لا شك في أنّ العالم العربي شهد في العقدين الأخيرين انفجارا على مستوى المحطات التلفزيونية وبرامجها، مقارنة بعالم التلفزيون الحكومي الرسمي. لكن هذا التطور، ما يزال غير مقروء بالشكل الكافي، ربما لسيولته، وأيضا لتعدّد التلفزيونات المحلية وارتباطها بمشاريع مختلفة، ما جعل من مهمة رصدها وقراءة سياساتها التحريرية أمراً صعبا.
ولعلّ هذه الأسباب وغيرها هي ما دفعت بالباحثتين كارولا ريشتر/جامعة برلين الحرة وكلوديا كوزمان/الجامعة اللبنانية الأمريكية إلى الإشراف على إصدار كتاب بعنوان (نظم وسائل الإعلام العربية، مركز دراسات الوحدة العربية) الذي يتضمّن مجموعة من الأوراق التي تحاول قراءة تواريخ ظهور التلفزيونات العربية، وما شهدته من تغيرات وتطورات عديدة في السنوات الأخيرة.
ولعل ما دفع المحررتين، كما تذكران، إلى الخوض في هذا الجانب، محاولة الكشف عن تقسيمات جديدة لواقع الإعلام، أو التلفزيون العربي يتجاوز التقسيم التقليدي (مملوك للدولة، قطاع خاص). إذ أنّ هذا التقسيم وغيره من التصنيفات الأخرى، لم تعد قادرة على فهم مشهد الفضاءات العربية وخريطته المعقدة.
ومما يحسب للمحررتين هنا، محاولتهما رصد واقع عالم التلفزيون في معظم البلدان العربية، ما يوفر اليوم مادة مهمة للباحثين في هذا المجال، وحتى لباقي القراء للاطلاع على خريطة الإعلام العربية بعيد عام 2010 بالأخص.
كما أنّ أهم خلاصة يصل لها الكتاب مفادها، أنّ خصخصة وسائل الإعلام لا تؤدي بالضرورة إلى سياقات إعلامية تعددية، ولا إلى وسائل إعلام تجابه الأنظمة السياسية بالضرورة، بل نرى أنّ عالم التلفزيون العربي قد تأثر أيضا بالصراعات الحزبية والميليشوية، ووظّف أدواته في الغالب للدفاع عنهم. كما يصل الكتاب إلى نتيجة ترى أنّ واقع المجتمعات العربية اليوم يمكن رصده من طبيعة السياسات التحريرية للفضائيات الجديدة، ولذلك يصبح خطاب هذه الفضائيات مادة أولية مهمة لدراسة واقع العالم العربي اليوم وانقساماته.
- تلفزيونات وميليشيات
ويلاحظ الباحث يزن بدران/جامعة بروكسل الحرة، في دراسته حول سوريا وتفكّك المنظومة الإعلامية، أنّ الحرب في البلاد كانت قد أنهت احتكار السلطة والموالين لها على عالم الفضائيات. فبعد الانقلاب الذي قام به البعث في 8 مارس/آذار 1963، اتجه الحكام الجدد إلى استثمار التلفزيون في ترسيخ عبادة النظام وشخصية الرئيس وفق ما تذهب لذلك ليزا وادين.
لكن هذا الحال سيتأثّر نهاية التسعينيات، مع قرار السلطة القيام بعدد من الخطوات التحريرية الاقتصادية. إلا أنّ التطور الأهم على صعيد عالم التلفزيون السوري سيحدث مع قدوم الانتفاضة ولاحقا الحرب في البلاد، فقد أدى الصراع الذي نشأ لاحقا إلى نشأة أشكال من وسائل الإعلام المختلفة تتوزع بين ثلاث جهات؛ الأولى تمثل امتدادا للمؤسسات الرسمية، التي بقيت عاملة في مناطق النظام.
وفي المقابل هناك إعلام المعارضة في تركيا، إضافة إلى الإعلام الكردي، ورغم أهمية التقسيم الذي يقدّمه الباحث، لكن ما يسجل على ورقته أنها لم تولي اهتماما أوسع لدراسة السياسات التحريرية لهذه التلفزيونات الجديدة، وبماذا تختلف عن عالم التلفزيون الرسمي،
وما يسجل لها بالمقابل، رصدها لاتجاه عدد من الإعلاميين المعارضين إلى الفرار من عالم التلفزيون في اتجاه عالم الأفلام المستقلة، ما ساهم في ترشّح عدد من الأفلام السورية في السنوات الأخيرة إلى جوائز الأوسكار.
ولا يختلف المشهد كثيرا في العراق، إذ تبين سحر خليفة سالم/الجامعة العراقية، في دراستها عن واقع الوسائل الإعلامية بعد عام 2003، أنه في مقابل سيطرة البعث على إدارة مؤسسة التلفزيون، جاء الغزو الأمريكي للعراق وتسريح موظفي التلفزيون، ولاحقا الصراع الشيعي السني، ليخلق عشرات التلفزيونات الخاصة.
لكن ذلك لم يعنِ في المقابل أنّ تلفزيون الحكومة سيضعف لصالح الواقع الجديد، بل نلاحظ استمرار قوته (قناة العراقية) في ظل الإمكانيات الضخمة، في حين اضطرت مؤسسات خاصة إلى الإقفال جراء الأزمة في عام 2015. وبالتالي نرى أنّ معادلة سيطرة الدولة على وسائل الإعلام لم تغب كاملا بالضرورة.
ومع ظهور القنوات الفضائية ذات الصبغة الطائفية، المعروفة بتوجهاتها الواضحة في مجال التحرير، وعلى الرغم من انفصالها عن سياسات الدولة، لكنها بقيت أسيرة السياسات التحريرية الضيقة، ما حال ربما دون تطور عالم التلفزيون العراقي.
وبالتالي فإنّ ما يسجّل على التجربتين السورية والعراقية، أنه رغم انكسار سيطرة الحكومة على عالم التلفزيون، لكن هذا الانكسار لم يكن يعني بالضرورة التوجه نحو سياسات تحريرية أكثر ليبرالية، بل أصبح عالم التلفزيون في هذين البلدين أحيانا أكثر أدلجة وتطرفا (الشيعي والسني) وبيد سلطويين جدد، حتى لو ترافق ذلك مع تقنيات وصورة أكثر تطورا.
- تلفزيونات الخليج العربي
وفي الخليج نعثر على تجارب مختلفة، وفي الوقت على رهانات أوسع حول دور التلفزيون الخاص (المملوك من أوساط قريبة من الدولة). وفي هذا السياق، يرصد مروان الكريدي تاريخَ التلفزيون في السعودية. فمنذ العشرينيات، كان الملك عبد العزيز بن سعود قد سعى نحو تأسيس شبكة لاسلكية. كما اعتبر حكام السعودية التلفزيونَ أداة مهمة لتكوين مشاعر الانتماء الوطني والحفاظ عليها.
وقد اختبرت السعودية أول مرة البث التلفزيوني في 17 تموز/ يوليو 1965، وقبل ذلك كانت المحطتان اللتان تعملان في السعودية هما Ajl ،tv وقناة ثالثة تولت تشغيلها شركة أرامكو منذ عام 1957. أما القناة السعودية (القناة الأولى) فقد انطلقت في عام 1963 بوصفها القناة الأساسية التي تبثّ باللغة العربية، لكن التطور الأهم في عالم التلفزيون السعودي سيجري في عام 1991 مع اندلاع حرب الخليج الثانية.
يومها وجدت الحكومة السعودية مواطنيها وهم يتابعون قناة «سي أن أن» والقنوات المصرية، ما دفعها إلى السعي نحو إطلاق قناة «أم بي سي» من لندن في عام 1991، ما مثّل إيذانا بانطلاق ثورة البث عبر الأقمار الصناعية في العالم العربي. وفي دراسة أخرى يحاول الباحث إيهاب جلال دراسة السياسات الحكومية القطرية في الاستثمار في مجال التلفزيونات، كنوع من سياسات القوة الناعمة للبلاد.
لكن ما يلاحظه الباحث هنا أيضا أنه في مقابل السياسات التلفزيونية العابرة للحدود، نعثر في المقابل على تجربة تلفزيونية محلية من خلال قناة «الريان» التي تستهدف المجتمع القطري المحلي، وأخذت تحظى بمتابعة واسعة من قبلهم.
وعلى صعيد الكويت، تلاحظ فاطمة السالم في دراستها المهمة «من هوليود الخليج إلى ساحات الديوانية على منصات التواصل» إنّ التجربة الكويتية تبدو هي الساحة الأكثر انفتاحاً وقابلية للنقد، مقارنة بباقي الدول العربية. كما نلاحظ على صعيد تاريخ التلفزيون في هذا البلد، حالة مختلفة قليلا عن التواريخ العربية على صعيد ملكية وتأسيس التلفزيون، إذ يلاحظ على مستوى البدايات إنه لم يكن ملكا للسلطات الحاكمة بل للأسر التجارية.
