أوهام ابن الأنباري في «شرح القصائد السبع»
يعدُّ كتاب «شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات» لابن الأنباري (ت: 328 هـ)1، واحدًا من الكتب التي وقعت فيها بعض الأوهام والأخطاء، التي تعددت أسبابها؛ ما بين تشابُه أسماء الأعلام، إلى الخلط بين التواريخ، إلى اختلاف روايات وترتيب أبيات القصيدة الواحدة، وما يتعلق بذلك من نتائج؛ وفي هذا المقال نعرض لنماذج من تلك الأوهام، مع ذكر الصواب إن شاء الله.
روى ابن الأنباري في تقدِمَتِه لشرح معلقة طرفة بن العبد (ت: 564م)2، متحدثًا عن عمرو بن هند (ت: 45 ق. هـ)3
«وكانت العرب تسمِّيه مضرط الحجارة، وملَك ثلاثمائة وخمسين سنة»4، ومدة ملكه هذه التي ذكرها ابن الأنباري وهَمٌ فاحش لا يتفق أبدًا مع تاريخ العرب في تلك الفترة، والصواب كما في «تاريخ الطبري»: «ثم ملك ابنه عمرو بن المنذر -وأمه هند ابنة الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار- ست عشرة سنة»5.
وقال ابن الأنباري وهو يشرح قول الحارث بن حلزة (ت: 570م)6:
فملكنا بذلك الناس حتى
ملك المنذر بن ماء السماء7
قال: «وإنما قيل له ماء السماء؛ لأنه شبه عموم نفعه بعموم ماء المطر»8.
وقد وهَم ابن الأنباري في ذلك؛ قال صاحب «معجم الشعراء»: «المنذر ابن ماء السماء -وهي أمه- وأبوه امرؤ القيس بن النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر اللخمي»9، وقال صاحب «وفيات الأعيان» وهو يذكر من لُقِّب بماء السماء: «وأما عامر10 فإنما لُقِّب بماء السماء؛ لجوده وكثرة نفعه، فشُبِّه بالغيث، وأما المنذر ابن ماء السماء اللخمي أحد ملوك الحيرة، فإن أباه امرؤ القيس بن عمرو بن عدي، وماء السماء أمُّه، وهي بنت عوف بن جشم بن النمر بن قاسط، وإنما (قيل) لها ماء السماء؛ لحسنها وجمالها»11.
وقال ابن الأنباري في قول الحارث:
وهُو الرَّبُّ والشَّهيدُ علَى يو
مِ الحيارَيْنِ والبلاءُ بلاءُ
قال: «قال أبو الحسن الأثرم (ت: 232 هـ)12، ويعقوب بن السكيت (ت: 244هـ)13: لا يتم معنى (وهو الرب والشهيد) إلا بهذا البيت الذي أقوى فيه»14؛ يعني قوله (فملكنا بذلك الناس…)، ثم قال: «والرب: عني به المنذر بن ماء السماء (ت: 60 ق. هـ)15، يخبر أنه قد شهدهم في هذين اليومين، فعلم فيه صنيعهم وبلاءهم الذي أبلوا، وكان المنذر بن ماء السماء غزا أهل الحيارين ومعه بنو يشكر، فأبلوا بلاء حسنًا»16.
وثمة ملاحظات هنا تتمثل في الآتي:
أولًا: ما رواه ابن الأنباري عن الأثرم وابن السكيت من عدم تمام معنى (وهو الرب والشهيد…) إلا بسابِقِهِ (فملكنا بذلك…) ليس بصحيح؛ لأن المعنى يمكن أن يستقيم دون ذلك البيت المذكور، ويكون الكلام عائدًا على عمرو ابن هند، متصلًا بقول الحارث قبل ذلك بأبيات حسب رواية ابن الأنباري نفسه17:
أَيُّها الناطقُ المُرَقِّشُ عَنَّا
عِندَ عَمروٍ وهَلْ لذاك بقاءُ
ثانيًا: المناسبة والسياق يوضحان أن الحارث يقصد بقوله (وهو الرب والشهيد…) عمرو بن هند؛ فقد نظم الحارث هذه القصيدة في الفخر بقومه، والتعريض بخصومهم التغلبيين، ومدْح عمرو بن هند واستعطافه على البكريين ضد التغلبيين، وفي شرح الزوزني (ت: 486 هـ)18 أن المراد هو عمرو19، وهو الصواب، غير أن ترتيب الأبيات عنده مختلف، وليس فيها (فملكنا بذلك الناس).
الهوامش:
1 – «الأعلام» للزركلي (6/ 334)، طبعة: دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشرة 2002م.
2 – المصدر السابق (3/ 225).
3 – المصدر السابق (5/ 86- 87).
4 – «شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات» لابن الأنباري (ص 115)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، طبعة: دار المعارف، الطبعة الخامسة.
5 – «تاريخ الطبري» (2/ 104)، طبعة: دار التراث- بيروت، الطبعة الثانية 1387هـ.
6 – «الأعلام» للزركلي (2/ 154).
7 – البيت من الخفيف، في معلقته، وما يتعلق بضبط البيت وما دار حوله من كلام على الإقواء فقد فصَّلت رأيي فيه، في موضعٍ آخر.
8 – «شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات» لابن الأنباري (ص 475).
9 – «معجم الشعراء» للمرزباني (ص 366)، تصحيح وتعليق: الدكتور ف. كرنكو، طبعة: مكتبة القدسي، دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان، الطبعة الثانية 1402هـ- 1982م.
10 – هو عامر بن حارثة بن الغطريف الأزدي، من يعرب، هاجر من اليمن، وسكن بادية الشام، وبنوه يعرفون ببني ماء السماء، من الأزد. انظر «الأعلام» للزركلي (3/ 250).
11 – «وفيات الأعيان» لابن خلكان (5/ 357- 358)، تحقيق: إحسان عباس، طبعة: دار صادر- بيروت، الطبعة الأولى 1994م، وما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق.
12 – «الأعلام» للزركلي (5/ 23).
13 – المصدر السابق (8/ 195).
14 – «شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات» لابن الأنباري (ص 475).
15 – «الأعلام» للزركلي (7/ 292).
16 – «شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات» لابن الأنباري (ص 476).
17 – المصدر السابق (ص 453).
18 – «الأعلام» للزركلي (2/ 231).
19 – «شرح المعلقات السبع» للزوزني (ص 286)، طبعة: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى 1423هـ- 2002م.
حسن الحضري / عضو اتحاد كتاب مصر