- 1. مثاقفة متفاوتة
في هذه الرواية الصادرة عن دار نابو في بغداد (2021) بترجمة الكاتب المغربي محمد الجرطي، يبني الروائي الفرنسي لوران بيني عبر خمسة فصول تحيل عناوينها على أمكنة: باريس وبولونيا وإيثاكا والبندقية وباريس مرة ثانية، عالمًا روائيًا مختلفًا في بنيته السّردية (رواية السّعي)، وأنساقه الثقافية والاجتماعية، كما أنه يستمدّ أحداثه وتفاصيله ومشاهده من أحداث حقيقية ميّزت المغامرة النقدية والثقافية التي عرفتها فرنسا خلال الفترة الممتدة من الستينيات إلى الثمانينيات، والتي اصطلح عليها في تاريخ النقد الأدبي بالمغامرة البنيوية التي ما فتئت أن أخذت بعدًا عالميًا.
وكما يقول الناقد الاجتماعي جاك لينهارت فهذه اللحظة “كان يغذيها الشعور بالوصول أخيرًا إلى علم للنصوص، وثورة في نظام الأدب الذي كانت تيل كيل Tel Quel، بعد الرواية الجديدة Nouveau Roman، هي الحاملة للوائه. كما استجابت للإرهاق الأيديولوجي الذي استولى على المثقفين بعد انتهاء الحرب الجزائرية، ودخول فرنسا المُجتمعَ الاستهلاكي”[2].
لنقل إن هذه الزمنية التي صارت فيها الحضارة الغربية، بتعبير المؤرخ إريك هوبزباوم، ليست استهلاكية وحسب، بل معولمة أيضًا[3]، ونما فيها التعليم العالي نموًا هائلًا ما أدى إلى تحويل المثقفين في هذا العصر المعولم الجديد إلى طبقة مؤثرة ذات أهمية سياسية[4]، تمثل المناخ الذي يغذّي المغامرة الروائية في هذا النص الموسوعي، المتاهي والآسر بقوته التناصية والنقدية (الهجائية).
يَتركّزُ التخييل على أحد أبرز رموز المغامرة النقدية في النصف الثاني من القرن العشرين، الناقد الفرنسي رولان بارت الذي من شدّة الخصوصية التي تميزت بها تجربته النقدية، والفرادة التي تمتعت بها كتابته بالقياس إلى غيرها من التجارب الأدبية المعاصرة بوصفه واحدًا من ألمع كتاب الشذرة في هذا العصر، خاصّة كتابه “رولان بارت بقلم رولان بارت“، كما يقول المفكّر المغربي عبد السلام بنعبد العالي[5]، طبقت شهرته الآفاق، وباتَ مصدرًا إلهاميًا أساسيًا لكثير من الثقافات المعاصرة، بما في ذلك الثقافة الأميركية التي احتلّ فيها إبّان الثمانينيات وبعدها مكانة رفيعة لا يضاهيه فيها سوى الموقع الذي تمتع به في المجتمع الأميركي كبار رموز السّينما، كما يقول فرانسوا كوسي في كتابه “النظرية الفرنسية”[6] French Theory.
وثمة نقطة مفصلية فيما يتصل بالمثاقفة الأميركية- الفرنسية تعدّ أحد أبرز الأسئلة التي يصوغها التخييل الروائي، وهي أن فرنسا أنجبت في هذه المرحلة أبرز المثقفين والمفكّرين العالميين من طراز فوكو ودولوز ودريدا…، لكنّ تأثيرهم في الثقافة الفرنسية كان أقل قياسًا إلى ما حمله فكرهم للثقافات الأخرى.
يقول السّارد: “كانت النظرية الفرنسية أداة انقلاب لثورة أتاحت لهم الانتقال من وضع غير مجد إطلاقا في العلوم الإنسانية إلى حقل معرفي يشمل جميع الحقول الأخرى، لأنه بما أن النظرية الفرنسية تنطلق من فرضية أن اللغة هي أساس كلّ شيء، فإن دراسة اللغة تعني دراسة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس… وهنا يكمن المنعطف اللغوي الشهير” (الرواية: ص261).
وإذ تلتقط الرواية الانزياح الكبير في الثقافة الأميركية، والانتقال من الفلسفة التحليلية إلى الفلسفة الكونية، وتُبرزُ دور الفيلسوف الألماني هايدغر- الذي آمن بأنّ على الفلسفة أن تعود إلى سؤالها الأصيل: الوجود من منفذ اللغة باعتبارها نقطة مركزية في التجربة الإنسانية- في هذا الانعطاف الفكري من خلال التركيز على الأسماء التي تأثرت به، وفي الطليعة دريدا وسبيفاك ودي مان وباتلر وآخرين… فإنها تصوّر في المقابل الشعور المفرط بالعجز الذي بات يُسيطرُ على كثير من المثقفين الفرنسيين المنضوين ضمن النظرية الفرنسية إزاء السّطوة التي لا مفرّ منها التي باتت تتمتع بها الثقافة الأميركية، ليس فقط بوصفها ثقافة جاذبة ومكتسحة، وإنما أيضًا لكونها صارت محجّ المفكّرين والكتاب الباحثين عن الشرعية والاعتراف من مراكزها، بمن في ذلك الكتاب الفرنسيون.
ولنتذكّر أن كاتب هذه الرواية لوران بيني قارئ نهم للأدب الأميركي المعاصر، وأنه يعترف في مقابلات أجريت معه بأن القوة التخيّلية التي يتسم بها عمله مدين فيها للأدب الأميركي. من هذه الزاوية فإن ردّ الفعل الغاضب من فيليب سولرس إزاء ما يعتبره تقويضًا لرغبة عارمة في أن يحاضر في الجامعات الأميركية، والدّهشة التي أصابت الباحث سيمون هيرتزوغ وهو: “يكتشف مندهشًا جمال الحرم الجامعي، ولم يكفّ عن التفكير في فضاء جامعة فينسين التي بالمقارنة مع جامعة كورنيل، بدت له أشبه بسلّة المهملات العملاقة” (الرواية: ص254) يمكن أن يقرأ بوصفه علامة تنطوي على شعور كامل وقد بات اليوم واقعًا ملموسًا. وربّما في هذا المستوى تتبدّى القوة النّقدية لهذه الرّواية التي أثارت جدلًا كبيرًا في الوسط الثقافي الفرنسي إبّان صدورها عن دار غراسي Grasset عام 2015.
من المؤكّد أن كلّ رواية تكتسب خصوصيتها بوصفها عملًا متفرّدًا ومختلفًا من أسلوبها وطريقتها في تقديم العالم والشخصيات والأحداث والأزمنة، وعليه فإن “رواية الوظيفة السابعة” تتميز بالحبكة الدرامية التي من خلالها يجري تقديم تاريخ النظرية الفرنسية بأعلامها البارزين، وفي طليعتهم رولان بارت.
تتخذ الرواية من حدث موت رولان بارت سنة 1980 بعدما صدمته شاحنة للغسيل يقودها بلغاري، وهو يعبر ممرًا للمشاة في شارع المدارس، “وكان قد خرج للتو بعد غداء مع فرانسوا ميتران في شارع بلاك مونتو” (الرواية: ص21)، نقطة الارتكاز التي ينهض عليها التخييل لتشييد عالم روائي بوصفه عالما ممكنا، حتى وإن كان، في طبيعته، يختلف عن العالم الواقعي، فإنه يشكّل المفتاح الذي يظلّ تأويل الرواية وفكّ تشفيرها مشدودًا إليه.
تتصور الرواية مسارًا آخر غير الموت العادي، أي الاغتيال المدبّر، وهنا يجب أن نتذكّر نقطتين مهمتين تتعلّق أولاهما بالمخابرات البلغارية إبان الثمانينيات، أما الثانية فتتصل باللقاءات التي كان جاك لانغ ينظمها للمثقفين مع فرانسوا ميتران، وفي مثل هذه الأجواء يكون الجميع في موقع الاشتباه. من هنا تبرزُ قوة التشويق وفعاليته التي يتجلّى معها ذكاء الروائي ومهارته الاستثنائية في استثمار تقنيات الكتابة السردية واللعب بالأزمنة وتنويع اللغة بهدف بناء كون يحتشد بالجزئيات والتفاصيل والمشاعر المتصارعة التي يولدها حقل ثقافي وسياسي حواري بعلاقاته ورموزه وجماعاته المختلفة: مثقفين ورجال سياسة وشعراء وفنانين ومثليين وناسًا عادين، فضلًا عن فضاءاته المتعددة كالسوربون والكوليج دوفرانس والمدرسة العليا للأساتذة وفينسين باريس وجامعة كورنيل: إيثاكا وبولونيا حيث مقرّ نادي اللوغوس المجتمع المتخيل غير المعروف وذي التقاليد الغريبة، والمكتبات الفرنسية، ومكتبة كورنيل التي تعمل على مدار 24 ساعة في اليوم، والسينما، وشقة بارت والكتب التي تحويها، والمجلات التي يقرأها، والمقاهي، وحمامات البخار وما يتقاسم فيها من لحظات المعرفة ولحظات المتعة والألم والجنس والحشيش والتمرّد.
توظف الرواية حدث موت رولان بارت سنة 1980 بعدما صدمته شاحنة يقودها بلغاري، وهو يعبر ممرًا للمشاة وكان قد خرج للتو بعد غداء مع فرانسوا ميتران |
وبما أن الزّمن هو القوة الحتمية التي لا يُمكنُ للرواية أن تتجنبها أو أن لا تضعها في الحسبان، أمكن أن نستشف كيف يشكّل السياق الزمني ذلك الخيط الرّفيع الذي يتخلل مفاصل هذه الرواية الفكرية، وينسّق محطاتها الأساسية ويضفي الانسجام والتماسك على مشاهدها المتضادة التي يتداخل فيها السياسي بالاجتماعي والثقافي والتاريخي، كما يتداخل فيها الفردي بالجماعي، والمقدّس بالدنيوي، ونثر الواقع بشعرية الحلم.
وبما أنّ العقد الثمانيني يتعين بوصفه منعطفًا في تاريخ فرنسا، حيثُ الصراع الانتخابي، بين اليمين واليسار، على أشدّه، والشعور بالإحباط إزاء النزعات الفاشية التي تجتاح أوروبا، ووصول اليسار إلى السلطة في شخص فرانسوا ميتران، وهذه هي النقطة التي يسدل بها الستار على هذه المغامرة الروائية التي اشتقّ سؤالها: من قتل رولان بارت؟ من رحم هذه الزمنية التي يمكن وصفها بلغة إدوارد سعيد بأنها زمنية طباقية، لأن فيها يتحرّك الشيء ونقيضه في الآن ذاته.
2. الشكل البوليسي: الاستئناف المتجّدد
لعلّ ما هو مثير للانتباه في هذا العمل الرّوائي الذي تدور أحداثه وتفاصيله في فرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا، هو الانزياح عن السّائد في الكتابة السّردية منذ النصوص الكلاسيكية التي ترتدّ إلى القرن السابع عشر. فقد دأبت الرواية على أن تتخذ من المغامرة الإنسانية موضوعها الرئيس، خاصّة في الأزمنة الحديثة التي طبعها الانفصال الشديد والقطيعة المستحكمة بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه، واشتدّت وطأة العزلة على الفرد الذي بدا في صراع بلا هوادة مع المؤسسات الاجتماعية المحافظة الميالة إلى استدامة ما هو قائم، وهذا ما أضاءه الناقد الروماني توماس بافيل في كتابه العمدة: “فكر الرواية“، وعدّه بمثابة المتجه الذي لا مناص منه لفهم الرّواية المعاصرة وتحولاتها على مستويي الشكل والخطاب.
لكن أن تتخذ الرواية من موت بارت، ومن مقتل زوجة ألتوسير خنقًا، ومن المغامرة النقدية في حدّ ذاتها والحقل الثقافي والأيديولوجي الذي جعل وجودها ممكنًا، موضوعًا للتخييل بحثًا عن الحدود المجهولة في الواقع الثقافي والسياسي إبان الثمانينيات، رغم أن استثمار الرواية وتوظيف ممكناتها السّردية لتقديم أشكال من المعرفة ليس أسلوبًا جديدًا، ولم يكن في أي وقت حكرًا على كتاب الرواية، كما يبدو من الحقول الأخرى التي تتعدّد فيها التجارب التي راهن أصحابها على تقديم معارف خاصّة أو متخصّصة في صيغة روائية.
لنقل إن هذا الخطّ الذي يتحدّى فيه الرّوائي التصورات الثابتة عن الهوية الثقافية لفرنسا في مسعى للكشف عن الاختراقات التي تجري في صميمها، هو ما يمثل الجديد المختلف، وبالتالي العمل الأهم الذي عمله بيني في هذه الرواية الكبيرة التي تحفر عميقًا في تضاريس المشهد الثقافي الفرنسي والعالمي المعاصر، وعند غيره من الروائيين المعاصرين ممن يُسيطرُ على أعمالهم هاجس أن كلّ شيء قيل في الما قبل، وأن الكتابة تتعيّن بوصفها ضربًا من الاستعادة التي لا تعني التكرار- لنتذكر أن الكاتب النمساوي بيتر هاندكه له رواية بهذا العنوان: التكرار la répétition-، وإنما الإضافة إلى النّص وخلقه خلقًا جديدًا[7].
لفظ القبل يفيد من المنظور الدولوزي “أنه لا يمكن لأي فلسفة أن تتقوّم وتتشكّل بواسطة إبداع المفاهيم فقط، بل لا بدّ لها من أرضية، من تربة يتم فوقها النشاط الفلسفي، بحيث تزود هذه الأرضية الفيلسوف بالمساحة اللازمة لوضع المفاهيم وحركتها”[8]. هذه الأرضية هي مجال عمل الأدب أيضًا، فهي التي ينطلق منها الروائي المعاصر، ويستأنف انطلاقا منها إبداعه بشكل يصير معه هذا “الاستئناف المتجدد هو خروج عن السّكة، عن الخطّ، إنه اجتراح طريق جديدة، ومعنى مغاير”[9].
وقريب من هذا ما يسجّله السّارد من محاضرة 1980 التي قدمها جاك دريدا في مؤتمر “التحول المتصاعد للمنعطف اللغوي” بجامعة كورنيل: “لذلك، نجد أنفسنا دوما وحتما، في شكل من الاستشهاد. نستعمل كلمات الآخرين. والحالة هذه، كما هو الشأن في نشر المعلومات، فمن المحتمل أكثر من اللازم، وبشكل لا مناص منه، من خلال التكرار، نستعمل كلمات الآخرين، أعني نحن جميعا، بمدلولات مختلفة إلى حدّ ما عن بعضنا البعض” (الرواية: ص282).
تُبرزُ الرواية دور الفيلسوف الألماني هايدغر الذي آمن بأنّ على الفلسفة أن تعود إلى سؤالها الأصيل: الوجود من منفذ اللغة باعتبارها نقطة مركزية في التجربة الإنسانية |
لا غرابة في أن يتخذ هذا العمل شكل الرواية البوليسية التي يضطلع فيها المحقق جاك بايارد الذي لا يخفي المسحة العنصرية التي تخترق كلامه: “انظر يا سيمون! يبدو أن العربي لديه تساؤلات حول الفعل التأثيري” (الرواية: ص269) وأيضا كراهيته للعلم والفكر، والشاب سيمون هيرتزوغ، بمسؤولية إعادة بناء الرواية الكاملة للحادث الذي تعرّض له بارت في يوم 25 شباط/ فبراير من عام 1980، والمخطوط المتعلّق بالوظيفة السابعة للغة الذي سرق منه، والذي يشكّل تداوله تهديدًا وخطرًا كبيرين.
المخطوط المفقود الذي كان بحوزة بارت أثناء الغداء مع ميتران يعود للساني الرّوسي رومان جاكبسون الذي تحدث عن الوظائف الست للغة، أما مخطوط الوظيفة السابعة فلم يسبق نشره، وهو يتعلّق بما يسميه جاكبسون الوظيفية الأدائية التي مفادها أن القول يعني الفعل. فمن يمتلك هذا المخطوط يستطيع أن يفعل أي شيء بالمطلق، وليس غريبًا أن يتعيّن المخطوط بوصفه موضوع قيمة بالنسبة لليمين واليسار، وبالنسبة للمثقفين أيضًا، وأن يقتل من أجله الناس؛ يقتل ألتوسير زوجته خنقًا، ويصير الشاب سيمون أكتع، ويحدث ليوليرس ما حدث في نادي اللوغوس، ويموت دريدا متأثرًا بعضّات الكلب الذي هاجمه.
وفي جوابه عن السّؤال الذي طرحه المحقق بايارد حول ما تعنيه بالتحديد الوظيفة السابعة للغة، يقول أمبرتو إيكو: “من يملك المعرفة وامتلاك مثل هذه الوظيفة، سيكون في الواقع سيد العالم. لن يكون لقوته حدود. سيكون قادرًا على الفوز في كل الانتخابات، وإثارة الحشود، وإحداث الثورات، وإغواء جميع النساء، وبيع جميع أنواع المنتجات التي يمكن أن يتخيلها المرء، وبناء إمبراطوريات، وخداع العالم بأسره، والحصول على كلّ ما يريده في كلّ ظرف من الظروف” (الرواية: ص208-209).
وإذا علمنا أن في الرواية البوليسية لا يكون العالم مفسّرًا بشكل مسبق، فإننا نستطيع أن نفهم لماذا تشتبك السياسة ودسائسها وأحقادها بالحقل الأدبي وحروبه وصراعاته المحمومة من أجل امتلاك الرأسمال الرمزي والهيمنة، مما يضفي مزيد الالتباس والغموض على اللغة، ويكرّس عجزها عن قول كلّ شيء، وهو ما يحتم على الروائي لوران بيني ليس فقط أن يكون صاحب خيال طليق وجموح، وإنما أيضًا أن يكون بارتيًا، أي مطاردًا للعلامات الرابضة في كلّ الأمكنة والأزمنة، في المقدّس والمدنّس، في الأسطوري والدنيوي، في التاريخ ومكره، وفي المجتمعات السرية التي تقطّع الأصابع (مجتمع اللوغوس)، كي يتبيّن من ذلك كلّه أبعاد وأسرار العالم الذي يمثّله عبر اللغة.
