إيريش فْرِيد وصرخته الإنسانيّة شعرًا.. الباطل بفلسطين يبقى باطلًا!
هذا شاعرٌ يهوديٌّ غير صهيونيّ نستطيع أن نحبّه، بل أن نعشقه، وإنْ مَقتَهُ الصهاينة ونبذوه ونعتوه على مألوفهم بـ”كاره نفسه”، كأنّه ممنوع على أيّ يهوديّ أن ينطق بالحقّ والحقيقة، وأن يغلّب شعوره الإنسانيّ على ما عداه من مشاعر، كالتعصّب الدينيّ و”العرقيّ” و”القوميّ” المُخْتَلَق والزائف والمستند إلى الخرافة والوهم، فضلًا عن وضع الذات في خدمة الاستعمار الغربيّ، الأميركيّ والأوروبيّ. الإنسان وليس غيره والإنسانيّة ولا سواها، والحقّ والحقيقة، وإنْ “على قطع العنق”، كما يقال.
هذا هو إيريش فْرِيد/ Erich Fried (1921 ـ 1988)، الشاعر والروائيّ الذي ولد في فيينا في عائلة يهودية، ومات والده أثناء تحقيق الغستابو معه، فهاجر إيريش في عمر السابعة عشرة إلى لندن التي مكث فيها سنوات طوالًا، مترجمًا شكسبير، وتي إس إليوت، وديلان توماس، وآخرين، إلى الألمانية، ومنضمًّا إلى القسم الألمانيّ في إذاعة “بي بي سي”، حيث دعم الشيوعيين المنشقِّين، وسياسة الانفراج الدولي التي تبنّاها كينيدي، قبل أن يعيد فْريد حساباته عقب حرب فييتنام التي خصّها بمجموعته الشعرية “وليكن… فييتنام… وليكن” عام 1965، وكل ما يتعلق بالسياسة الأميركيّة، متأثّرًا بالحركة الطالبيّة، وناحيًا منحىً متطرّفًا في نقده للإمبريالية الغربيّة.
أنطولوجيّة “قصائد بلا حدود” تشهد على مناهضته أيْ شكل من أشكال الاستلاب والارتهان، معتمدًا نهجًا إنسانويًّا (Humanist) مغلَّفًا بنزعة طوباويّة وسخرِية حادّة.
إيريش فْريد من أشرس المدافعين عن القضيّة الفلسطينيّة والمناهضين لـ”إسرائيل” مناهضةً تامّة، رافضًا “خبث تحويل مسار الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين” وإقامة المستوطنات فيها، مطلقًا في قصيدته “إلى يهود فلسطين” (1949) صرخته المدويّة: “عمّا تبحثون هناك/ في فلسطين/ عن القتل؟/ عن نسيان جروحكم عبر جروح الآخرين؟/ عودوا الآن قبل فوات الأوان/ عودوا قبل أن تكتمل الفضيحة/ هناك ضحايا في الطرقات/ ستصرخ في وجوهكم يومًا”.
فهو لم يؤمن قطّ بـ”الكذبة الخرقاء”، بحسب تعبيره، التي تزعم حقّ اليهود في فلسطين، كما لم يسلّم يومًا بسياسة البحث عن مكان آمن لضحايا النازية، قائلًا: “لم يخترع الفلسطينيّ أفكار النازيّة الشريرة، ولم يشارك في قتل يهود أوروبا، فلماذا يُرغم على تحمّل وزر تلك الخطيئة؟!”.
وفي خطاب ذائع الشهرة له في برلين عام 1977، توجّه الى الحضور بالقول: “أُعلن أمامكم أنّ ألمانيا لا تكفّر عن ذنوبها حيال اليهود، ولا تضيء الشموع حول قبورهم. إنّها لا تغسل عارها، ولا تشعر بعذاب الضمير المزعوم، فكيف يمكن أن تفعل ذلك في حين أنها لا تقرّ بعذابات الفلسطينيين، ولا تكفّر، أيضًا وبدءًا، عن ذنوبها في حقّهم.
كيف يسع الضمير الجمعيّ رؤية صورة واحدة للضحيّة، ولا يعترف بالثانية. ما ذنب الفلسطينيّ، أساسًا، في ذاك الهراء الجرمانيّ!”. وثارت بعد هذا الكلام الإنسانيّ المعبّر ثائرة المنظّمات الصهيونية ضدّه في العالم أجمع، فهو بالنسبة إلى الإسرائيليين الصهاينة “العدوّ رقم واحد للساميّة عالميًا”(!) وهو “فْريد المزعج”، بحسب الصحافة العبريّة والدائرين في فلكها في النمسا وألمانيا، عدا رسائل التهديد والوعيد التي تلقّاها والمحفوظة إلى اليوم في أرشيفه الشخصيّ في “مركز إيريش فْريد الثقافي” في فيينا.
علمًا بأنه ظلّ طوال حياته، وإلى لحظة غيابه، مناهضًا لـ”إسرائيل” بشراسة، وللمدافعين عنها في الغرب. والجدير ذكره أنّه تبرّع عام 1987، قبل سنة من وفاته، بمكتبته الشخصية الكاملة لمنظمة التحرير الفلسطينية، واصفًا إيّاها بأنّها “هدية، لا أملك سواها، ومساهمة صغيرة في نضالكم العظيم”.
وكان أعلن قبل ذلك عن تضامنه مع القضيّة الفلسطينيّة بكلمات إنسانيّة، رقيقة وبليغة، قائلًا: “بألم الفلسطيني وأحلامه عشت ما انصرم من عمري، وبهذا الألم، وبكامل طاقتي على الحلم، سوف أختم حياتي بلا ريب”.
عام 1974، أصدر إيريش فْريد مجموعته الشعريّة الأوسع شهرة (واستفزازًا للصهاينة)، تحت عنوان “اسمعي يا إسرائيل”، وتضمّ قصائد قصيرة، مكثّفة، ترصد أدقّ التفاصيل التي كوّنت المأساة الفلسطينية، وسرعان ما مُنعت المجموعة من التداول.
- “اسمعي يا إسرائيل”.. طلقة شعريّة مدوّية
صدمة إيريش فْريد الأولى تشكّلت في وعيه طفلًا، معبّرًا عنها في القصيدة الآتية تحت عنوان “كلمتان”: “ما زلت أذكر/ كم كنتُ فخورًا/ يوم قرأتُ وأنا طفلٌ في التوراة/ لا تضطهدوا غريبًا/ لا تُحزنوا غريبًا/ وكم كانت صدمتي في ما بعد/ لمّا تعلمتُ أنّ كلمة غريب ̸ ger بالعبريّة/ تعني فقط: أجنبيّ اعتنق اليهوديّة/ شيكسه/ كلمة تدلّ/ على نساء وفتيات/ غير يهوديات/ بدت لي مهينة/ وكنتُ دائمًا أكرهها/ ولكنّي ذُهلت لمّا عرفتُ أنّ شيكسه/ تعني: حشرة”.
إنها قصيدة تؤكد أمرين في شخصية فْريد: إنسانيّته المستنكرة للقتل والظلم والوحشيّة، ويقينه أنّ “إسرائيل” ارتكبت مجازر موصوفة بوحشيّتها، فلنقرأ هذه القصيدة تحت عنوان “بعض منهم”: “خطأ إنسانيّ، المكان، الزمان/ دير ياسين، حتى عام 1948/ قرية فلسطينيّة/ ثم، 350 قتيلًا/ (بحسب المصادر الإسرائيلية 254 فقط) قبية في 14/ 10/ 1953 القرية كلّها/ نساؤها، أطفالها، رجالها/ ثأرًا لامرأة يهودية وطفلين/ قتلوا في الضفّة/ وعن قاتليهم بَحَثَ أيضًا/ جلوب باشا والسلطات الأردنيّة/ وطلبوا المساعدة من إسرائيل/ فكانت المساعدة الإسرائيلية هي..
