السرد ما بعد الكلاسيكي.. جاذبية المفهوم
إذا كانت اللغة أداةَ التواصل اللساني مشافهة ومكاتبة؛ فإنها غدت في ظل الإنترنت وافتراضيةِ وسائطه الرقمية أداةً من مجموعة أدوات تساهم في توسيع هذا التوصيل الذي تجاوز اللغة إلى الصوت والصورة، كما لم تعد الترجمة عائقا في هذا السبيل.
وقد ثبت ذلك مع جائحة “كورونا” بشكل جلي أكثر من أيّ وقت مضى، وصار الإنترنت حياتنا، فلا نعرف معه مسافات أو أبعادا، ولا نشعر بفوارق التوقيت ليلا أو نهارا؛ فأقصى الشرق يتواصل بشكل آني مباشر مع أقصى الغرب متيحا للبشر التواصل مع القضايا التي تخص كل مجالاتهم ليتابعوها أولا بأول وبشكل مباشر ومستمر لا حاجة معه إلى أي وسيط غير إلكتروني.
وفي ظل الجائحة وضمن الاهتمامات بالإبداع والفكر صار الواحد منا أكثر اندماجا مع مجريات الساحة العربية والعالمية وما فيها من ندوات ومؤتمرات تقام عبر منصات افتراضية، يتم الإعلان عنها بوقت مناسب وبما يسمح للمتابع تنظيم وقته مواكبا أو منتقيا الأهم ومؤجلا المهم الذي يمكن متابعته في حين آخر.
ليس ذلك حسب؛ بل إعادته متى شاء والتدقيق في مسائله لا سيما إذا كان المتابع متخصصا في المجال نفسه الذي يتناوله المناقشون أو المحاضرون، مسجلا ملاحظاته ومدْليا بها، إما بشكل مباشر في وقت عرض المنصة أو بشكل غير مباشر بعد انتهائها.
وهذا العمل الافتراضي الرحب والممتد صار مصدرا للمعارف، فلا يحتاج بلوغها والتحصيل عليها جهدا، بيد أنه يتطلب تنظيما ووقتا يعرف الباحث كيف يتدبرهما.
ومنذ بدء جائحة كورونا أخذت منصات أكاديمية عربية ومواقع علمية تستقطب الباحثين وطلبة العلم وغيرهم من ذوي الميول والرغبة في متابعة مجريات المشهد الفكري والأدبي والعلمي العربي، لا سيما المنصات التابعة لمؤسسات ومراكز بحثية، وجرى ذلك بحثا عن الاستزادة علما ومعرفة.
ومن نلك المنصات منصة المركز العربي للأبحات ودراسة السياسات التي داومت على تقديم ندوات ومحاضرات تستضيف فيها مفكرين وباحثين ونقادا ليحاضروا في موضوعات بحثية إشكالية أو مستجدة، ويشترك فيها بالتعليق والمداخلة والتعقيب بعض المتخصصين من داخل المركز وخارجه إغناءً للمحاضرة وتعميقا لها.
ومن المحاضرات التي لفتت انتباهي إلى مسائل تحتاج تقديرا لحقيقتها وإلحاحا في التحري عنها ومعرفة مدى دقة طرحها أو موضوعية هذا الطرح، محاضرة د.سعيد يقطين وعنوانها (السرديات ما بعد الكلاسيكية.. واقع وآفاق) التي حاضر فيها بالمركز يوم 14 تشرين الأول 2020 وتداخل معه وعقّب عليه عدد من المنتسبين للمركز ومنهم د.أيمن الدسوقي ود.حيدر سعيد.
وقدّم مدير المنصة في بدء المحاضرة سيرة الناقد وما يحتلّه عربيا من مكانة مهمة، سواء في الكتب التي ألّفها أو الجوائز التي نالها بدءا من عام 1989 وانتهاء بآخر جائزة في عام 2016.
