سرديات

علمية السرد ما بعد الكلاسيكي

يذهب بعض النقاد إلى التعامل مع بعض المفاهيم بوصفها اصطلاحات، وبالعكس قد يتعاملون مع اصطلاحات قارة على أساس أنها مفاهيم يحق لهم التوسع، أو التقيد في تحديدها؛ بيد أن الأقسى هو أن يصل الأمر بالناقد إلى التمادي في التعامل معها، ناسباً إياها إلى نفسه بوصفه مجترحها من عندياته، متغاضياً عن ذكر أصحابها الأُول من المنظرين والنقاد، الذين دشنوها وهم ينتمون إلى مدارس فكرية وأدبية، انضووا تحت خيمتها ووفق توجهاتها صاغوا تلك المفاهيم والاصطلاحات ضمن نظرية أو علم ما.


وما يختبئ خلفه مثل هذا الناقد، هو التسلح بلغة الأنا الجمعي (حاولنا، رصدنا، حللنا) متحصلا عليه بين دفتي (تصورنا) أو الاتكال على الترجمة من لغة الآخر، التي يتقنها، معطياً لنفسه الحق في امتلاك خصوصية المفهوم الفكرية أو العلمية، متباهياً بعد ذلك بأنه صاحب الطرح، متجاهلا التأصيل التاريخي، وداعيا أبناء جلدته إلى اعتماد ما اجترحه (اختلسه) موجها الأنظار إليه كمفكر ومنظر، يصول اعتدادا ويجول امتدادا.


وبمرور الزمان فإن حدود التمادي وفذلكات ما يسمى (تصورنا) ستتعدى المفهوم أو الاصطلاح الواحد إلى عشرات غيرها ويصبح هذا الناقد هو وحده البارع صاحب المأسسة والتنظير والتطبيق، الذي لا يشق له غبار.


ومن المفاهيم التي يلحقها هذا التمادي في القفز على جهود أصحابها الحقيقيين ما أخذنا نلمسه مؤخرا مع مفهوم (السرد ما بعد الكلاسيكي Postclassical Narratology ) الذي بسببه كتبت مقالا سابقا تحت عنوان «نظرية السرد وتداول مفاهيمها»، وقد ختمته بإشارة تُوحي ولا تُسمي، تنبه إلى (إن محاولة الإيقاع بالقارئ في فخ الإيهام لا الإفهام، ممارسة ذميمة لا تمت إلى المصداقية المتوخاة من الباحث الرصين. أما المزاعم بالابتكار أو التلاعب اللفظي في الإيحاء بذلك، فهو لا يغني ولا يسمن من جوع، لأنه سينكشف عاجلا أو آجلا).


وهذا المفهوم نفسه هو مدار مقالي الحالي، الذي سأناقشه لا من زاوية التنبيه، وإنما من زاوية التعريف، كي تبين أبعاده للقارئ عاما أو متخصصا، ويكون على بينة حين يطرح هذا المفهوم من قبل ناقد ما، وكأنه من عنديات أفكاره وبنات ذهنه.

وبدءا أقول إن لفظة كلاسيك مأخوذة من كلاس class، التي هي اسم تعني صفا أو اسطولا، وبإضافة مقطع ic تتحول إلى اصطلاح يقصد به كل ما هو صفي أو مذهبي، وبه سُمي أول مذهب أدبي عرفته الحياة الأدبية الأوروبية. ولا تحتاج ترجمة هذه اللفظة إلى العربية أن نضيف إليها مقطع (ic) وانما فقط ياء النسبة فيكون (كلاسي) وليس (كلاسيكيا) بيد أن الصيغة الأخيرة هي التي شاعت في نقدنا وصار معتادا إطلاقها على كل ما هو نمطي وقواعدي، فنقول عن القصيدة العمودية مثلا، قصيدة كلاسيكية بوصفها تنتمي إلى القاعدة الماقبلية لكل قصيدة بعدية، أي تأتي بعدها وتكون غير كلاسيكية.


وإذا وصفنا السرد بأنه كلاسيكي فذلك يعني أنه سائر على قواعد ترسخت، حتى عرفها أهل الصنعة القصصية والروائية وداوموا على انتهاجها، بينما السرد الذي يكتب خارج مواضعاتها مختلفا مع قواعدها، فإنه سرد تجريبي يوصف عادة بأنه ما بعد كلاسيكي.

بيد أن هذا التمذهب النقدي في توصيف السرد بأنه كلاسيكي، وما بعد كلاسيكي تطور بشكل علمي ليصبح مفهوما ذا أرضية نظرية قائمة بذاتها دشنتها طروحات مفكرين ينتمون إلى المدرسة النقدية الأمريكية، التي بدأت ملامح نشوئها تتضح منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين، مع طروحات نورومان فريدمان وواين بوث وتشاتمان وجوناثان كولر ورامان سلدن، ثم توضحت على يد المنظر الأدبي ديفيد هيرمان، ومعه بعض المنظرين الألمان مثل مونيكا فلودرنك، مشكلين جبهة نظرية تريد الوقوف كتفا إلى كتف إزاء مدرسة أعرق منها، وأرسخ في التنظير للسرد وطرائق تحليله، والاصطلاح عليه وأعني بها المدرسة الفرنسية.


ولكل اجتراح مفاهيمي نظري صيغته القولية الخاصة، ومن ثم يكون السرد الكلاسيكي هو classical narratology وما بعده هو postclassical narratology . ولا خلاف في أن تلك الصيغة القولية هي قارة، مما يفرض علينا تداوله أو ترجمته بما هو أصوب وأقرب إليها. أما محاولة جمع (السرد ما بعد الكلاسيكي) على (سرديات ما بعد كلاسيكية) فإنه لا يعكس بغية الجامع في حرف المفهوم عمن اجترحه، ونسبته إلى نفسه مبشرا الثقافة العربية بالعموم، وداعيا وموجها النقاد بالخصوص إلى ضرورة الانتباه إلى ما عند الغرب من تنظيرات حول السرد الكلاسيكي وما بعد الكلاسيكي وحسب؛ وإنما تكشف أيضا عن خبط نظري وخلط منهجي بين ما هو علمي وما هو تاريخي.


والمتحصل ضياع جهود المؤصل الأصل من جهة، وتشتت القارئ العربي في إدراك حقيقة المفهوم الذي سيبدو وكأنه مفهومان: الأول نظر له ديفيد هيرمان، والثاني ينتظر من يؤسس له.

وللتوضيح نقول إن مفهوم السرد ما بعد الكلاسيكي، علم في السرد قائم بذاته، مضى أكثر من عشرين عاما على اجتراحه من قبل ديفيد هيرمان عام 1997 واضعا نظرية في تحليل السرد بالتعالق مع العقل، متجاوزا طرائق التحليل النصي، مما عرفت به مدرسة شيكاغو في النقد الأدبي ومركزية الاهتمام بالشعر عند نقاد المدرسة الأرسطية الجديدة.

وقد واصل هيرمان العمل على هذا المفهوم من خلال كتبه «العناصر الأساسية للسرد» 2009 و«موسوعة نظرية السرد» 2010 و«نشأة العقل: تمثيلات الوعي في الخطاب السردي» باللغة الإنكليزية 2011 الذي سيكون له تأثير في توطيد آفاق هذا العلم، وفيه تتوسع حدود السرد العقلي والاستراتيجيات المستخدمة لتمثيل العقول في القصص، عبر مجموعة متنوعة من الأساليب التحليلية التي تضيء تلك الاستراتيجيات.


ثم كتاب «فعالية الكتابة بطريقة جافا سلسلة تطوير البرامج الفعالة» 2013 و«حكاية القصص وعلوم العقل» 2013 و«العلاقات بين الإنسان والحيوان في أدب القرنين العشرين والحادي والعشرين دراسات في علاقة الحيوانات والأدب» 2016 و«رسوم الكارتون: عوالم قصصية متعددة الأنواع في السرد الغرافي» 2017. وفي عام 2019 كتب هيرمان روايته الأولى «فيلسوف القصص» وآخر كتبه هو (MOSS ) أو «الطحلب» 2020 وفيه درس الروائي الألماني كلاوس موديك مواليد 1951 المعروف باهتمامه بالموضوعات الألمانية الأمريكية ومن رواياته («موس» 1984 و«غروب الشمس» 2011.