ما حدث لقبية/ كفرقاسم 1956/ كورفيو، أعلن حظر التجوّل نهارًا/ والفلاحون كانوا هناك.. في حقولهم/ وما سمعوا بحظر التجوّل.. وعادوا/ من عملهم، فأوقفوا إلى الحائط/ 56 إنسانًا، استلزم إزهاق أرواحهم/ نيرانًا كثيرة/ بحر البقر 1970/ المدرسة كانت كبيرة، وحيدة في المنطقة/ تعجّ بالأطفال/ إصابة مباشرة/ لا أحد يعلم يقينًا كم كان عدد الأطفال/ ثم، لم يبق منهم كثير في المكان/ في منطقة بحر البقر/ وأبو زعبل 1970/ 70 عاملًا… في هجوم جويّ/ ونهر البارد 1972/ مرّةً أخرى.. أطفال سقطوا بعد تدمير المخيّم/ و1972 في الطريق المؤدّي إلى جوفايا/ في جنوب لبنان، سيّارة أجرة دهستها دبابة اسرائيلية/ سبعة مدنيين/ وطفل في الثامنة من العمر”.
وهذه نظرة إيريش فْريد إلى أحد سفّاحي “إسرائيل”، مناحيم بيغن، ويمكن أن تنسحب على أمثاله جميعًا من قادة الدولة الصهيونيّة بلا استثناء، وعنوان القصيدة “بيغن”: ” بيغن يتكلم/ وهو يتكلم/ كرجل دولة/ ويريد أن يسمع/ فمن يسمع؟/ السادات… ممكن/ حسين.. ممكن/ لكن ما معنى ذلك؟/ ما معنى أن يتكلّم بيغن؟/ يعني أنّ القاتل يتكلّم/ مجرم دير ياسين/ مجرم فندق الملك داود/ خطأ إنسانيّ/ ذلك كلّه.. هو فقط: خطأ إنسانيّ/ أمّا الإرهاب/ فهو فقط ما يفعله الفلسطينيّون/ قاتل المئات/ نساءً وأطفالًا ورجالًا/ والعدد يزداد عامًا فآخر/ وأضحى الآن/ مجرم لبنان/ مناحيم بيغن يتكلّم/ القاتل يتكلّم عن السلام/ القاتل يتكلّم عن الحق والعدل/ مناحيم بيغن يتكلّم عن المستقبل/ فمن يسمع؟/ السادات.. ممكن/ حسين.. ممكن/ فماذا يسمعان؟/ما معنى كلام القاتل؟/ القاتل يتكلّم عن مستقبل/ ولكنّه بلا مستقبل/ فالطريق من دير ياسين/ إلى قتلى لبنان/ كان أطول بسنين عديدة/ من الطريق بين لبنان/ وقبر مناحيم بيغن/ وطريقنا منذ اليوم/ إلى فلسطين حرّة/ سيكون أقصر من طريق/ السنوات الثلاثين الأخيرة/ بلى: أقصر من طريق/ من دير ياسين إلى هنا”.
أمّا الاضطهاد والنَبْذ اللذان تعرّض لهما إيريش فْريد، فضلًا عن التخوين وتهمة “معاداة السامية” (يا للسخرية!) فإنّ قصيدته “زمن المغرضين” هي خير تعبير عن معاناته في هذا الصدد: “يسمّونني خائنًا/ لشعبي/ يسمّونني/ يهودّيًا معاديًا للساميّة/ لأنّني أتكلم عمّا/ يفعلونه باسم إسرائيل/ ضدّ الفلسطينيين/ وضدّ عرب بلدان أخرى/ وأيضًا ضدّ اليهود/ اسكتوا إلى الأبد/ وسيأتي يوم لاحقًا/ بعد انتهاء هذا الجنون/ سيروح فيه اليهود الباقون/ باحثين عن أثر يهود/ لم يشاركوا/ بل كانوا أكثر حذَرًا/ هكذا كان يشير الألمان/ عقب اندحار هتلر/ إلى ألمان/ كانوا حتى الماضي القريب/ مطارَدين.. أو قُتلوا/ إذ يحتاجون إليهم شهودًا/ على أنّ ثمة ألمانًا/ كانوا مختلفين/ فهل تبقى كلمة/ من تحذيراتي حيّةً؟/ بل.. الأهمّ/ هل سيبقى/ في فلسطين/ يهود أحياء/ نجوا من دمار/ ساهموا هم في خلقه/ بظلمهم/ زمن كنتُ حيًّا؟”.