ونظرة فاحصة في المنجز النقدي ليقطين توضح دوره الرائد في تعريف النقد العربي ولا سيما المشرقي بالمدرسة الفرنسية من خلال ما ترجمه من نصوص منظّري هذه المدرسة الذين ما زالت بعض كتبهم إلى اليوم غير مترجمة إلى العربية.
ولأهمية ترجمات يقطين، نال كتاباه اللذان هما بمثابة كتاب واحد (“تحليل الخطاب الروائي”، و”انفتاح النص الروائي”) اهتماما كبيرا، وفيهما شكلت الترجمة الجزء الأغلب من المداخل وربما تجاوزتها إلى ما هو أكثر. ولو حذفنا الاقتباسات الترجمية من الكتابين لصارا كتيبا هو حصيلة الاشتغال التطبيقي الذي حلل فيه يقطين خمس روايات عربية معروفة، وفيها كشف عن مدى استيعابه للدرس السردي الفرنسي البنيوي وما بعد البنيوي.
وهذه الخدمة في الترجمة من الفرنسية إلى العربية كانت جليلة وما زالت، لكنها بالتأكيد ستكون أغنى وأكثر إفادة لو أن يقطين واصل الترجمة ووضع بين أيدينا كتبا كاملة لمنظّرين مثل “فايرنيش” و”زيما” و”ميشيل اريفي”.
وعلى الرغم من هذا الجهد الترجمي المحمود في نقل بعض طروحات المنظّرين الفرنسيين فإن الدقة والموضوعية كانتا هما المتوقعتان من باحث وناقد مثل سعيد يقطين يتحدث عن مفهوم جديد هو “السرد ما بعد الكلاسيكي” الذي حاول أحدهم في وقت قريب سابق تدليس حقيقته ناسباً إياه إلى نفسه.
وهذا التدليس دعاني إلى كتابة مقالين بهذا الخصوص الأول بعنوان “نظرية السرد وتداول مفاهيمها” (نُشر في 3 حزيران 2020)، وفيه عرّفت القارئ العربي بمفهوم “السرد ما بعد الكلاسيكي” وباسم مبتكره الأميركي “ديفيد هيرمان” وأشرت إلى كتبه التي ما زالت غير مترجمة لكنها متاحة وبإمكان الباحث العودة إليها لفهم المزيد عن تنظيرات “هيرما”ن الذي اشتغل لأكثر من عقدين من الزمان من أجل إنضاج مشروعه (السرد المعرفي).
أما مقالي الثاني “ديفيد هيرمان والسرد المعرفي” فقد نُشر في 9 حزيران 2020، وفيه وضّحت مشروع هيرمان وغايته من وراء إنشاء مدرسة أميركية تضاهي المدرسة الفرنسية. ولخطورة التدليس ومساوئه قمتُ بإدانة الطبع غير النقدي الذي بسببه يتمادى أحد النقاد على أفكار غيره فينسبها إلى نفسه مستغفلا القارئ ومتحايلا عليه.
صحيح أن هذا الاستغفال كان سيحقق لصاحبه شهرة ويحرز له مكانة كبيرة يوم لم يكن الإنترنت متاحا للجميع؛ بيد أنه اليوم مشاع ومتيسر إذ لا يكاد أحدهم ينفخ نفسه اعتدادا بعلم ليس له حتى ينكشف تدليسه وسطوه وتنعرف ألاعيبه متورطا أكاديميا ومزوغا علميا مغالطا نفسه قبل الآخرين.
وفي محاضرة يقطين الافتراضية على منصة المركز العربي للابحاث نجده يؤكد أن تطوير البحث الجامعي “لا يمكن أن يتم إلا بالانخراط في الفكر العالمي من أجل فهم ما جرى وما يجري مع الأخذ بالتراث النقدي العربي الذي لا يقل غنى في أهميته عن النقد الغربي”.
