التواصل السردي
مثلما يوجد، داخل الحكاية، وظيفة كبيرة للتبادل (المقسم بين مانح ومستفيد)، كذلك يكون المحكي، بوصفه موضوعاً، رهان تواصل معين: فهناك مرسل للمحكي، ومستقبل له. إننا نعرف أن (أنا و أنت je et tu) في التواصل اللغوي، يفترض أحدهما الآخر حكماً، وبالطريقة نفسها، لا يمكن أن يوجد حكاية من دون سارد، ومن دون مستمع (أو قارئ).
وربما يكون هذا لا معنى له، ومع ذلك، فهو غير مستغل بصورة كافية. من المؤكد أن المرسل قد درس بإسهاب (ندرس مؤلف الرواية من دون التساؤل إذا كان هو الراوي)، ولكن عندما ننتقل إلى القارئ، فإن النظرية الأدبية مقصرة جداً. في الواقع، لا تكمن المشكلة في استبطان دوافع السارد، ولا في الآثار التي يتركها السرد على القارئ؛ ولكنها تكمن في وصف القانون الذي يكون وفقه السارد والقارئ مدلولين في الحكاية كلها.
تبدو علامات السارد، من النظرة الأولى، أكثر وضوحاً، وأكثر عدداً من علامات القارئ (يستخدم المحكي تعبير أنا أكثر مما يستخدم تعبير أنت)؛ في الحقيقة، إن العلامات الثانية، أكثر مراوغة من الأولى؛ وهكذا، في كل مرة يتوقف فيها السارد عن التقديم، فإنه يعرض أحداثاً يعرفها جيداً ويجهلها القارئ، فإنه ينتج لنفسه، من خلال نقص دال، علامة قراءة، لأن إعطاء السارد لنفسه معلومة لا معنى لـه: كان ليو سيد هذا المكان، هذا ما تقولـه لنا رواية تقوم على الشخص الأول: هذه علامة للقارئ قريبة مما يسميها جاكبسون الوظيفة السباتية للتواصل. مع ذلك سنترك حالياً جانباً علامات الاستقبال، على أهميتها، بسبب نقص في الإحصاءات، من أجل أن نقول كلمة عن علامات السرد.
من هو الذي يعطي المحكي؟ يبدو أن هناك ثلاثة تصورات، مقدمة حتى الآن. يعتبر التصور الأول أن المحكي يصدر عن شخص (بالمعنى النفسي الكامل للتعبير)؛ ولهذا الشخص اسم، إنه المؤلف، الذي تتغير في داخله الشخصية باستمرار، مثلما يتغير فن فرد محدد بصورة كاملة، يأخذ بين وقت وآخر، القلم ليكتب قصة: المحكي (خاصة في الرواية) ليس، إذن، إلا تعبيراً عن “أنا” خارجية عنه.
يجعل التصور الثاني من السارد شكلاً من الوعي الكامل، غير الشخصي ظاهرياً، يعبر عن القصة من وجهة نظر أعلى، هي وجهة الذات الإلهية:50 السارد داخلي بالنسبة إلى شخصياته (لأنه يعرف كل ما يدور في دواخلهم)، وهو في الوقت نفسه، خارجي (لأنه لا يتطابق أبداً مع شخصية أكثر من غيرها).
التصور الثالث، وهو الأكثر حداثة (هنري جيمس، سارتر) ينص على أنه من واجب السارد أن يحصر حكايته ضمن الحدود التي تستطيع فيها الشخصيات متابعة الحكاية والتعرف عليها: كل شيء يجري كما لو أن كل شخصية كانت هي التي تعبر عن الحكاية.
هذه التصورات الثلاثة مزعجة أيضاً، إذ يبدو أنها ترى كلها، في السارد والشخصيات، أشخاصاً حقيقيين “أحياء” (ونحن نعرف القوة الدائمة لهذه الأسطورة الأدبية)، كما لو أن المحكي يتحدد في الأصل، بمستواه المرجعي (يتعلق الأمر أيضاً بتصورات واقعية). وعليه فإن السارد والشخصيات، من وجهة نظرنا على الأقل، هم أساساً، “كائنات على الورق”؛ لا يستطيع المؤلف “المادي” للسرد أن يذوب في سارد هذه الحكاية؛
إن علامات السارد ثابتة في الحكاية، ونتيجة لذلك، فهي قابلة تماماً لتحليل سيميائي؛ ولكن من أجل الإقرار بأن المؤلف نفسه (الذي يظهر عن نفسه، ويختبئ، أو يتوارى) هو الذي ينظم “العلامات” التي يوحي بها عمله، فإنه يجب افتراض علاقة علاماتية بين الشخص وبين لغته، تجعل من المؤلف كائناً كاملاً، ومن الحكاية التعبير الذرائعي لهذا الكمال: وهذا ما لا يستطيع التحليل البنيوي البت فيه: إن الذي يتحدث في الحكاية ليس هو الذي يكتب “في الحياة”، والذي يكتب ليس هو.