بهذا المعنى تكون مغامرة الرّواية عند الروائي بيني مغامرة سيميولوجية، وتكون السيميولوجيا هي القوة المحرّكة لهذه المغامرة التي يخوض من خلالها المحققان بايارد والشاب هيرتزوغ، باحثين ومستكشفين ومستجوبين ورحّالين، حربًا بلا هوادة من أجل فكّ العلامات وَيَا مَا فيها، وتكليمها، سواء أتعلّق الأمر بالعلامات التي يولدها الحقل النقدي بتياراته المتصارعة ورموزه المتعددة، أو بالعلامات التي تنبعث من رحم ما هو خاص وحميمي، أو ما يَحرصُ البطل، والمقصود هنا بارت، على جعله بعيدًا عن فضول الغير، بما في ذلك صداقاته بكل من فيليب سولرس وجوليا كريستيفا وهنري برنار ليفي من جهة، وبميشيل فوكو من جهة أخرى، أو بعشيقه المغربي حامد الذي أسرّ له بنظريته عن الوظيفة السّابعة للغة، أو بسليمان المتعهد صديق حامد.
وإذ يسعى الروائي إلى الإمساك بخيوط العالم الذي يتحرك فيه بارت، وتلمّس المعالم المحدّدة لمحيطه، وتفكيك اللغز الذي ينطوي عليه المخطوط المفقود الذي يقتل النّاس من أجله، فإنه ينثر البياضات وضروب المسكوت عنه التي يظلّ معها الرّهان على الكفاءة التأويلية للقارئ حاسمًا. لكأن الرواية فيما هي تلاحق هواجس نقاد الطليعة في بلورة معرفة جديدة غير مسبوقة عن الأدب، تبدو كما لو أنها معنية بتقديم درس متفرّد ومهيب في القراءة والتأويل.
المخطوط المفقود الذي كان بحوزة بارت أثناء الغداء مع ميتران يعود للساني الرّوسي رومان جاكبسون الذي تحدث عن الوظائف الست للغة، أما مخطوط الوظيفة السابعة فلم يسبق نشره |
يشتغل الشّك بوصفه قوة فاعلة أساسية في سيرورة الأحداث وتطورها، وفي توالد المحكيات والمحطات السردية. فالغموض الذي ألقت به ردود بارت على أسئلة بايارد عندما كان يتلقى الإسعافات الأولية في المستشفى قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، ومناطق الظل التي ظلت رابضة بين طيات كلماته، والريبة التي ألقى بها فوكو وهو يحمّل المسؤولية في مقتله إلى مناهضي بارت وخصومه من رموز المؤسسة الأدبية التقليدية، لهو ما يمثل الشّرارة التي تقدح زناد السّرد، وتسند إرادة السّارد لفهم كلّ شيء، وتركيب كلّ شيء.
ولمّا كانت السمة الأساسية المميزة لهذا النص هي التعبير البليغ عما تزوّد به الرّوائي على مدى خمس سنوات من البحث والتوثيق عن عالم من شأنه إثارة فضول القارئ، فإن الرواية، من هذا المنظور، يبقى فهمها معلّقًا ما لم يمسك القارئ بالمفاتيح الأساسية لعالمها، والكيفية التي يتواصل بها هذا العالم مع غيره من العوالم الأخرى، كالموسيقى والإشهار والسينما وعالم السيارات.
وهو ما تسمحُ به اللغة في حدّ ذاتها بما يسكنها من ضروب الالتباس والغموض والتعدد واللانهائية، بالقدر نفسه الذي يتيحه كذلك الحقل الثقافي والنقدي خلال المرحلة الواقعة بين الستينيات والثمانينيات. وتعد المعركة بين القديم والحديث، بين السّوربون قلعة التاريخ الأدبي المحصنة ومهد مناهضي الحداثة- إذا استعرنا عنوان كتاب تلميذ بارت الناقد الفرنسي أنطون كومبانيون: “مناهضو الحداثة“- والنقاد الجدد الذين يتنفسون هوى ثورة 68، بين رولان بارت وريمون بيكار، من أكثر هذه المفاتيح فعّالية التي يمكن للقارئ أن يدرك بواسطتها المدى الذي تتعين فيه النظرية الأدبية بوصفها متورّطة في السّياسة حتى عندما تصرّ على أن تعرّف نفسها بعيدًا عن السياسة، أو بالضدّ منها.
إن أحد الأمور الأساسية المنتظرة من جاك بايارد، المسؤول رسميًا عن التحقق من ملابسات الحادث كما يقول السارد في مستهل الرواية هو “معرفة ما إذا كانت ثمة طريقة لتقويض مصداقية المرشح الاشتراكي من خلال النبش في سيرته وإذا لزم الأمر تدنيسها”
(الرواية: ص22). ولعلّ ما يسجّل للروائي أيضًا على النحو الذي يتبدّى من الطريقة أو الدرب الذي يسلكه المحقق لإعادة تركيب الأحداث، هو المماهاة بين المؤلف وعمله، بين أخلاق الكاتب وأخلاق العمل، ولفوكو مقال مهمّ يضيئ على جوانب أساسية من هذا الموضوع بعنوان: ما معنى المؤلّف؟[10]، لكأن رولان بيني يريد أن ينبّه على أمر أساس يغاير ما كان بمثابة المحور الذي يدور حوله عمل النقاد الجدد خلال الفترة البنيوية وما بعد البنيوية أي الاستقلالية الذاتية للعمل، ومفاده أن بارت ليس فقط هو المنظر الذي أعطى نظرية الأدب بعدًا عالميًا من خلال مجموعة من الأعمال التي أسست لمنعطف الحداثة النقدية،
وهو منعطف لساني كذلك، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وإنما هو أيضًا الإنسان الذي يتعذر الإمساك بمسيره، وفهم الأفكار والتصورات التي شكّلت هاجسًا بالنسبة له، والمؤلفين الذين كتب عنهم، دون الاهتمام بما هو خاصّ وحميم، بما في ذلك خجله وعلاقته بأمه، وحبّه لجوليا كريستيفا وصداقاته والفضاءات التي كان يرتادها، والكيفية التي كان يقبل بها على الحياة.
- 3. عمل السّرد
يأتي السّرد في الرواية بضمير الغائب، لكنّ هذا الخط الفني لا يعني أن العالم الروائي يقدّم من منظور سارد كلي المعرفة، لأن الإمكانات التي يستخدمها الكاتب متنوعة ومختلفة، والفرجات التي يفتحها لا نهائية ليس فقط من أجل دخول أصوات جديدة فضاء الرواية، وإنما أيضا للتفاعل مع العالم من خلال الخطابات والسّجلات التي تحقق ما يسميه ميخائيل باختين التعدّد اللغوي.
ومن المؤكّد أن النصّ عندما يَصيرُ بمثابة الحاضنة للرموز والخطابات وأنماط المعرفة المختلفة، فإنه يُتيحُ بهذا التركيب المعقد علاقة بالعالم لا يمكن فكّ تشفيرها إلا من منفذ اللغة. وعندما تتحدث هذه الرواية عن الوظيفة السابعة للغة، يكون لزامًا علينا أن نستعيد قولة دريدا “لا يوجد شيء خارج النص” التي صارت بمثابة البيان لمجموعة كاملة من نقاد ما بعد البنيوية، لا بمعنى أنه لا يوجد شيء اسمه “عالم حقيقي”، وإنما بمعنى أن لا سبيل للوصول إلى العالم الواقعي إلا من خلال اللغة التي هي جوهر الصّراع في هذه الرواية.
لنقل إن الوضعية المركزية التي يشغلها السارد في النّص لم تحل دون ولوج أصوات مختلفة عالم الرواية، أو أمام الطرائق الفنية التي يختبرها الكاتب لتعديد الرؤية والخطاب، بما في ذلك تعدد الشخصيات ولغاتها، والتداخل بين الأزمنة والتبئير من زوايا مختلفة.
وإذا تأملنا الشخصيات على سبيل المثال سنلاحظ أنّها تلعب دورًا محوريًا في دينامية السرد، سواء تعلّق الأمر بالمحققان جاك بايارد والباحث في اللسانيات سيمون هيرتزوغ حيث يفسح الحوار بينهما في مواقع مختلفة مجالًا لتقديم مجموعة من المعارف والأفكار والنصوص، خاصّة سيمون الذي يتيح قربه من رموز الحركة النقدية واللسانية في فرنسا في هذه المرحلة، فرصة ثمينة للإشارة إلى النصوص الأساسية التي صنعت العمل الذي ميز هذه الحقبة، مثل نصوص اللساني الروسي رومان جاكبسون، وتصوراته عن اللغة التي شكّلت مصدرًا إلهاميًا بالنسبة لبارت، وأيضًا أعمال الفيلسوف أوستن وتلميذه جوهان سيرل وأعمال دريدا.
أو تعلّق الأمر بالحوارات بين مثقفي فرنسا، وأيضًا المثقفين الذين هاجروا إلى باريس من قارات أخرى، خاصّة روسيا وبلغاريا، وكانوا في صميم الفعالية التي صنعت هذه الفورة. هنا تقدّم الرواية العديد من اللقاءات مثل اللقاء الذي تم في بيت سوليرس وكريستيفا، بعد وفاة بارت، وحضره كل من لاكان وألتوسير وبرنار هنري ليفي وزوجة ألتوسير، وناشر بارت ومثقفات من الصين وكوريا وأميركا، ما يتيح مجالًا واسعًا لتقريب القارئ ليس فقط من العلاقات الاجتماعية بين مكونات الطبقة الثقافية في هذه المرحلة؟
وإنما أيضًا من توتراتها وهمومها وانشغالاتها بالغزو الروسي لأفغانستان، والوضع في بولندا، وأيضًا بكرة القدم وبلاتيني ولاعب التنس بورغ، وبالحب والعلاقات واللذة. بالإضافة إلى اللقاءات التي تمت في الولايات المتحدة في جامعة كورنيل وجمعت رموز الفكر ما بعد البنيوي والفكر اللساني المعاصر من طراز نعوم تشومسكي، هيلين سيزو، جاك دريدا، ميشيل فوكو، فليكس غوتاري، لوسي إريغاري، رومان جاكبسون، فيريديريك جيمسون، جوليا كريستيفا، سيليفر لوترينغر، جان فرانسوا ليوتار، بول دي مان، جيفري ميلهمان، أفيتال رولين، ريتشارد رورتي، إدوارد سعيد، جوهان سورل، غاياتاري سبيفاك، موريس زاب…
ومن خلال المناقشات والحوارات واللقاءات الحميمية بين المثقفين، تفتح الرواية المجال واسعًا لتلمس واقع الحركة الثقافية في أميركا خلال الثمانينيات، والتيارات المتصارعة فيها، والمصادر الإلهامية التي تتم الإشارة إليها بطريقة شعائرية مثل المصدر الهايدغري الذي “ألهم هذا النمط من الفلاسفة ذوي الأسلوب الإشكالي، الفلاسفة المولعين بالتعابير الجديدة المعقدة، والاستدلال الغامض والتمثيلات العرجاء والاستعارات المفرطة التي يعدّ جاك دريدا الوريث لها“. (الرواية: ص255)
وثمّة استراتيجية سردية تثير الاعجاب في هذه الرواية، وتضيء على ما يمكن أن يستنتجه المرء من مجموعة واسعة من الأعمال النظرية المعاصرة التي تؤكد على الدور الحيوي لهذا الجنس الأدبي في إنتاج المعرفة وتقديمها باستخدام التمثيل، أقصد هنا المناظرات التي تتخلل الرواية، خاصّة تلك التي احتضنها المجتمع السرّي: نادي اللوغوس، ومن أشدّها التصاقًا بعالم الرواية وتأثيرًا في الدينامية التي يتميز بها، المناظرة التي جمعت في مسرح العنقاء سيمون هيرتزوغ بالسياسي النابولي وكان موضوعها الكلاسيكية والباروك، موضوع تاريخ الفن، وحضرها كل من سوليرس وكريستيفا وأمبرتو إيكو وانتهت بهزيمة السياسي الإيطالي وصعود سيمون المثقف اليساري نجما في نادي اللوغوس: “عندما التقيت بك، كنت جرذ المكتبات الغرّير، كنت تبدو صبيًا بكرًا، مملًا وثقيلًا، وانظر إلى نفسك الآن: ترتدي بدلة أنيقة، تلتقي بالفتيات، أنت النجم الصاعد في نادي اللوغوس“. (الرواية: ص375) والمناظرة التي أقيمت في المدينة ذاتها بين فيليب سوليرس والسيميولوجي الإيطالي أمبرتو إيكو في موضوع: On forcène doucement “نعنّف بلطف ورفق”، وكانت نتيجتها خسارة مكلفة جدًا لسوليرس، لأنه “أراد تخطي المراحل، ولم يشارك أبدًا في أي مناظرة وتحدّى مباشرة بروتاغوراس الأكبر“. (الرواية: 348)، فضلًا عن المناظرة بين جيسكار ديستان وميتران والتي كان تأثير الوظيفة السابعة للغة حاسمًا في نتيجتها المدوية لصالح ميتران، وانتقال السلطة إلى اليسار.