وحين دخل الى صلب الموضوع (وهو “السرد ما بعد الكلاسيكي”) توقعنا منه الموضوعية في التدليل على المصدر الذي منه استقى موضوع محاضرته إلى جانب الدقة في شرح المفهوم وهو يبحث “الواقع والآفاق” فيضع كل شيء في نصابه كي لا يُفهم الأمر وكأنه من عندياته استقصاء وبحثا.
ولأني أول مَن دلّل على المفهوم ونسبه إلى “ديفيد هيرمان” في مقالَيّ آنفي الذكر، كان الأَولى أن يشير الناقد إليهما وهما اللذان مكّناه من أن يجد مخرجا لحيرته وهو يبحث عن موضوع مستجد وطازج كنت قد استقصيته بنفسي وجمعت مادته وعرضتها بنكرانٍ للذات.
ويبدو أنّ جمعه السرد على (السرديات) وإضافة (ما بعد الكلاسيكية) إليها كادت تموه الأمر وتنفع في توجيه الأنظار إلى مسائل تعطيه الحق في التغاضي عن جهدنا لولا أنه ذكر “ديفيد هيرمان”. وهذا يعني أمرين :
الأول: يتعلق بمدى إدراك حيثيات المفهوم النظرية أو الأرضية الفكرية وأنه ليس مأسسة وإنما تداخل مع مجالات معرفية أخرى بطريقة تعاد فيها عقارب الساعة إلى الوراء، أي إلى ما لا يقل عن أربعين عاما حين ظهرت بوادر النظرية البنيوية ثم القيام بربطها بتطورات المرحلة اللاحقة في أواخر الستينات حين نشأت النظرية السردية وهو ما اعترض عليه الفرنسيون وفي مقدمتهم “جون بيير”.
الثاني: يتضح من معلومات المحاضر أنها ظلت في حدود ما كنت قد طرحته في مقالَيّ المنشورَين، فلم يضف إليهما جديدا، دائراً تارة في حدود الطرح النقدي المتعلق بالمابعديات المعروفة في النقد وتارة أخرى في حدود النقد العمومية كالقول بأهمية السرد في الحياة أو في حدود النصح والتوجيه بضرورة مأسسة السرديات كاختصاص في الجامعات العربية والتأسف على هذه الجامعات أنها تهتم بالسرديات الكلاسيكية وليس السرديات ما بعد الكلاسيكية.
ولو جمعنا الكلمات التي فيها تحدث الناقد مباشرة عن السرد ما بعد الكلاسيكي فلن تشكل سوى ربع المحاضرة بينما انصرفت ثلاثة أرباعها نحو السردية البنيوية التي هي مجال تخصصه وميدان عمله.
وكنا ننتظر من المحاضر أن يقدم معلومات جديدة حول “ديفيد هيرمان” وطروحاته المعرفية. ولا تخفى المغالاة في قوله إننا لو وضعنا في محركات البحث (post classical narration) لوجدنا “مئات الرسائل والأطاريح والمؤتمرات والكتب”. ولو كان المفهوم بهذه الشهرة فلماذا إذن احتار حتى وقعَ على هذا الموضوع الذي وجد فيه جدّةً وطازجية؟!
وإذا أضفنا إلى ما تقدم ما سماه “آفاق” ثم دفاعه عن كتابيه سابقي الذكر على أساس أنه منذ الثمانينات يعمل بشكل ضمني على هذا المفهوم فتلك مغالاة أكبر. فلو تفحصنا كتب يقطين الثلاثة التي ذكرها لما وجدنا اسم “هيرمان” ولا “السرد ما بعد الكلاسيكي” فيها إطلاقا.
إنّ تحرّي الموضوعية والدقة يجعل الناقد العربي في منأى عن وضع نفسه ومتلقّيه في زاوية حرجة وتورُّطية كالزاوية التي وضع يقطين نفسه فيها. والمؤلم أن نقدنا العربي في مشواره الذي تجاوز عشرة عقود ما زال يحمل تركة الأحادية المثبطة لجهود الآخرين.
د. نادية هناوي: ناقدة وأكاديمية من العراق.