لعلّ رؤيا إيريش فْريد الأثقب والأدهى تكمن في قصيدته المذهلة والبليغة تحت عنوان “من يهودي إلى الصهاينة”: “اهنأوا فموتانا مغرِقون في الموت/ وإلاّ كانوا صرخوا برأيهم في وجوهكم/ قد صرتم قَتَلة يا أبناء ضحايا قَتَلة/ تحالفتم معهم ضدّ أبناء ضحاياكم/ واسعدوا أن قَتَلةَ أبنائنا جعلوا قلوب البشر تألف القتل/ حتى بات أسياد نصف العالم يرون اليوم/ جرائم قتلكم وكذبكم عملًا طيّبًا فلا يحتجّون/ واسعدوا أنّ مارتن بوبر صديقكم قد مات/ إذ قال قبيل موته/ إنّكم لستم وَرَثَة حكمة اليهود القدامى/ كلا.. بل صرتم تلاميذ هتلر فحسب/ واسعدوا أنّ برتولت بريشت لم يبقَ موجودًا/ لأنّ ما كان سيصدح به عن ظلمكم/ كان سيبقى صداه في أسماع العالم وأسماعكم/ بل كان سيظلّ حيًّا وأبقى من سلطانكم الباطل/ ولتسارعوا إلى الفرح، ففرحكم قصير المدى/ كأفراح طغاة وقَتَلَة آخرين/ ثم سيحيا الفلسطينيّون واليهود في سلام/ وسيحمدون الله على زوال الصهاينة”.
في السياق الرؤيوي نفسه لمصير “إسرائيل”، نقرأ هذه القصيدة الرائعة تحت عنوان “بلغة القدامى”: “تعالَ يا/ شعب إسرائيل/ اخرج من إثمك/ دع عنك ذاك/ الذي يجعلك أضحوكة الشعوب/ وكذلك الذين يتودّدون/ في وجهك/ من أجل مصالحهم/ ويحكّون أنوفهم/ من وراء ظهرك.. هازئين:/ هاكم شعب الكتاب المقدس/ هو محبّ للانتقام.. جشع/ مثل أيّ شعب/ في العالم الوسيع.. الدامي/ تعالَ/ يا شعب إسرائيل/ ابتعد عن إثمك/ ما برحت الفرصة مؤاتية للعودة/ وإن تكن شاقّة/ ولن يقودكم ذهب/ أو كنوز وفيرة/ بل إن الطريق الوحيد/ هو طريق التكفير عن الإثم/ هكذا انبياؤك/ في العصر القديم/ أسمعوكَ كلماتٍ قاسية/ لم ينافقوك/ وأنت.. لم ترجمهم جميعًا/ بل استمعت أحيانًا/ إلى أحدهم/ وإنْ كنتَ لم تطلّ إلاّ نادرًا/ وأنتَ نفسك تعرف/ إلى أين يقودك طريق آثامك/ الذي تمضي فيه وتعبّده للجيوش/ طريق غطرستك/ الذي ينمو فيه خوفك المخبّأ/ على نحو أسرع/ من شجاعتك الصاخبة/ ومن كمّ عتادك/ وأنتَ تعلم نهاية/ مَنْ جعل بأفعاله/ وأقواله/ كلّ مَنْ حَوْلَه/ عدوًّا له/ فإن لم تكن هذه النهاية اليوم فغدًا/ وإن لم تكن غدًا فبعد غد/ وإنْ لم تكن بعد غد/ ففي زمن أبنائه وأحفاده/ وأنت تعرف معنى/ الألم وأكل التراب/ تعرف ذلك من آلامك المديدة/ التي حفرت/ عميقًا مثل أخاديد وتجاعيد/ خطّها الزمن في وجه عتيق/ لذا عليك/ أن تعرف آلام مَنْ/ صَنَعْت آلامهم/ ولا تنتظر/ ولا تَرْوِ آلامًا/ زرعتها/ بآلام جديدة/ فتنمو/ وتحمل لكَ محصولًا مضاعفًا/ أعظم ممّا تستطيع حَمْلَه/ إلى بيتك/ تعال/ قبل فوات الأوان/ أيّها الشعب القديم/ قبل أن تمسي هَرِمًا.. عاجزًا عن العودة/ أو ستنتظر عودة أحجار زوايا دارك/ تحت وطأة ضربات/ تسحقكَ”.
وعلى طريقة “من فمك أُدينك”، يستعيد فْريد مقطعًا حقيقيًا من خطاب لموشيه دايان إلى طلاب كأنّه “يتبناه” ويضمّنه مجموعته هذه: “مستوطناتنا كلّها/ شُيّدت فوق أنقاض/ قرى فلسطينيّة/ لم نَمْحُها من أساسها فحسب/ بل/ ومحونا أسماءها/ من كتب التاريخ/ فأضحى لديهم/ سبب وجيه/ للكفاح/ ضدّنا/ ومشكلتنا/ ليست كيف/ الخلاص منهم/ بل كيف/ العيش معهم/ ولو كنتُ أنا/ فلسطينيًّا/ لكنت ـ احتمالًا ـ من رجال المقاومة/ في منظمة فتح”.
… وأمّا السلام، فيا سلام، يسخر منه إيريش فْريد شرّ سخرية في قصيدة منحها عنوان “بين السادات والصهاينة”: “السلام الذي ليس سلامًا/ صانِعُه/ ليس صانع سلام/ بين ورثة ناصر/ وديمقراطيين/ ليسوا ديمقراطيين/ لمصلحة المصريين/ ولمصلحة اليهود/ وهو ليس لمصلحة المصريين/ وليس لمصلحة اليهود/ يصنع صلحًا/ ليس صلحًا/ يبشّر بمستقبل/ موقظًا آمالًا/ ليست آمالًا/ في فلسطين/ ليست فلسطين/ الباطل/ ما زال باطلًا/ وعنصرية الصهاينة/ ما برحت عنصرية/ والمطرودون/ ما انفكّوا مطرودين/ وقراهم المدمّرة/ وحقّهم لا يزال حقًّا/ وأملهم لا يزال أملًا”.
إلى لبّ هذه القصائد، القصيدة الهدف والأمّ والأساس، التي منحها فْريد عنوانًا لمجموعته بالألمانية “Hȍre Israel” (اسمعي يا إسرائيل) عام 1974، وأعرضها بترتيبها الأصليّ، خلافًا للقصائد السابقة التي فرض ضيق المساحة ترتيبها على هذا النحو الآنف اعتماده.
(1)
كغريب عنكم، كعدوّ لكم
طافح بكرهكم.. لا أتكلّم
فأنا أتكلّم واحدًا منكم
عرف أيضًا الشتات
وفي غرف الغاز والأفران
حيث قُتلت عائلاتكم
أُعدم كذلك أهلي.. وأُحرقوا
من ذلك الحين.. أكافح
ضدّ ما أدّى إلى ذلك
ضدّ قوى
صعدت بهتلر إلى السلطة
ولم تختفِ بعد
عن هذه الأرض
فما أنتم فاعلون
إنّكم تنعمون بمؤازرتها
(2)
هم يرومون منكم
ما أرادوه من هتلر
أن تصبحوا خطوطًا أماميّة
لنظامها العالميّ
لذا لا بدّ من أن أصبّ
كلامي القاسي
في آذانكم
التي ملأتموها باطلًا
لفعلكم في زمن الأنبياء
ومهما يكن الأمر مريرًا وشاقًا
ومهما يكن ردّكم قاسيًا
لن تجسروا على القول
إنّه كان كلام أعدائكم وحدهم
ولن تقولوا بعدئذٍ
إنّ في زمن انتصار اليهود
لم يكن بينهم مَنْ نطق
ضدّ ظلم اقترفوه
(3)
لقد عانيتم في أوروبا
من جحيم الجحيم
من ملاحقة.. من مطاردة
وموت من الجوع بطيء
من عنف القتلة
من عجز ضعفكم
من أحطّ أشكال الظلم
الذي لا يدين إلاّ بالقوّة
راقبتم جلاّديكم
وتعلّمتم منهم
الحرب الخاطفة
وأعمال العنف المؤثّرة
ما تعلّمتوه
تبغون الآن تلقينه
يا أبناء زمن الظلم
الذين نشأوا في أحضانه
(4)
صرتم الآن زارعين ماهرين
رويتم الصحارى
بيد أنّ الفقراء الذين كانوا قبلكم هناك
طردتموهم
أولياء نعمتكم الذين أرسلوا إليكم البذور
والمال للأعمال
والسلاح للعسكر
يرون: البذور أثمرت الآن
ليس نباتًا فحسب:
فمقابل الكراهية
الظالمة التي طاردتكم
تحصدون اليوم كراهيةً أكثر عدلًا
ما كنت أودّ أن
تغرقوا في البحر
ولكنني لا أودّ أيضًا
أن يموت غيركم في الصحارى عطشًا
كنتم مطارَدين
وكنتُ واحدًا منكم
فكيف أظلّ معكم
وأنتم مطاَرِدون
(5)
لم تتعلّموا من الشعوب
بل من أسيادهم
لم تمسوا ضحايا الآخرين
بل غدوتم تضحّون بالآخرين
وقوّتكم إلى زوال
تلك التي تخالون أنّها كافية
لتنتزعوا من المساكين أرضهم
التي سكنوا فيها
(6)
وجوههم
تشبه وجوهكم
لغتهم
قريبة من لغتكم
هم أيضًا اقترفوا الظلم أحيانًا
ليس كل شيء أسود أو أبيض
فأنتم وهم
أحرقتم الشمس عينها
أمّا ظلمكم فكان أعظم
إذْ أُعطيتم أرضًا
ممّن لا يحقّ له
إعطاءكم إيّاها
ظُلمتم حيث كنتم
أكثر من الآخرين
بيد أن الفقراء الذين سلبتموهم أرضهم
لم يكن لهم ذَنْب في ذلك
كنتم أيضًا فقراء
إنّما أكثر يسرًا
ممّن اشتريتم أرضهم
هذا تقريبًا ما فعله اليانكي مع الهنود الحمر
(7)
عودوا، عودوا
فمن زوّدكم مالًا وسلاحًا
لن يكون هنا على الدوام
لكي يوفّر لكم الحماية
العودة لن تكون يسيرةً
فكراهية الفقراء تحيا مديدًا
وكثر يتمنّون لكم
ما كنتم تتمنّون لجلاّديكم
ليس أمامكم طريق آخر
يفتح لكم آفاق المستقبل
إن لم يكن مستقبل
المكروهين إلى الأبد
عودوا، عودوا
فمن زوّدكم سلاحًا ومالًا
يحتاج إليكم مجرّد مرتزقة
ضدّ المستقبل
ضدّ وضع نهاية للاستغلال
ضدّ آمال الفقراء
ضدّ الشعوب
التي ينبغي أن تكون أخوةً لكم
(8)
بين هؤلاء كان
مَنْ صاح:
“باليهود جميعًا إلى البحر”
إنّما ليس هذا صوت المستقبل
ولا تنسوا
ليس الجميع هكذا
أنتم أيضًا
لستم تفكرون هكذا أجمعين…
في مصر وسورية
حكمت قوى مختلفة
غير تلك التي في القصور…
(9)
نادى الملوك بالكراهية
فهم لا يعرفون إلاّها وسيلة
لحضّ الرعيّة
على القتال
ولكن حتى معاداة الآخرين
اكتسبتموها
فالذنب ذنبكم
إن أضحى هؤلاء ضدّكم
ولا تنسوا
أنّ في نيويورك وهامبورغ ولندن
تكتب الصحف
عن هؤلاء بنحوٍ أكثر ودًّا (…)
فهم يريدون دعم الملوك
أمّا البلاد التي تتلمّس
طريقها بمشقّةٍ نحو الاشتراكية
فينصبون لها الفخاخ
وتخدمونهم أنتم
بالأرواح والدماء
والثروات كلّها
التي يعوّضون عليكم بجزء منها
(10)
ولو كنتم غير أكفّاء
لأداء مثل هذا الدور
غير ماهرين وغير أذكياء
غير آدميين وغير أحرار
لَعُلِّقتم على حبال الباطل الجافّة
مثلما يُعلَّق الناس على المشانق
إنّه إنذار يكشف
إلى أين تفضي البسالة
والهمّة إنْ ضُلِّلتا
فهما تخدمان الباطل
(11)
إنّي لأَقول ذلك لمن
كانوا دومًا أعداءكم
ولا يبحثون سوى عن ذريعة
لاستعادة كراهيتهم القديمة
ولست أقوله
لمن تعلّم منكم من كارهيهم
أن يكرهوا أنْفسهم
أو ليرتضوا صورتهم المقيتة
بل أقول ذلك ضدّ
مَنْ يريد اليوم اقتفاء
أثر قَتَلته
ليغدو هو نفسه قاتلًا
فإنْ أصبح أمركم بيده
فسوف يدمّر نفسه
رغم انتصاراته
مثلما فعل عدوّكم بكم
وأقول ذلك أيضًا
ضدّ صديق زائف
يستغلّ حاجتكم
ليورّطكم أكثر في الإثم
ضدّ الذين يحرّضونكم
فتغدو العودة مستحيلة
فيحقّقون غاياتهم
بدمائكم
(12)
لقد حييتم بعد هؤلاء
الذين قسوا عليكم
فهل تحيا قسوتهم
الآن فيكم؟
كان بكم شوق لتصبحوا
مثل شعوب أوروبا
التي قتلتكم
فأصبحتم الآن مثلها
أمرتم المهزوم:
اخلع نعليك
ثم طردتموه
كبش فداء إلى الصحراء
إلى جامع الموت الكبير
ذي النعال من رمل
بيد أنّهم لم يسلّموا بالذنب
الذي علقتموه في أعناقهم
وأثر القدم العارية
في رمل الصحراء
أطول بقاءً من أثر
قنابلكم ودباباتكم…
إيريش فْرِيد إنسانيّ مفرط الإنسانيّة (بالإذن من نيتشه، وإن رمى عنوان مؤلَّفه إلى مقاصد مختلفة). فهل من ينطق بالحقّ والحقيقة هو “معادٍ للساميّة” فيما هو من أبناء سام حسبًا ونسبًا؟! وهل مَنْ يبغي إرجاع بني قومه عن غيِّهم وضلالهم وغفلتهم واستغلال أمم الغرب لهم يستحقّ أن يُنعت بـ”كاره نفسه”؟! وهل مَنْ يؤمن بإنسانيّة الإنسان في كل مكان في العالم يسهل وصفه بـ”الخائن”؟! أين الخيانة وكره النفس ومعاداة الساميّة في خطاب شاعر وكاتب معروف مكرّس الموقع والأهميّة في بلده وفي العالم أجمع إنْ هو وقف إلى جانب المظلوم والمقهور والمطرود من أرضه التاريخيّة فلسطين.
ألا تكفي عكا وحيفا ويافا والقدس والناصرة وبيت لحم وأريحا ونابلس والجليل، وسائر المدن والقرى والبساتين الشاسعة والأراضي الفسيحة، لتقف شاهدًا تاريخيًّا منذ عشرات القرون، وما قبل المستعمرين، أتراكًا، وبريطانيين، وغزاة آخرين، على أنّ فلسطين راسخة في التاريخ رسوخ الجبال التي لا تتزحزح؟! أليست فلسطين حقيقة تاريخية دامغة، ببداوتها وحضارتها وعمرانها وشجرها وزيتونها، وخيرها الممتدّ، وعائلاتها الأصيلة الطاعنة في القدم؟! هل كانت يومًا، على ما يزعم المستعمرون والمستوطنون الطارئون والغاصبون والمتسلّلون كالأفعى تحت جنح ظلام المستعمر البريطاني وظلمه، هل كانت حقًا “أرضًا بلا شعب” كي يأتي محتلّ قاتل ومرتكب مجازر ليُحِلَّ فيها “شعبًا بلا أرض”؟!
هذا ما يقوله إيريش فْريد، ولا يقول شيئًا سوى ذلك، ناصحًا شعبه بألاّ يتحوّل من ضحيّة إلى جلاّد… لكنه تحوّل يا إيريش، وانتهى الأمر. الضحيّة صارت جلاّدًا، ومن النوع الأكثر توحشًا، والأقبح. فشكرًا لك، وإن تكن غادرتنا قبل أن ترى عودة الأرض إلى أهلها الحقيقيين. يكفي أنّك تركتَ لنا نضالك الشعريّ الذي يَنْصُرُ الحقّ ضدّ الباطل. نحن مدينون لك بقول الحقّ والحقيقة.
جورج كعدي: ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.