تشريح النقد الحداثي وما بعدَه
إن القراءة الماتعة (البالغة الجودة والطويلة) التي قام بها الدكتور عبد العزيز حمودة في كتابه “المرايا المحدبة” تعد،بحق، نقدا وتشريحا للنقد الحداثي وما بعده. ومن خلال شرحه – بدءا- للمراد بالمرايا المحدبة يتبين لنا أن هدفه هو إبراز أن النقاد الحداثيين العرب باتباعهم للغرب إنما يقزمون أنفسهم(من خلال توهم تكبير الصورة أو تحدبها في المرآة) ويقزمون النقد العربي معهم.
يقع الكتاب في 356 صفحة وهو صادر سنة 1998عن مجلة عالم المعرفة العدد 232. وكما يتضح من العنوانين الفرعيين فعبد العزيز حمودة قام بعملين في هذا الكتاب: الترجمة والتأليف.
يعتقد الدكتور عبد العزيز حمودة أن نقاد الغرب البنيويين وما بعدهم قد بنوا لأنفسهم برجا عاجيا وشكلوا نخبة النخبة من خلال اللجوء إلى الغموض الذي مارسوه في نقدهم ولغتهم، الشيء الذي كان يثير الخوف والرهبة عند القارئ المتطلع لمعرفة هذا النوع من النقد الأدبي. وهم بفعلهم ذلك إنما أبقوا على مسافة معينة مع القراء.
انبرى الباحث مناقشا في هدوء تام الأسس المعرفية والفلسفية للنقد الحداثي وما بعده: النقد الجديد في أمريكا والنقد الشكلاني في روسيا والنقد البنيوي في فرنسا والتفكيكية في فرنسا وأمريكا بعد ذلك. ونقصد بالمناقشة الهادئة أنه لم يصف هذا النقد وممارسيه إلا بما فيهم دون التنقيص من جهودهم وهو العارف بخبايا النقدين العربي والغربي.
لقد كان هدفه – كما قال- هو إبراز أن ليس تحت القبة (قبة هذا النقد) شيخ، حتى يقدسه بعض نقادنا ويتبعوا خطوطه وطلاسمه. فما جاء به هذا النقد حسب جوناتان كيللر ما هو إلا نبيذ قديم في قوارير جديدة.
فالتفكيكية مثلا كانت مجرد سحر لغوي براق مخادع اهتم باللغة الميلودرامية قصد التسويق، ما جعلها مقبولة بسرعة في المجتمع الأمريكي المستعد (حسب ظرفيته التاريخية آنذاك) لمثل تلك الأمور.
إذ تحدثوا عن موت المؤلف وأن كل قراءة هي إساءة قراءة، ثم اهتموا باللعب الحر بالكلمات(قضية الاختلاف عند دريدا نموذجا) وكل ذلك مرده إلى النبع الذي استقوا منه أفكارهم، ذلك هو الأصل التدميري للتأويلية عند مارتن هايدجر الذي كان يرى بأن التقاليد تحجب عنا أصل الأشياء ولهذا كان من الواجب تدميرها أوتفكيكها بتعبير دريدا.(وهو التناقض الأساس الموجود في التأويلية الهايدجرية كما أبرزه عبد العزيز حمودة).
لقدت أخذت اللغة نصيبا مهما في العمل الذي قام به هذا الباحث، إذ يرى أنها أصبحت مركز الاهتمام بدلا من العقل الذي كان يشكل مركز الفكر في القرن 19وقبله. فمع فرديناند دي سوسير أصبحت العلامة (أو الدليل) تتسم بالاعتباطية، أي أن العلاقة بين الدال والمدلول أصبحت ضعيفة بعدما كانت شفافة في القرون السابقة، وفي اللغة سجنت البنيوية والتأويلية والتفكيكية.
ذلك أنه حسب هذه المناهج القرائية، فالأدب ليس خادما للواقع حتى تبقى اللغة شفافة بالشكل الذي كانت عليه(ومن هنا رفضهم للأدب الواقعي). فقد انفصلت اللغة عن تمثيل الواقع وأصبحت نسقا مستقلا بذاته وظهر الأدب كما نعرفه اليوم ليثبت وجود اللغة واستقلالها وهكذا تحول الأدب إلى لغة خاصة، أصبح الوجود الطاغي المتمرد للكلمة..أصبح تعبيرا عن لغة لا تعترف بأي قوانين سوى تلك التي تؤكد وجودها(ص المرايا المحدبة213)، أي أن اللغة أصبحت تدرس لذاتها.
ومن هنا يبرز لنا ذلك الصراع الذي خاضه البنيويون(وخاصة بارت في مرحلته البنيوية مع كتابه عناصر السميولوجيا 1968) مع الفكر البرجوازي الذي كان يشجع اعتبار اللغة أداة شفافة لنقل الواقع وأن الدال هو الشريك الواعي للمدلول(ص240 المرايا المحدبة).
وإذا كان موضوع ضرورة ابتعاد اللغة عن الواقع قد شكل صلب الشكلانية الروسية التي اعتبرت أن موضوع علم الأدب هو الأدبية أي ما يجعل من النص أدبيا، فإن الانفصام الكامل بين طرفي الدلالة في العصر الحديث يفتح الباب كما سيحدث في التفكيك أمام لا نهائية المعنى أو اللامعنى كما يقول بعض الرافضين للحداثة، لكن القولة تنطبق بدرجة أقل على البنيوية أيضا، فنحن كما تخلص كروزويل أصبحنا نتعامل مع نصوص لم تعد تتكلم(ص 242المرايا المحدبة).
لقد انتهى الدكتور عبد العزيز حمودة في كتابه إلى نقطة بداية بحثه مستخلصا أن التفكيكيين وصلوا إلى نفس ما انتهى إليه البنيويون وهو حجب النص والقول بعدم وجوده، فكلاهما انطلق من رفض مشترك للمذاهب النقدية المعاصرة والسابقة نحو هدف واحد على رغم اختلاف الوسائل التي اختارها كل منهما وهو تحقيق المعنى وانتهيا إلى نفس المحطة النهائية، فالبنيويون فشلوا في تحقيق المعنى والتفكيكيون نجحوا في تحقيق اللامعنى.
وهكذا ففوضى القراءة تقودنا إلى الشك في كل شيء في نهاية الأمر وهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى ارتباط نظريات التلقي الجديدة التي لا تقول بتعدد قراءات النص الواحد، بل بلا نهائيتها وباستحالة المعرفة اليقينية.
لقد رفضوا كل شيء ولم يقدموا بديلا أو بدائل مقنعة. وما وقع، هو أنهم استبدلوا النص ولغته بلغة نقدية أخرى واصفة شارحة أصبحت هي الهدف في ممارستهم النقدية. وهكذا فقد قتلوا النص وقبله المؤلف وجلسوا على ثلة النقد بهذه الطريقة.
- المرجع:
عبد العزيز حمودة: المرايا المحدبة، من البنيوية إلى التفكيك، سلسلة عالم المعرفة،ع 232، أبريل 1998.