وخلال الحرب العالمية الثانية، كان انتشار أجهزة الراديو ضعيفا بين الكويتيين لكنهم اعتادوا التجمع في الديوانيات للاستماع إلى المحطات الإذاعية، مثل «بي بي سي» وراديو القاهرة وراديو بغداد. وقد استلهم هذه التجربة مبارك الميال، الذي كان يخدم في الجيش الكويتي، فاقترح استخدام جهاز إرسال لاسلكي قديم تملكه وزارة الداخلية والجيش الكويتي لإنشاء محطة إذاعية بمساعدة فني باكستاني يدعى محمد خان.
ولاحقا ظهر التلفزيون في الكويت في عام 1951، وكان ملكا للقطاع الخاص، وأسس على يد أحد التجار المحليين ووكيل شركة أمريكية، وقد أراد الترويج لمبيعات أجهزة التلفزيون، وستتحول ملكية التلفزيون لاحقا إلى الحكومة، التي ساهمت في جعله واحدا من أهم التلفزيونات العربية لحد فترة الغزو العراقي للبلاد، لكن التطور المهم لاحقاً جاء من خلال ظهور الإنترنت.
وهنا تلاحظ الباحثة أنّ الكويت قد احتلّت المرتبة الأولى من حيث انتشار الإنترنت في الشرق الأوسط، حيث وصل لنسبة 100% من السكان، كما أنّ التعليم ثنائي اللغة قد سمح لشرائح واسعة باستخدام هذه المنصة، كبديل عن عالم التلفزيون.
وهذا أمر تلاحظه الدراسة السابقة أيضا الخاصة في السعودية، فعوالم تويتر و«يوتيوب» باتت اليوم تنافس عوالم التلفزيون الحكومية والخاصة، ما حولها في الكويت مثلا إلى ديوانيات افتراضية بديلة عن الديوانيات التقليدية في البلاد، والتي كان يتجمع فيها الأهالي للحديث عن أمور السياسة والمجتمع، وبالتالي نرى في بلدان الخليج، وعلى الرغم من الميزانيات الضخمة التي أخذت تخصص لتطوير عالم التلفزيونات، فإنّ عالم الإنترنت يحظى بمتابعة أوسع، وغدا منافسا شرسا.
يحتوي الكتاب أيضا على دراسات حول واقع الإعلام في لبنان ومصر وعمان واليمن، ومن بين الدراسات المهمة أيضا، تلك التي تتحدث عن واقع الإعلام في السودان، إذ يعقد محمود قلندر مقارنة بين سياسات الرئيس الأسبق عمر البشير وسياسات الجنرال إبراهيم عبود، الذي قاد أول انقلاب في السودان في نوفمبر/تشرين الثاني 1958.
فخلال الستينيات لم يكن التلفزيون متاحا سوى لنخبة صغيرة من الطبقة الوسطى التي تعيش حول الخرطوم الكبرى، ثم وسعت حكومة الجنرال جعفر النميري التغطية التلفزيونية لتشمل جميع مناطق البلاد. أما التطوّر الأهم فقد جاء مع الجنرال البشير الذي اعتبر التلفزيون أداة استراتيجية مهمة لنشر نموذجها الإسلامي الخاص.
أما في ليبيا، فإنّ ما يلفت النظر بعد سقوط القذافي، أننا أخذنا نشهد ولادة عشرات التلفزيونات التابعة للجماعات المحاربة على الأرض، لكن النقطة الأهم التي يجب التوقف عندها تتمثل في عودة زمن ما قبل التلفزيون (الراديو) إذ يبين إحصاء أعدّته مؤسسة التنمية الخيرية التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية «ميديا اكشن» أنّ 47% من الذكور الليبيين و25% من الإناث يستمعون إلى الراديو كل يوم.
ومن بين الملاحظات التي تسجّل على الكتاب، أنّ غالبية الدراسات انشغلت برصد واقع التلفزيون في العالم العربي وما شهده من تغيرات، لكنه في المقابل لم يوفر لنا الفرصة للإجابة على بعض الأسئلة الأخرى، أسئلة مثل أشكال السياسة التحريرية في التلفزيونات الجديدة مقارنة بالتلفزيونات الحكومية، أو من هم العاملون اليوم في بعض التلفزيونات الخاصة، وخلفياتهم المهنية مقارنة بالعاملين في القطاعات الحكومية، ومن هو مثلا جمهور «يوتيوب» اليوم،
وبماذا يختلف عن جمهور التلفزيونات؟ ولعل الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها كانت ستقربنا أكثر من واقع الإعلام العربي اليوم، لكن ذلك لا يقلّل من أهمية ما قُدِّم في هذا المؤلف على صعيد رسم خريطة واسعة عن واقع التلفزيونات والإعلام العربي والأجيال الهاربة من أسواره التقليدية.