمل من الوطن الا اسمه. شتات الفلسطينيون وتيههم كتيه موسى واهلهم بصحراء سيناء ، كان من نصيب اهل فلسطين لعشرات السنين في محاولات سقيمة للنجاة والهروب نحو حلم ما لبث تحول الى كابوس. لأجساد ما لبثت تحولت الى وجبات حيوانات الصحراء المفترسة . كالسوريين التي تلتهم اجسادهم قروش البحر او ترمي بهم مواتا الى الشواطيء .

تبقى الكلمات حاضرة منذ اربعين سنة ولم تنته المأساة ، وتتجدد في شعب عربي آخر ، نشهد كلنا عليه كشعوب عربية وغيرها ، بينما يلقي السوريون والفلسطينيون الى نهاياتهم المروعة في محاولة اخيرة لاستنفاذ الحياة التي نفذت من وطنهم ليلتهم شره السماسرة وتجار الموت قبل ان يلتهم البحر بأمواجه العاتية واسماكه الجائعة. سماسرة الموت انفسهم ، كأولئك الذين قلب اسماءهم غسان كنفاني بين صفحات كتابه الصغير ، بين سمين شره ونحيل غض . كان فلسطينيا ام عراقيا ام غيره لم يكن مهما . تجارة الموت امام بطش هول الحروب وبؤس الحياة استراقا لأمل لحياة الموت اليها اقرب.

لماذا لم يدقوا جدران الخزان ؟؟؟؟

أو يتساءل او يتساءلون ؟

ولماذا يدقونه أتساءل…..

وتبقى كلمات غسان كنفاني في عمل اخر (ثورة ال 36 ـ 39 في فلسطين)مناسبة ،لما يمكن ان يكون جوابا لخزان يدق او لا يدق بقوله ” ان الفقر، والانسحاق، وتعاقب قرون مديدة من القهر القومي والطبقي، قد أدت مجتمعة الى انشاء “مؤسسة كاملة” للاستسلام والقدرية والخنوع عكست نفسها بالامثلة الشعبية السائدة. وكان على المثقفين الفلسطينيين، وخصوصا على الشعراء الشعبيين في الريف، مهمات عظيمة لزحزحة تلك الثقافة الخاملة، دون ان يكونوا عن انفسهم قد تخلصوا جذريا من تأثيراتها…”.


نادية عصام حرحش / كاتبة من فلسطين

 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى