المجد للقصة القصيرة
وضعت في الآونة الأخيرة عدة شهادات وجيزة، تم اعتمادها على ظهر أغلفة أربع أضمومات قصصية متميزة وماتعة للصديقات و الأصدقاء برهان المفتي من العراق ، و غادة الأغزاوي من المغرب( تقيم بفرنسا )، و زينة حموي من سوريا (تقيم بكندا )، و أحمد شرقي من المغرب . أعيد نشرها هنا على سبيل الدعاية والترويج لعشاق الفن القصصي بمناسبة الدورة القادمة من معرض الكتاب بالدارالبيضاء :
- كذلك ( برهان المفتي ، العراق )
( ينتمي المبدع برهان المفتي إلى تقاليد السرد العراقية العريقة و إلى حياض سلالتها المجيدة . وهو في نصوص هذه المجموعة، المحكمة مبنى و معنى ، الآسرة تشخيصا و تخييلا ، يقدم لنا مايمكن أن أنعته بشعرية ما بعد الفاجعة . أي مايرويه بتقتير شديد، و دون جلبة مثيرة للانتباه ، سارد واحد ومتوحد ، أطبقت على روحه الأحزان و المنايا و الكلوم و المهاوي و الخسارات الغادحة ، و لا يملك إزاءها سوى الصمت . صمت وحسرة رجل عمل لسنوات طويلة على تشييد مدينة من زجاج ، ثم في لحظة خاطفة و هو يقف على تلة بعيدة ، طفق يشاهد بأم عينيه وقصارى وجدانه المحطم تينك المدينة برمتها تستحيل إلى ملايين الكسرات و القطع المتناثرة. إنها استعارة صغرى عن الموت الفجائي الذي طال جيلا بأكمله أضحى عاجزا عن الصراخ . جيل السقوط و الخرس. برهان المفتي هو لسان حال هذا الجيل و صوته الأكثر جهارة و تميزا ).
- علبة الرسائل الصفراء (غادة الأغزاوي، المغرب )
( وأنا أجوس بذائقتي – المتأرجحة النائسة كمركب رامبو النشوان – داخل ” علبة الرسائل الصفراء ” ، أحسست فجأة بسطوة البرد تدب بداخلي . برد قارس خاص و حريف من ذلك النوع الذي تنفذ رطوبته الممضة إلى العظام . برد الكتابة القصصية عندما تكون مكتوبة بحد شفرة حلاقة شديدة المضاء ، وحينما تسلك طرقا موحشة غير معبدة ، و تطرق باب عوالم صماء تترجم عزلة الكائن الأعزل أمام العالم .الكائن ذاته و قد تم اختصاره إلى حوار جواني مرتجل داخل ساحة فرجة واسعة أمام متفرجين وهميين. وبهذا المعنى وبذات المغزى تغدو محكيات المبدعة المغربية غادة الأغزاوي المينيمالية – على طريقة مدرسة ريموند كارفر – تعبيرا عن الضمير المعذب للأنواع الأدبية . جرما ضئيلا على شكل رسالة منسية مدسوسة بعناية في شق بقايا حائط مهدم حائل اللون متداعي البنيان . كل شيء في ما تخطه أنامل غادة منكسر الخاطر و زاهد و متشظ ومبتور بحدة إنسانية جارحة .كل شيء هو رثاء للنفس المخدوعة غير القادرة على التواءم أو التآلف مع الحياة . كل شيء مخادع ومضلل مثل لوحة ” الغرفة الزرقاء ” لبيكاسو . لوحة بروحين و مستويين وطبقتين تلوح في واجهة المرئي كصورة لرجل ملتح وفي عمق مجالها تستحيل امرأة متبرجة مليئة بالأسرار و الألغاز . فيا أيها القارئ حاذر- و أنت تفتح مثلي ” علبة الرسائل الصفراء ” – أن تغرر بك الأوهام والاستيهامات – لذا ضع على يمينك متعتك و على يسارك دهشتك ، ثم استعن على كل هذا الجمال الشاهق بما تيسر من قيم نكث وعود ووصايا عمود القصص القصيرة و نماذجها البائدة التي طالما قدمت نفسها بوصفها معطى جاهزا لا باعتبارها اكتشافا لمناطق جمالية محررة حديثا )
- محاولة متأخرة للبكاء ( زينة حموي ، سوريا )