وما يتجلّى من خلال المناظرات هو عمل التناص الذي يمكن اعتباره من أكثر المكونات دلالة على قوة هذه الرواية، فكل شخصية من الشخصيات المعروفة في حقل الأدب مثل بارت أو كريستيفا أو فوكو، أو أمبرتو إيكو أو سوليرس أو جوديت باتلر…،
عندما يتكلّم كل واحد من هؤلاء، فإن ذلك يعني تكثيفًا هائلًا لمجموعة واسعة من الأعمال النظرية والنقدية الأشد التباسًا وغموضًا والتي يتطلب فهمها بذل جهد كبير. وهذا ما نجح الروائي في القيام به، حيث نلمس في ملفوظ الشخصية الروائية المتخيلة عملية تكثيف هائلة.
وبهذه الاستراتيجية ينشق صدر الرواية وعالمها أيضًا على أزمنة تعود إلى القرن الخامس عشر، حيث يحفر الروائي في تاريخ البندقية، ويستعرض ثقافته الواسعة وإلمامه العميق بالرموز والمنحوتات والأعمال الفنية الكبرى والتماثيل والقصور، ويتقرّى أسرار العمارة والأشكال الهندسية ووشائجها العميقة بتاريخ أوروبا منذ العصر الوسيط، مما يقدّم أوفى دليل ليس على قوة الحبكة الروائية والخيال الطليق الذي يرتب خطوطها الواسعة والعريضة وحسب، وإنما أيضًا على ما يصل رواية “الوظيفة السابعة” بتقليد ثيربانتيس وغوته ذي الإيحاءات الغنية التي لا تنضب.
- تركيب
يمكن أن نشير في الختام إلى نقطتين: أولًا: عندما يتذكّر القارئ قول ميلان كونديرا إن المعرفة هي أخلاقية الرّواية الحديثة[11]، يستطيع أن يتلمّس المدى الذي يتعين فيه هذا القول كمحدّد أساس لرواية “الوظيفة السّابعة”، التي تظهر بقوة أن المجتمع الديمقراطي الحقيقي لا أحد فيه محصّن من النقد، مهما اتخذ هذا النقد طابعًا هجائيًا وساخرًا كما هي الحال في هذه الرّواية بالنسبة لفوكو وكريستيفا وسوليرس ودريدا.
ثانيًا: تبقى هذه الرواية مثالًا مميزًا لما سمّاه إدوارد سعيد في قراءته لـ “موبي ديك” لملفل بـ”روايات السّعي” التي “يهدف كتابها بتصميم شديد إلى التعليم والرمز، والوعظ، والسخرية، والمفارقة، ويغصّ نسيجها وتمتلئ أحداثها بالمعلومات، والاقتباسات، والنصائح العملية (وغير العملية)، والمناقشات، وبذلك القدر من التعقيد الأسلوبي الجذّاب الذي ينمّي العقل”[12].
- مراجع:
[1] . لوران بيني: الوظيفة السابعة للغة من قتل رولان بارت؟، ترجمة محمد الجرطي، دار نابو، العراق 2021. صدرت الرواية في طبعتها الفرنسية عام 2015 ونالت جائزتين في السنة نفسها، جائزتا Fnac و interalliè.
[2] . Sociologias Jacques Leenhardt, Existence et objet de la sociologie littéraire, In Porto Alegre, ano 20, n. 48, maio-ago 2018, p.37.
[3] . إريك هوبزباوم: أزمنة متصدّعة: الثقافة والمجتمع في القرن العشرين، ترجمة سهام عبد السلام، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة 2015، ص18.
[4] . المرجع نفسه، ص32.
[5] . Fadma Ait Mous et Driss Ksikes, Bribes de mythologies Dialogue avec Abdessalam Benabdelali, in Le métier d’intellectuel, Editions En toutes lettres, Maroc 2014, p.141.
[6]. François Cusset , FENCH THEORY , Foucault, Derrida ; Deleuze, et Cie et les mutations de la vie intellectuelle aux Etats- Unis , Editions La Découverte, Paris2005.
[7]. Fadma Ait Mous et Driss Ksikes, op cit, p.131
[8] . زهير قوتال: المفهوم الفلسفي عند جيل دولوز، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة 2018، ص194.
[9] . المرجع نفسه، ص:118.
[10] . ميشيل فوكو: ما معنى المؤلف؟، في: القصة الرواية المؤلف: دراسات في نظرية الأنواع الأدبية المعاصرة، ترجمة وتقديم خيري دومة، دار شرقيات، القاهرة 1997، ص 199 وما بعدها.
[11] . ميلان كونديرا: فن الرواية، ترجمة بدر الدين عروكي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2001، ص9.
[12] . إدوارد سعيد: تأملات حول المنفى (2)، ترجمة محمد عصفور، دار الآداب، بيروت 2020، ص259-260.
ضفة ثالثة