حرص الجواهري الكبير وهو في منتصف تسعيناته، أن يجهد بكل مثابرة وحرص، ليودع المكتبة العربية منجزاً ثقافياً وشعرياً نادراً بفخامته ومحتواه.
وذلكم هو موسوعة “الجمهرة” التي ضمت بأجزائها العشرة، مختارات لمئات الشعراء العرب، ومن مختلف العصور. وقد انشغل بها الشيخ الجليل طيلة عام 1983 في دمشق الشام، وليشرف على تنقيحها وفهرستها وترتيبها لاحقاً د. عدنان درويش.
وقد صدر الجزء الأول المكرس للعصر الجاهلي عن وزارة الثقافة السورية عام 1986، بنحو تسعمئة صفحة من القطع الكبير.
ثم تبع ذلك صدور الجزء الثاني (العصر الاسلامي والأموي) عام 1990 بأربعمئة صفحة من القطع ذاته… أما الأجزاء الأخرى فهي اما في الطريق إلى الاتمام، أو انها صدرت فعلاً، ولم يتسنَ الاطلاع عليها.
ولم يكتف الشاعر الكبير باختيارات “العيون الشعرية” وحسب، بل وأوجز سطوراً عن حياة أصحابها الذين ضمتهم الموسوعة، وقد كان للفحول من الشعراء حصتهم الأميز في هذا المجال… كما شمل المنجز أيضاً دراسة موسعة في جزئه الأول، ومقدمات لكل واحد من الأجزاء الأخرى.
وفي حديثه عن “قصة الجمهرة” يقول الجواهري ان اختياراته للشعر والشعراء “قد انسجمت مع ما جبلتُ عليه مزاجاً، وفكرة واتجاهاً، من اعجابي أكثر من كل شيء آخر، بالقصيدة، أو بالقطعة التي تجمع – إلى جانب قيمتها الشعرية واشاعتها جواً من صفاء التعبير ورقة النغم – قيماً اجتماعية، أو خلقية أو ثورية أو سياسية أو سخرية.
ثم القصائد والقطع التي تتصل اتصالاً وثيقاً وصادقاً بالحيوات الشخصية الخاصة بشعراء عرفوا – أولاً وقبل كل شيء – بما يتميزون به عن الشعراء الآخرين باستقلال شخصياتهم وشخوصها، وتفردها في اختيار نمط من الأنماط العديدة للحياة، يعكفون عليه، وينذرون له أنفسهم ومصائرهم…”.
ويروي شهود عيان من أهل البيت، ان عام انجاز الجواهري لموسوعته كان “صفاً” أو “دورة دراسية” بكل ما يعنيه ذلك من معنى.
ومن بينه انغمار عميق للشاعر الكبير في عشرات مصادره مثل “الأغاني”، و”العقد الفريد” و”خزانة الأدب” و”الفضليات” و”حماسة ابي تمام” ومختارات “البحتري” و”البارودي” و”ادونيس” و”هادي العلوي” وغيرها، فضلاً عن دواوين العشرات من الشعراء المعنيين.
لتتم الاستذكارات، فالاقتباسات فالتصحيح فالتنقيح والترتيب. وهكذا بوجبتي “عمل” أو “دوامين” صباحي ومسائي، طيلة سنة كاملة، مع بعض الاجازات القصيرة! .
وقد تسبب ذلك الجهد الفائق في أن يتعرض نظر الجواهري إلى صعوبات جدية آلت لأن تُجرى عملية دقيقة لعينيه، نجحت في ترميم بعض الأضرار، ولكن النتائج النهائية كانت أن يفقد قدرته على القراءة والكتابة بنسبة كبيرة، وبشكل دائم.