( قصص زينة حموي مشكال أو موشور سردي ” أوبرالي” ، تتطايف و تتصادى داخل بوثقته الجهنمية المصطخبة ، موضوعات المرأة و الحرب و الحب و النزوح و السفر و الطفولة و التشدد الديني و الكتابة و الموت والحياة . وجماع هذه الموضوعات ” الدرامية ” ، التي تقدم نفسها للقارئ بوصفها استعارة كبرى عن العطب الذي يمس جوهر الكائن مثل ندبة جرح وجودي طويل الاندمال ، قادم من منطقة مخصوصة و غميسة يمكن أن أدعوها ب ” ماتحت شعور الحكي ” ، وهو توصيف نفسي ذي مرجعية ” يونغية ” ، موائم للمكان القاهر و المقهور ، الذي يتجسد هنا تحديدا في سوريا الشهيدة و الشاهدة على ويلات الدمار وقباحات العالم . ” ما تحت شعور الحكي ” في قصص زينة حموي هو قبو الدار الخبيئ، الذي يلقى و يركم فيه كل شيء نود التخلص منه ، و ليس له موضع في البناء الفوقي . بتعبير آخر : هذه القصص الأسيانة المكلومة هي قبو زينة حموي السري المتواري جيدا داخل أعماقها القصية وسويدائها الغائرة ، والذي قررت اليوم أن تشرع أبوابه بكل شجاعة في وجه ” الأمل” المتواري خلف البوح الذي تمنحه لنا الكلمات . أمل يشي بانبجاس جديد و متجدد على الدوام ، بمستطاعه إلغاء الألم ،و تغيير قدر النفس، و رفع ستارة المأساة ، و جعل ” الليل شمسا ” كما يقول نيتشه. بكلمة واحدة : قصص زينة حموي تريد أن تقول لنا لايهم أن ننتبه كثيرا إلى قسوة سقوط آنية الخزف وتهشمها الغجائعي ، ولكن يجب بالأحرى أن نلتفت بعين حفية و قلب راجف و حشاشة عطوف إلى حنان وحدب اليد التي تحاول أن تجمع القطع و تلملم الكسرات المحطمة من على إهاب الأرضية .يد كاتبة قصة رائعة و قادمة بقوة إلى تخوم مملكة الإبداع الحقيقي اسمها : زينة حموي )
- عوالم شفافة (أحمد شرقي ، المغرب )
( في مجموعة ” عوالم شفافة للمبدع المتميز أحمد شرقي لعبة فنية ذكية قوامها النص المتلاشي و طيفه الوليد. القصة ككيان ضخم و الإيحاء المتولد عنها كشذرة قادرة على تقطير العالم في بضع كلمات قلائل . العاصفة بكل ترسانتها من العنف و ندفة الثلج المتخلفة بعد زوال ذات العاصفة. الجسد الحاسب نفسه سليما و الورم المندس الذي لم يشخص بعد .ومن هنا، يقدم السرد نفسه بوصفه فعالية لانهائية أشبه ما تكون بلوحة مستمدة من الحياة، لكنها من دون إطار حاجز أو برواز قامع . الأصباغ كما الوقائع تواصل سيرورتها بعد أن تتجاوز حد اللوحة المعلوم . إحدى عشرة حكاية كالمسبار تدور في فلك ذكريات الطفولة و أحوال الخلق و تقاطع المصائر و هموم المدائن الكبرى الصاخبة ، بيد أنها تسفر عند متمها عن انفصال مريكبة صغيرة عن المسبار الأم لتعلن عن بداية رحلة جديدة و مجهولة بالكامل. ينتهي الوجه ليبدأ القناع . ينتهي النهر ليبدأ الجدول . ينتهي البئر لتبدأ الفرشاة الجوفية . تختتم الدلالة الكبرى الكلية لتنطلق التماعة الومضة الإشارية. عند قراءة ما جاءت به قريحة أحمد شرقي نعلم جيدا كيف بإمكان روح القصة أن تنشطر و تتحول إلى كيانات متصلة ومتباعدة في الآن ذاته ، و فق رؤى و منظورات سردية غفيرة الزوايا والضمائر على شاكلة المجسمات متعددة الأسطح، قادرة على تقديم التحولات الطارئة والمشهديات المتبدلة. في هذه الإضمامة الجميلة، مبنى و معنى، ثمة سطح وعمق . ثمة عمق مسطح و ثمة سطح عميق. ثمة فن حقيقي يستحق أن يكتشف من لدن القارئ الشغوف بطفلة الأدب المشاغبة)
أنيس الرافعي: قاص مغربي، وواحد من أهم نُسّاك القصة القصيرة في المغرب وفي العالم العربي. تُرجمت نماذج من أعماله إلى الفرنسية والإنكليزية والإسبانية والبرتغالية والفارسية والصينية، كما تم اختياره كواحد من سبعة كتاب متميزين للمشاركة في الدورة الثانية لإدارة الجائزة العالمية للرواية العربية البوكر العربية