من يريد تطوير أدواتنا المنهجية ورؤانا النقدية العربية، فعليه أن يتمثل هذه العلمية، لا أن ينكفيء بنا إلى التاريخ، متنكرا للتقدم الذي أحرزه نقدنا العربي على صعد الدراسة الأدبية الحداثية وما بعد الحداثية، زاعماً البحث عن مستقبل للسرد العربي.

وبهذه الكتب وطد ديفيد هيرمان السرد المعرفي، وعلم السرد ما بعد الكلاسيكي بين علوم الدراسات الإنسانية، حسب نقاد المدرسة الأمريكية ليكون عمله منعطفا من منعطفات النقد السردي، الذي يقوم على فكرة التعدد في التخصصات الثقافية والاجتماعية والسياسية والفلسفية والسبرانية وغيرها. ولا نريد الانتصار لمدرسة في السرد، أو الانحياز لها دون سواها؛ وإنما هي الموضوعية في تسمية الأشياء باسمائها، ونسبتها إلى أصحابها قطعا للطريق أمام أي محاولة لتزويغ حقيقة المفهوم ونسبته إلى غير مجترحه.

والفرق شاسع بين قصدية تداول مفهوم السرد ما بعد الكلاسيكي، كعلم له أصوله، وتداوله كتاريخ له مراحله التقليدية الماقبلية، وغير التقليدية الما بعدية، حيث المرحلة الأولى تبدأ من منتصف الستينيات إلى أوائل ثمانينيات القرن العشرين، وفيها كانت دراسة السرد كلاسيكية كمرحلة من مراحل الدراسة الأدبية المعنية بتحديد البنية والدلالة متجاوزة نظرية النثر، وبإمكان أي دارس تتبع هذه المرحلة.

ولعل الطريق يكون يسيرا إن رجع الدارس إلى أعداد مجلة «توصلات» الفرنسية منذ عام 1966 كونها قدمت دراسات نقدية كتبها أهم المنظرين الفرنسيين المعاصرين حول هيكيلة النص وتكوينيته ونصيته. وأما المرحلة التاريخية الثانية فعملت على تحويل الاهتمام النظري من النص إلى التناص وحاذى السرد السينما والموسيقى والمنطق، وعلم الأحياء، والبلاغة، وعلم النفس والفلسفة، وتنوعت نصوصه ما بين السرد الافتراضي الرقمي، ومحاكاة نموذج الذكاء الاصطناعي وما وراء القص والنصوص التشعبية السبرانية وغيرها.


وهذا التصور التاريخي للسرد تعاطيا مع كلاسيكيته وما بعد كلاسيكيته هو غيره التصور العلمي الذي وضعه هيرمان للسرد الكلاسيكي وما بعد الكلاسيكي، وفيهما وسع حدود الدراسة الانفتاحية، وكيفيات تهجين إنتاج السرد بوسائط معرفية عديدة، تجعل تمثيله جامعا لكل ما هو تاريخي أو نسوي أو رقمي أو معرفي أو طبيعي وغير طبيعي أو مادي أو جسدي.

وإذا كانت المدرسة الفرنسية قد جعلت دراسة السرد رباعية الأبعاد، متمثلة بـ(بنيوية جينيت وسيمائية بارت وشعرية تودوروف ومعهم تأويلية أمبرتو إيكو) فإن دراسات ليفي شتراوس ونعوم تشومسكي وكلود ريموند وسيمور تشاتمان وبيتر بروكس وجوناثان كلر وميك بال وسوزان لانسر وتوماس بافيل، جنبا إلى جنب دراسات ديفيد هيرمان، أعادت طرح قواعد علم السرد من جديد، موسعة آفاقه، فاتحة الباب لتعدد التخصصات في التحليل القصصي، فادخلت السرد في مجالات جديدة ثقافية ونسوية.

ومن يريد تطوير أدواتنا المنهجية ورؤانا النقدية العربية، فعليه أن يتمثل هذه العلمية، لا أن ينكفيء بنا إلى التاريخ، متنكرا للتقدم الذي أحرزه نقدنا العربي على صعد الدراسة الأدبية الحداثية وما بعد الحداثية، زاعماً البحث عن مستقبل للسرد العربي.

نادية هناوي

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى